الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المأزوم .. قصة قصيرة

أحمد فيصل البكل

2012 / 1 / 31
الادب والفن


غيومُ منسوجةُ بإتقان تطوّق جسداً أنثوياً ممشوق القامة لتستر مفاتنه . سحائِب بديعة الهيئة والتكوين تتكاثف متراصّة ومرتسمة على صفحة السماء المنبسطة في إمتداد إلى حيث لا يدرك احداً ، تحوم على جنباتها وتتمايل جيئة وذهاباً في رباطٍ وائتلاف كحشد من حسناواتٍ غنجاوات .
فضاءُ فسيح مترامي الأطراف ، يكاد يبدو وقد إكتساه الأفول وإكتسح قسماته .
في الأفق أجواء مأزومة لا تكاد تجد فكاكاً بين أطراف السكون الغلاظ ، وأنواء مشحونة بالتلبّد .
يُخيّل إلى المرء بين الفينة والآخرى أن ثمة وميضاً يشيع ويفيض حرارة يُبعث مخترقاً أستار الصقيع المنسدلة .
خارج محطة السكة الحديد يجلس ( الإسكافي ) ذو القوام الضئيل بساقِ يمنى ممدّدة ، وآخرى منثنية ، متدثّراً بمعطفه المهترىء المنسابة أطرافه على الرصيف ، ممسكاً بأنامله الغليظة طلاء الأحذية الذى كُتب عليه " يجدد حيوية الشمواة والنيوبك ويحافظ على ألوانه " ، وبيسراه يحاول تثبيت الحذاء البنى عساه يعيد اليه لمعانه وحيويته في أعقاب أيام العمل المنهكة . وبينما كان يحملق إلى أسفل بعينيه الشاحبتين ومحيّاه الذى تعلوه البثور كان يقف على مقربة منه رجلاً ممتد القامة ، له منكبين متباعدين ، مرتدياً حُلّة صافية الزُرقة . وكان ينفّث الدخان رافعاً هامته لأعلى .
داخل محطة السكة الحديد تتقدّم ثمانية عربات متصلة وتبطىء على مهل . على رصيف الإنتظار يقف منتصباً على ساقيه النحيلتين ، عاقداً كفّيه ، حاكّاً أنفه المدبب بين الحين والآخر ، موظّفاً يبدو في نحو الأربعين من عمره ، وإلى جانبه يقف رجلاً قد إستبدت به السمنة ، منحنياً إلى الأمام في تقوّس ، متكئاً بيدين قد أتى عليها الوهَن على عصا خشبى ، متأطئاً رأسه المغطّى بخصل شيباء ملتوية مجعّدة ، وقد تبدّت على أساريره إمارات الكهولة .
الصخب الناتج بفعل إحتكاك العجلات بالقضبان ، أزيز الزجاج الذى يطنّ بآذان الحضور ، والحركة المنتظمة للمُمسَكات البلاستيكية المُعلّقة المتخذة شكلاً دائرياً ، كل ذاك لم يثنى الموظّف ذو الأنف المدبب عن التهيؤ لجلسة يبدو بها على جانب كبير من الإسترخاء بمجرد أن إعتدل فوق المقعد الممتد المصنوع من البلاستيك ، ولكنه سرعان ما تراجع في الآن ذاته حين تذكّر ثقوب جواربه التي ستبرز حالما تعتلى ساقاً الآخرى .
عقارب الساعة اليدوية تتهادى قبل أن تشير الى الثالثة إلّا عشر دقائق إيذاناً بمشهد يحوى عربة مكتظّة الجنبات ، وأنفاساً حارّة يكاد يُسمع رنين تلاطمها وكأنها نُفثت متصاعدة من عشرات الأنوف المتبارية .
بمحازاة الموظّف يستوى فوق مقعده رجلاً يبدو ثلاثينياً ، له ساقين ممتلئتين ، وشارب كث متهدّلة أطرافه حتى لتكاد تلامس شفته السفلى المكتنزة ، وله فضلاً عن ذلك وجهاً شبه دائرياً ، ووجنتان غائرتان يبدوان وقد إجتاحهما الشحوب .
