الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنهم يسرقون التاريخ

صبحي حديدي

2005 / 1 / 5
الادب والفن


في مطلع العام 2003 أصدر الأمريكي جوزيف برود كتاباً ذا عنوان لافت طويل فضفاض: "العراق الجديد: إعادة بناء البلد من أجل الشعب، والشرق الأوسط، والعالم". وعلى غلاف الكتاب، كما في موقعه على الإنترنيت، نقرأ ما يلي: "العراق في أذهان العديد من الأمريكيين مكافىء لصدّام حسين، وهذا انطباع يساعد في توطيده الساسة والصحافيون والأساطين. غير أنّ السجالات حول نظام صدّام طمست جزءاً حيوياً من الحكاية: الشعب العراقي نفسه (...) وفي هذا الكتاب يروي الخبير الشرق أوسطي جوزيف برود قصة هذا البلد بكلّ تقلّباتها، من ذكرات ماضيها البعيد وحتى الحقائق المؤلمة هذه الأيام، ويشرح كيف أنّ التزاماً كونياً بإعادة تجديد العراق سوف يجلب النفع لكلّ من يشارك في المشروع المطروح لإعادة بناء الدولة".
وفي وسع أيّ قارىء أن يتخيّل، مبتدئاً من ملحمية العنوان وزواياه المنفرجة أو من الحرارة الغنائية في كلمة الغلاف، أنّ الرجل شديد الإخلاص عظيم اللهفة بالغ الحرص على هذا المثلث المبجّل: العراق والشرق الأوسط والعالم... لولا أنه أسدى للمثلّث ذاته، ولكن للعراق بصفة خاصّة، خدمة لا تُقدّر بثمن: بعد أسابيع معدودات على صدور الكتاب، وفي 11 حزيران (يونيو)، ضبطته سلطات الجمارك الأمريكية في مطار كنيدي الدولي وهو يحمل في حقيبته مهرّبات غير عادية، تتألف من ثلاثة أختام عراقية من الرخام والمرمر، يبلغ عمرها 4000 سنة، مسروقة من المتحف الوطني العراقي!
بالطبع أنكر برود التهمة في حينه، ثمّ اضطرّ ــ بعد قرابة عام وتحت ضغط الأدلة الدامغة ــ إلى الاعتراف بالتهريب أمام المحكمة الفدرإلية في بروكلين. ولأنّ الاعتراف سيّد الأدلة كما تقول الشرائع، فإنّ في وسعنا الآن أن نفهم معنى حديثه عن "نفع" إعادة بناء العراق، وكذلك مغزى بعض تفاصيل سيرة الرجل، كما جاءت في موقع الكتاب: "ولد لأسرة عراقية ـ يهودية، ودرس لغات الشرق الأدنى في جامعة ييل، والعربية في برنستون. وهو طليق في العربية والفارسية والعبرية، ومستشار لدى الحكومة الأمريكية وبعض الشركات الكبرى حول الشرق الأوسط. ظهر في برنامج NBC s Today Show، وبرنامج CBS s Early Show، وهــو ضيف مـــألوف في أقــــنية CNBC وCNN وFox News وMSNBC".
مناسبة استعادة هذه الحكاية، التي لا تحتاج إلى أيّ تعليق كما نظنّ، هي أنها واحدة من عشرات الأقاصيص المشابهة المذهلة التي يرويها روجر أتوود في كتابه الجديد "سرقة التاريخ: غزاة القبور، المهرّبون، ونهب التاريخ القديم"، الذي صدر أواخر العام ولكنه قد يكون واحداً من أهمّ إصدارات 2004، الثقافية والسياسية والتاريخية قبل تلك المؤلفات التي تخصّ علم الآثار وحده. وبالطبع، الكتاب يبدأ من مآسي نهب العراق لأنها آخر ما حُرّر في هذه "الصناعة الثقيلة"، ولكنه يستعرض محطات أخرى في طول العالم وعرضه، كبرى وأساسية ولا تقلّ مأساوية وبشاعة.
والأنذال الحقيقيون في كتاب أتوود ليسوا حفّاري القبور، الذين غالباً يقومون بهذا العمل لأنه مصدر رزقهم الوحيد، بل أثرياء العالم من هواة جمع الآثار في متاحف خاصة، وبعض مسؤولي المتاحف العريقة الذين يقبلون حيازة القطع المهرّبة لإثراء متاحفهم، والتجّار الكبار الذين يديرون شبكات التهريب. وثمة "نظرية" متكاملة تفلسف هذه السرقة الفاضحة البيّنة، مفادها أنّ الآثار المسروقة الموجودة في متاحف بلدان متقدّمة (والمقصود في الغرب، حصراً ربما)، أو حتى في متاحف خاصة مغلقة إلا لنخبة النخبة، تظلّ في الحفظ والصون أفضل مّما تكون عليه حالها في بلدانها الأصلية.
ورغم أنّ النظرية تستهدي حقّاً لا يُراد منه إلا الباطل، فإنها زائفة عملياً ومرفوضة قانونياً وساقطة أخلاقياً... الأمر الذي لا يعني أنها لا تجد لها أصداء ذرائعية عند بعض المسؤولين الثقافيين في البلدان المنهوبة، ذات الأنظمة التي تعيش أصلاً على نهب الشعوب والأوطان (كما فعل، ذات يوم غير بعيد، مسؤول ثقافي مصري كبير في تبرير عدم مطالبة مصر باستعادة آثارها). ولا يعني، في سياقات مختلفة، أن لا تهتدي بالنظرية ذاتها شخصيات غربية رفيعة المقام، عُرفت عنها الأخلاق الثقافية الحميدة، بل والتقدّمية الثورية.
وشخصياً يحلو لي أن أسوق المثال التإلى الذي، للدهشة، أغفله أتوود. في عام 1923 كان الجندي الفرنسي الشاب أندريه مالرو، والذي سيكون له الشأن العإلى الذي نعرف في حياة فرنسا الثقافية، قد ضُبط وهو يستخدم منشاراً وإزميلاً وعتلة لانتزاع، ثمّ سرقة، سبعة تماثيل من معبد "بانتياي سري" في أنغكور، كمبوديا. هل كانت تلك نزوة شباب؟ كلا، للأسف! ففي كتابه "أصوات الصمت"، والذي صدر بعد 30 سنة على حادثة السرقة، بشّر مالرو بمفهومه عن متحف متخيَّل متعدد الثقافات تحتضنه فرنسا، وما كان له في واقع الأمر أن يكون سوى صيغة إضافية لإشباع نهم المركزية الأوروبية حول الذات.
نعرف، إذاً، أنّ جوزيف برود لن يكون الأخير، لا بدليل آخر سوى أنّ لوائح الماضي حافلة بأسماء سابقيه... الأعظم منه شأناً!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لما تعزم الكراش على سينما الصبح ??


.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة




.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?