الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة / التحدي

نهاد عبد الستار رشيد

2012 / 1 / 29
الادب والفن





مع توهج الشفق في الأفق البعيد ، واقتراب الغسق الدامي ، ازمهر ذلك اليوم الشتوي ، وبلغ البرد حدا لا يطاق . شرعت امي باضرام النار في المجمرة ، وراحت تهيىء العشاء لنا وللقابلة التي جاءت مع اطفالها الثلاثة لتوليد زوجتي بعد أن شرعت تتحسس آلام المخاض ... ما ان اغدودق الليل حتى بدأت امي بوضع أطباق العشاء على المائدة ، وابريق الشاي على المجمرة . نفخت النار ، وتحلق الجميع حول المائدة عدا زوجتي التي ظلت راقدة في فراشها فأرسلت اليها بعض الطعام . قرّبت امي ابريق لبن الشنين من القابلة البهية الطلعة ، والموفورة النشاط ، وقد جمعت شعرها وعقدته في قفاها ، بينما حبت امي الى الخمسين عاما ، وهدها الألم المتواصل ومعاناة الحروب التي فرضت على العراق منذ تأميم نفطه ، حتى لم تعد تقوى على تدبير شؤون البيت كما ينبغي .
شرعت أنا في تقليب سقود اللحم المشوي فوق المجمرة . اندمجت امي والقابلة في حديث عن الولادة المرتقبة والأسم المقترح للمولود الجديد بينما انهمك الأطفال في تناول الطعام . في هذه الأثناء ، وعلى نحو مفاجىء ، صاحت زوجتي بصوت خفيض :
_ اسمعوا ... انها اصوات الطائرات تعود من جديد .
توقفت امي عن ارتشاف الشاي ، وخيم صمت مطبق . استيقظ الخوف والهلع في النفوس من جديد ، وازدادت خفقات القلوب سرعة . أسدلت ستارة النافذة باحكام ، خفضت ضوء الفانوس المعلق ، فتحركت الظلال وارتجت تبعا لأهتزازات الفانوس . بدأت الطائرات الأمريكية تحوم في سماء مدينة الحلة الغارقة في ظلام دامس . أحاط ألاطفال بامهم ، وارتسمت على وجوههم علامات الفزع والأضطراب . بدأت امي تقرأ بصوت مسموع شيئا من الآيات القرآنية ، ورفعت القابلة يديها نحو السماء مرددة ، بصوت خفيض ، بعض الأدعية مما زاد في هلع الأطفال الذين انخرطوا في بكاء خافت يائس . القت علي زوجتي نظرة ذاهلة وجلة ثم قالت بصوت مرتجف :
_ انها تحوم فوق منازلنا تماما ، وسوف تلقي حمولتها من الصواريخ علينا .
جهش أحد ألأطفال الى امه وجشأت نفسه واكفهر وجهه ، فأتاع ما أكله ، وحاولت عبثا بث روح الطمأنينة في نفوسهم . رهطت لقمتي وازدردتها . انتابني شيء كثير من القلق على زوجتي التي راحت تحدق في وجهي بعينين مرعوبتين ، وفي غمرة ذعرها ، انخرطت في البكاء والشهيق وهي تردد بفزع :
_ انه الموت ! الموت قادم لا محال . سيموت ولدي !!
استولى على الجميع خوف تقبضت له الصدور ، حتى اذا انقضت دقائق معدودات تناءت اصوات الطائرات المنسحبة ، فتنفسوا الصعداء ، لكني كنت اميل الى الأعتقاد بأنها جاءت لتصوير أهدافها المدنية في الأحياء السكنية التي لم يتم قصفها بعد ، ولسوف تعود بعد حين وتلقي بحممها فوق البيوت ألآمنة كدأبها في المرات السابقة .

انتهت امي من قرآءة آيات من القرآن الكريم وأردفت تقول بصوت واثق :
_ ان ألآيات القرآنية أغشت على ابصارهم فعادوا خائبين .
جلست زوجتي على سريرها ، بعد أن سئمت من الأضطجاع المتواصل . حاولت تهدئة خواطرها وتقوية عزيمتها بملاطفتها ومداعبتها فخبت حدة غضبها ، وارتسمت على وجهها الشاحب ابتسامة مضطربة وحزينة , بينما راحت امي تقص على الأطفال قصصا من التراث لتسليتهم ولكي تقضي جزءا من الليل الطويل الثقيل الوطأة ، الذي يبدو كالكابوس الجاثم على الصدور .
ما أن تمضي ساعتان حتى يأخذ الكرى بعيون ألأطفال ، فأنامتهم امهم وأضطجعت بجانبهم ، وذهبت أنا الى فراشي ، لأخلد قليلا الى الراحة .
في الهزيع الأخير من الليل ، دوّت صرخة حادة أطلقتها زوجتي وهي تعاني من وطأة آلآم المخاض المبرحة ، فأستيقظ الجميع . شاهدت القابلة الى جانب زوجتي تتولى رعايتها ، فلم يكن بميسوري أن أحبس دموعي التي فاضت وسالت تلقائيا فيما انتابني شعور بالبهجة والحبور ، وأحسست برعشة الفرح تسري في كياني وتغمر قلبي ، وبلذة جديدة لم يكن لي عهد بها من قبل . شعرت وكأن صفحة جديدة من الحياة الهانئة انفتحت امامي بعد حالات الأجهاض التي اصابت زوجتي سابقا . ولما لم يكن في وسعي الصبر أكثر من ذلك على ما تقاسيه زوجتي من آلآم المخاض ، خرجت الى غرفة المعيشة التي كان الظلام يلفها مع بقية أجزاء البيت ، ورحت انقل الخطى في أناة واحتراس . شعلت سيجارة فتبينت طريقي في ضوء عود الثقاب . جلست على أريكة قريبة وكنت ، حينئذ ، أشعر في قرارة نفسي بحاجة ماسة الى الأختلاء ، فشرعت أبحث في ذاكرتي عن أجمل الأسماء للمولود القادم .
قبل انبلاج الفجر ، بينما كنت مستغرقا في التأمل ، طرق سمعي أزيز الطائرات الأمريكية التي بدأت تقترب وتحوم في سماء مدينتنا الآمنة . دخلت مسرعا الى غرفة النوم ، طالبا منهم التحلي بالصبر والأيمان لكني ، في الواقع ، لم أستطع اخفاء ارتباكي واضطرابي . هرع الأطفال الى امهم وكان الهلع قد جمّد الدم في عروقهم ، وانتحب صغيرهم ، وحاولت تهدئتهم مقدما بعض دلائل الطمأنينة ، وكنت أنجح ، الى حد ما ، في ازالة علامات الفزع المرتسمة على وجوههم لولا سماع دوي انفجار بعيد ، فتجهمت وجوههم وانخرطوا في بكاء حاد ... وأطلقت زوجتي صيحات هستيرية ، بينما تبكمت امي ، وراحت تدمدم وقد أرتعدت فرائصها ارتعادا شديدا .
في غمرة هذه اللحظات المليئة بالتوتر والفزع ، لحظات الصراع من أجل البقاء ، يفقد الأنسان ، أحيانا ، قدرته في التحكم بمشاعره وسلوكه ، فانفجرت في داخلي براكين الغيظ والغضب على هؤلاء الأرهابيين أدعياء التحضر ، وفيما كنت احاول أن أشفي غليلي ، غمر ضوء أبيض ، تدفق عبر زجاج النوافذ ، أرجاء البيت كله ، ثم سمعنا دوي انفجار هائل اهتزت له الأرض هزا ، وأقتلع أبواب البيت والنوافذ ، فأرتفع نحيب الأطفال وجلا ، وتعالت صرخات زوجتي وتساجمت دموعها .
أصخت السمع من خلال فرجة الباب الى اصوات الطائرات المنسحبة التي امتزجت مع نحيب الأطفال الثلاثة وبكاء طفل رابع ، يدخل معترك الحياة والتحدي للوهلة الأولى . أرتفعت زغاريد القابلة ، وضحك ألأطفال وهم يتهامسون ويتدافعون لرؤية الوليد .

نهادعبد السار رشيد / الحلة 1999








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??