الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نماذج من المسرح الروسي- رابعا: المسرح التراجيدي: صراع الحق والاستبداد في انتغونا سوفوكليس على المسرح الروسي د. ابتسام الأسعد

ابتسام يحيى الأسعد

2012 / 1 / 27
الادب والفن


نماذج من المسرح الروسي

رابعا: المسرح التراجيدي


صراع الحق والاستبداد في انتغونا سوفوكليس على المسرح الروسي


اختار المخرج الروسي (يوري لوبيموف) مسرحية (انتغونا)، ليقدمها على مسرح موسكو في "تاغانكا"، في محاولة لمد الجسور بين الواقع المعاصر والارث الانساني العالمي، الذي فيما يبدو انه وان قدم بشكل جديد، الا انه لا يبتعد عن القضايا الفلسفية والاجتماعية، التي شكلت هاجسا انسانيا على مر العصور. فانتغونا لسوفوكليس مسرحية لا تطرح قضية فردية محددة، و"لا خاصية اخلاقية معينة، بل تحولات العالم وتقلباته" . وهو ما امتازت به التراجيديا اليونانية.

تقوم فكرة المسرحية على الصراع القائم بين قانونين احدهما سماوي يمثله الحق والناموس والضمير، والآخر ارضي فرضته القوى المسيطرة. ففكرة الحق هنا تمثلها انتغونا، وهو امر رباني يتجسد في ان للميت الحق في الدفن وفق طقوس كاملة، والا بقيت روحه هائمة لاقرار لها. والقانون الارضي يمثله (كريون) الذي استولى على حكم طيبة بعد ان فقأ (اوديب) عينيه وهجر المدينة، اثر تحقق النبؤة بقتله اباه وزواجه من امه، وتنازع الولدان على السلطة وقتل احدهما للآخر، فدفن المعتدى عليه لكونه الملك الذي دافع عن بلده، واعتبر الآخر معتديا، لذك حكم (كريون) بعدم دفن جثته وتركها تتآكلها الطيور والوحوش. وهو ما حفز الضمير لدى انتغونا وقررت معارضة هذا القانون الظالم. ومرة اخرى، بعد والدها اوديب، تقرر مواجهة القدر، الذي يشير الى حتمية موتها، والقدر هنا مرتبط بالسطوة والجبروت والاستبداد، الذي يقف على قمته (كريون). ان تطور الصراع في المسرحية لاحقا يرتبط بتحالفات بين طرفيه كي يزيد من توتره وصولا الى ذروة العمل الدرامي. هنا برزت الضرورة الى وجود الطرف المساند لـ(انتغونا) ذا صلة قربى بالملك (ابنه الذي تربطه علاقة حب بـ(انتغونا)). هذا الامر جعل الصراع ياخذ ابعادا اكثر عمقا، واصبح للتأويل معنى آخر، فاختيار سوفوكليس لـ(هيمون) ابن كريون يحمل دلالة مزدوجة، الاولى تعزيز فكرة الاستبداد التي يمثلها الوالد، كون ابنه رفض قراره وابتعد ليكون الى جانب تمرد (انتغونا)، والثاني يدحض مقولة ان الابن امتداد لابيه، بمعنى آخر ان الاستبداد لا يولد مثيله، وان قيم الحق والعدل هي التي يجب ان تكون في مواجهته، حتى وان تطلب الامر تضحية بالنفس، الامر الذي جسده المخرج في اختياره للون الاسود في زي (هيمون)، بينما جعله يرتدي قبعة بيضاء شبيه بتلك التي ترتديها (انتغونا) و(اسمينا)، محملا اياه دلالة على ان انتمائه البايولوجي لوالده، لكنه فكريا ينحاز الى قناعات مخالفة.
ان هذ الصراع القائم على هذه المفاهيم لم يقتصر على الحقبة التي عاصرها (سوفوكليس)، بل انها سبقته منذ بدأ الخليقة، وما زالت الامثلة على ذلك تتكرر وتتوالى حتى عصرنا هذا، وهناك الكثير من الشواهد المعاصرة على ذلك. وما يحدث الآن في عالمنا العربي من انتفاضات وثورات يعد احد نماذجها الاكثر حداثة. لذلك تعتبر فكرة هذه المسرحية باختلاف طريقة تناولها وتأويلها تجسيدا للقلق الانساني الكوني في رفضه للقهر والظلم وديكتاتورية القوانين والقرارات، التي تمارسها القوى المسيطرة على الشعوب المقهورة، وهي قضايا ما زالت تشكل موضوعات خصبة تتناولها الفلسفة والعلوم الاجتماعية والفنون.

ان مسألة تحقيق العدالة الاجتماعية التي تشكل جوهر الصراع بين (كريون) و(انتغونا)، ارادها (لوبيموف) قضية كونية، لذلك استعان بادوات تقنية تجسد عالمية رؤيته، فقد ادخل في النص الادبي (نشيد الاناشيد) من الكتاب المقدس، واستعان بالملحن الروسي (فلاديمير مارتينوف) لوضع موسيقى معبرة تساند كل مشهد من المشاهد وبما يتوافق مع الاحداث الدرامية. كما صممت الازياء بطريقة معقدة حاول المصمم اضفاء زمان ومكان المسرحية عليها. واستخدم لونين متضادين هما الاسود والابيض في الازياء فالبس ( كريون) الاسود، بينما كان جميع الممثلين والجوقة التي تمثل الشعب يرتدون الأبيض، وهو ما يدعم فكرة الصراع دراميا. كما جاءت حركة الممثلين الديناميكية والرقصات التي تخللت العرض، تعزيزا للرؤية الاخراجية. وقد جمع المخرج جميع عناصر العرض وآلف بينها لتعطي العرض دفقا من الاحاسيس الفياضة المعبرة على امتداد فترة العرض، جعل فيها المشاهد اسيرا للاحداث متفاعلا معها.

امتازت التكونيات في عرض انتغونا بنحتيتها، اذ حرص المخرج على جعل حركة الممثلين والجوقة باشكال نحتية بارزة، وكان لاستخدامه الاسود والابيض دورا فاعلاا في ابراز نحتية تشكيلاته، وهو ما دعم الفكرة الاساسية للعرض بتقديم هذين اللونين المتضادين تحقيقا للصراع القائم بين الخير والشر، وبالتالي ابراز فكرة الحق. كما نجح المخرج في سيطرته على العدد الكبير للشخوص على خشبة المسرح، حيث وزع الممثلين والجوقة وفق ميزانستين مسرحي، وكانهم لوحة نحتية بارزة تنوعت تشكيلاتها.


لم يميز المخرج بين (انتغونا) واختها (اسمينا) في زيهما الابيض ومكياجهما ولباس رأسهما البيضاوي الشكل الذي جعله من مادة الجص كي يبرز نحتيته للشخصيتين، ربما هو اراد ان يجمعهما في روح انسانية واحدة تتنازع فيها المواقف المختلفة وان توحدت المشاعر، ولعل قصدية المخرج تتجسد باعتبارها الذات الاخرى النقيض لـ(انتغونا)، بسلبيتها وسكونيتها وضعفها ورفضها لتحدي القانون، لقناعتها ان في ذلك خروجا على العدالة، الذي يوصل صاحبه الى الهلاك. في حين ان (انتغونا) كانت تمتلك سمات شخصية اختها، لكن قرار (كريون) بالامتناع عن دفن جثة اخيها، كان مؤشرا على التحول الذي طرأ على هذه الشخصية لحظة تمردها، وهو ما شكل حافزا لتحولات وتبدلات في شخصيتها قادت لتمردها، واعطاها قدرة على المواجهة، والتضحية بنفسها في سبيل السعي لتحقيق مبدأ العدالة مقابل الاستبداد والظلم. وبذلك تكون قد انتقلت من كونها شخصية فردية لتمثل موقعا اجتماعيا معارضا، وبالتالي الدخول في عملية المواجهة والصراع. ان المخرج لم يظهر عملية التحول في شخصية بطلتنا في تغيير زيها او مكياجها، انما اكتفى بوسائل الممثلة التعبيرية، التي حاولت جهدا طيبا في ابراز هذا الجانب من الشخصية، غير ان تناقض ظهر في اختيار الممثلتين، فكانت الممثلة التي أدت شخصية (انتغونا) ضئيلة الجسم، ويطغي عليها مزاج عصبي، بينما اتسمت اختها ببنية متناسقة طويلة، اكثر توازنا واتزانا من (انتغونا)، جعلتنا نتسائل ان كانت قصدية المخرج اظهار فعل انتغونا وموقفها مبني على حالة عاطفية، وليس بناءا على موقف عقلاني يتطلبه منطق الحق والفضيلة، وهو امر نعتقد ان المخرج اما ان يكون قد اخطأ في تأويله أو انه لم يوفق في اختياره، ونرى انه لو استبدل توزيع دور كل منها مكان الاخرى، لكان اعطى للعمل توازنا اكبر.

حافظ المخرج في نص العرض على الوظيفة التي اختارها (سوفوكليس) للجوقة، فقد مثلت رأي الشعب، واراد لها ان تكون محايدة، لخص مهمتها بابداء النصح لكل من طرفي الصراع، غير انه وحد لون ازياء الجوقة مع انتغونا على الضد من اللون الاسود في ملابس (كريون)، وهنا وقع في تناقض تأويلي، فلو انه اختار اللون الرمادي مثلا للجوقة، على اعتبار انه مزيج من هذين اللونين المتضادين، لكان قد خدم فكرته في حيادية الجوقة، محققا الوظيفة الاساسية لها في المسرح الاغريقي من حيث انها لا تعطي رأيا واضحا في الاحداث، لكن والامر كذلك اعطى انطباع لدى المشاهد بانها في صف (انتغونا)، صادما المتلقي بعدم مساندتها لانتغونا في موقفها. كما ان المخرج في هذا الصدد اخفق في عكس فكرة العمل على الواقع الحالي، فالشعوب المعاصرة اختبرت الديمقراطية، وباتت اكثر وعيا في المطالبة بتحقيقها بكل بقاع الارض، ولذلك لم تعد هذه الشعوب القوة الثالثة التي تهتم بتهدئة الصراعات، بل انها تحولت لتشارك بشكل فعلي في الاحداث ولا تتوانى عن تقديم التضحيات.


قدم (لوبيموف) العرض على مسرح العلبة الايطالي، وجعل القاعة مظلمة، واراد ان يضفي نوعا من القدسية على فضاء المسرح من خلال شطره لفضاء المسرح الى منطقتين بما يشبه السور، اذ وضع فيه الواح زجاجية معتمة يدور كل منها حول محور، يحركه الممثلين طول فترة العرض اثناء دخولهم او خروجهم من خلالها، دلالة على عجلة القدر الدائرة رغما عن كل شيء، لندرك ان كل المحاولات لايقافه او تغيير مساره فاشلة حتى وان اتفق الجميع على ضرورتها. وهنا مؤشر على فكرة حاول المخرج ترجمتها في سينوغرافيا العرض، تفيد بان القدرية هي القانون المحرك للكون، اذ ان القدر مشيئة ربانية في كل الاديان، والموت والحياة قدرين لا يمكن ان يغيرهما الانسان، والمخرج هنا لم يرد تغيير الفكرة، لأنها فكرة ايمانية، والمؤمن يرى ان مصيره محتوم من الولادة الى الموت.

جعل المخرج المتلقي منفصلا عن الحدث بواسطة عزله مكانيا عما يجري على الخشبة، بالاضافة الى اطفاءه لانوار الصالة، مما يوفر من امكانية مراقبته للحدث وتفاعله معه اثناء اداء الممثلين الذي امتاز بالاندماج، والذي يقود للتطهير، وليس للتأمل والتفكير. لقد مزج المخرج الروسي في عرض (انتغونا) عدة اساليب مسرحية، فبالاضافة الى اعتماده اسلوب ستانسلافسكي في اعداد ممثليه، اعتمد طريقة المخرج الكسندر تايروف في تقديمه لمسرحيات من الميثولوجيا اليونانية، حيث برزت بعض الغرابة في استخدام بعض الاكسسوارات، مثل مصباح زيتي على شكل يد، وجعل من علب البيرة الصغيرة الفارغة خوذة للحارس، تاركا فسحة للتأويلات عن جدوى استعماله.

في نهاية المطاف يمكن القول ان (لوبيموف) في عرضه الذي قدمه لمدة ساعة وربع، ملأ الخشبة بلوحات بصرية تشكيلة، جعلته يتربع على قمة العروض الروسية التي لا تمحى بسهولة من الذاكرة لغنى عناصره وابداع تجسيداته تمثيلا واخراجا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سكرين شوت | صناعة الموسيقى لا تتطلب آلات فقط بل أيضاً إحساس.


.. أول ظهور لفنان العرب محمد عبده بعد إعلان إصابته بالسرطان




.. «جمع ماشية ورحيم ومرادف البؤس».. أسئلة أثارت جدلًا في امتحان


.. تششيع جنازة والدة الفنان كريم عبد العزيز




.. تشييع جثمان والدة الفنان كريم عبد العزيز.. وتعديل موعد العزا