يجلس ذاك الرجل باسطاً ساعديه أمامه ، مستقبلاً كل راكب جديد فضلاً عن اولئك الذين إستووا فوق مقاعدهم بمحيّا تعلو ملامحه وتكتسح قسماته بسمة عريضة . إنه ينتزع القبول قسراً ويستلبه من الجميع إستلاباً ، وهو القبول الذى يتمثّل لديه في الشفاه المنفرجة وهى تتمتم فى همس ليس من الوضوح في شيء ، ولا يكاد احداً يدرك إن كان ذاك في إغتباط حقاً ، أم أنه ليس سوى رد فعل لا إرادى تفرضه قواعد اللياقة الإجتماعية !
يلج العربة بالمحطة التالية عبر الباب الذى يتوسّطها رجلاً ممتد القامة ، حسن الهندام ، عابثاً بيمناه برباط العنق القاتم المنبسط فوق قميصه الأبيض الذى تعلوه حُلّة سوداء تتخللها خيوط رمادية رفيعة . وما أن ولج ذاك الرجل ذو العينين الزرقاوين الصارمتين حتى وقف منتصباً مستنداً إلى العمود المعدنى مواجهاً للزجاج الذى يشهد من خلاله من عداه من الركاب تماماً كما يشهدهم مصادفة من خلف زجاج سيارته الفارهة قبل أن يدس يده في جيب سترته ليلتقط هاتفه المحمول مجيباً في نبرة أخذت تتدرج هدوءاً وإعتدالاً شيئاً فشيئاً : " هو أنا هدفع كل شهر ست وسبع آلاف جنيه لقطع الغيار ؟! ، وسكت برهة قبل أن ينطق قائلاً : تاكسي إيه ؟ أنا مش ناقص زحمة مرور . ثم إنت إيه اللى يخصك في الموضوع دة ؟! " ولم يلبث أن ضغط على زر إنهاء المكالمة .
يجلس على مقعد إستراحة المحطة التالية بائعاً جائلاً له لحية كثيفة غير ممشّطة مفتقرة إلى العناية ، وعينان سوداوان مُجهدتان تكادا تحتجبان خلف حاجبان كثيفان قد تعاظمت وشائج الصلة بينهما حتى انهما يكادا يبدوان وكأنها قد توحّدا ، مرتدياً قميصاً مرقّعاً وسروالاً بالياً متسخاً ، قبل أن ينتصب جسده النحيف في غير تناسق ليندفع صاحبه إلى داخل العربة ومن خلفه صبي يبدو في الثالثة عشرة .
تتسع حدقات الأعين لتراقب ذاك الذى يتمتم بصوت خفيض قبل أن يعرض عينات من أدواته المنزلية الدقيقة مروّجاً بنبرة أكثر حدة : " بجنيه ونص وإتنين يا بيه ، من جنيه لخمسة يا مدام " . بيد أن مراقبتهم تلك لخطوات البائع المنتظمة ، ولنبرته التى تتفاوت صعوداً أثناء ترويجه لأدواته ، وهبوطاً أثناء البيع حين ينحصر التواصل فيما بينه وبين المشترى ، ولرد فعله حين لاحظ صبيّه يروّج للأدوات قبل أن يعرض عينات منها على الركاب معقّباً على تدخل أحد الركاب في أعقاب نهره وسبّه للصبي : " يا بيه إحنا إتعلمنا الشغلانة كدة ، ولازم نفضل قصاد مجتمعنا ملتزمين ومقبولين " ، لا يبدو مردّها تنامى النزعة الإستهلاكية التى إنتقلت من البرجوازيين الكبار إلى البرجوازيين الصغار و الباعة والحرفيين والعمال ، بل ربما تُعزى إلى نزوع إنساني لا يُجابه نحو إطلاق الأحكام .
يرد الصبي ما تكسّبه إلى البائع ، ويبدو أن محصلة ما تكسّبه تزيد قليلاً ممّا حصل عليه البائع !
يتهيأ الموظّف الأربعيني للمغادرة ، ويقترب بخطى متثاقلة من الباب قبيل أن تتوقف العربة بالمحطة التالية دون أن يُفتح الباب ! وإذا بدوي صافرات إنذار لا يكاد يُدرك مصدره على وجه الدقه ينبعث إلى داخل العربة ! أتعطلت العربات ؟! أإنفلت قطاراً آخر عن مساره ؟! لا يكاد أحداً يدرك شيئاً !
تشير ساعة الحائط إلى الواحدة مساءاً ، ويفيق الموظّف ليجد نفسه منكمشاً على فراشه الكائن بوسط الغرفه !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا