الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هادي العلوي - شيوعية القيم

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 2 / 1
سيرة ذاتية


هناك فكرة شائعة عن هادي العلوي مفادها أن سبب شهرته يقوم في انتمائه للشيوعية. وهي فكرة تنزع منه أصالته الشخصية ومعاناته الفردية وشخصيته الباطنية التي لا يربطها بالشيوعية شيئا غير حماسة الفتوة الأولى. إضافة إلى ما فيه من نزع ونسق أيديولوجي صرف. وإذا كان لارتباطه بالشيوعية اثر في تحديد مواقفه النظرية والعملية، فأنها كانت تسير عموما في تضييق مدى الحرية الفكري وأحكامها. من هنا يمكنني القول، بان ارتباط بالشيوعية كان سبب إضعافه وتضييق قدراته الكامنة! لقد أفسد انتماءه للماركسية، التي لم يكن يعرف عنها إلا القليل، تفكيره، لكن الذي أنقذه في الوقت نفسه هو انه نظر إليها بوصفها شيوعية قيم.
فالانتماء للماركسية لا يصنع مشروعا. وذلك لان الماركسية تسحق كل مشروع فردي حر. والسبب ليس فقط في كونها فلسفة متكاملة تجعل من ينتمي إليها داعية في أفضل الأحوال، بل وبسبب طابعها التوتاليتاري المبطن وأنساقها الأيديولوجية المتشددة. إذ لا علم فيها من حيث الجوهر، بل مجرد غطاء علمي لدعاوي أيديولوجية صرف. لكن الذي أنقذ العلوي من هذا الأثر المخرب للماركسية هو انه كان شيوعيا أكثر مما هو ماركسيا، بمعنى انه كان يشاطر القيم العملية التي يمكن العثور عليها في الأديان والعقائد السياسية والفلسفية المتنوعة وحتى المختلفة. إضافة إلى معارفه الكبيرة وإخلاصه للتراث الثقافي العربي والإسلامي ككل. فقد كان هادي العلوي أديبا.
بعبارة أخرى، إن التأثير الكبير للماركسية على فكر العلوي كان محكوما ومرتبطا بالعقل العملي والقيم الأخلاقية وليس بتراثها الفلسفي وعقلها النظري. وليس مصادفة أن يصطدم آخر حياته بإشكالية الموقف من العقيدة. بحيث نراه ينظر إليها بقدر من المرارة الخالصة من شوائب الانتماء السياسي عندما اعتبرها خديعة. بل نراه يتوصل آخر حياته إلى "مشروع" الإنسان ويهمل مشروع العقائد الكبرى. لقد أراد أن يعيد بناء رؤيته وتجاربه الشخصية من خلال التركيز على جوهرية الإنسان. لكنه مشروع جاء متأخرا. ومن ثم لم يكن بإمكانه التحرر من ثقل الزمن الأيديولوجي وتاريخ التراكم الفكري والعقائدي في تصوراته وأحكامه وقيمه. لقد كان الرجوع إلى فكرة الإنسان ملاذه الأخير، الذي سعى لتجسيده في قاموس يتناول إشكاليات الإنسان.
ففي آخر عمره (حسب معرفتي وحديثه معه) وبعد أن رأى سقوط الاشتراكية، بقي حلم الماوية يداعب خياله. وليست التاوية في الواقع سوى الوجه الأقدم، حسب مزاجه الوجداني للماوية الحديثة، التي ظل يكن لها محبة عميقة. كما أن فكرة "المشاعية الشرقية" عنده ليست إلا الوجه المحسن للشيوعية الغربية التي بدت بالنسبة له فسادا ونفيا لحقيقة القيم المشاعية! كل ذلك يشير إلى أن مأساة المثقف الماركسي تقوم في بذله جهودا هائلة من اجل البرهنة على أمور وأشياء لا قيمة لها بالنسبة لتعميق وتوسيع وترسيخ وعي الذات القومي والإنساني. وهذا ما توصل إليه هادي العلوي أواخر حياته، لكنه لم يكن قادرا على قطع خيوط الارتباط العديدة التي لفت كامل كيانه على مدار عقود من الزمن.
ومن الممكن توضيح ذلك على مثال موقفه من كتاب (النزعات المادية...) لحسين مروة. فقد كان هادي العلوي شديد الإعجاب بحسين مروة بشكل عام وبكتابه (النزعات المادية...) بشكل خاص. بحيث وصف حسين مرةه "بشيخ الماركسيين العرب"! (على الأقل في مجال التراث). وهو وصف له معناه وقيمته ودقته بمعايير الايديولوجيا. وقد كان تقييم العلوي هذا نتاجا لإعجابه بالماركسية وتنميطها المدرسي الجيد في كتاب حسين مروة. كما أن ذلك لم يكن معزولا عما فيه من محاولة لسدة الثغرة الكبرى وردم الهوة الهائلة التي لم ينهمك بها هادي العلوي ويتفرغ لها، أي كتابة تاريخ الفكر العربي الإسلامي. كما يمكن إضافة سبب أخر وهو أن العلوي لم يكن كبير الاهتمام بالفكر الفلسفي العربي الإسلامي. والكتاب الوحيد المتخصص بهذا الصدد هو كتاب (الحركة الجوهرية عند الشيرازي).
فمن الناحية الشكلية يمكن القول، بان كتاب حسين مروة كتاب مدرسي بحت. كما انه مكتوب بمعايير الرؤية الأيديولوجية. وفي الوقت نفسه انه الأكثر اتساقا والأكثر تماسكا من حيث أنساقه وترابطه وأسلوبه وغاياته في الكتابات الماركسية العربية لذالك الزمن. وضمن هذا الرؤية له الأفضلية مقارنة بما كتبه هادي العلوي. مع أن هادي العلوي لم يؤرخ للفكر العربي الإسلامي. وان كتاباته جميعا تخلو من "طول النفس" في مكابدة الأعمال النظرية والتاريخية الكبيرة. لكن عنوان كتاب حسين مروة (النزعات المادية...) لا يخلو من هلوسة الأيديولوجية الماركسية العربية، وبالأخص ما يتعلق منه بالبحث عن "مادية" و"تقدمية" و"يسارية" في التراث العربي الإسلامي. وهذه قضية منهجية لا قيمة لها بالنسبة للتحليل الفلسفي. لكنها كانت حامية الوطيس ضمن تقاليد الصراع السياسي الأيديولوجي المبتذل آنذاك. ومع ذلك فأن الفضيلة الكبرى لعمل حسين مروة تقوم في توجيه نظر الشيوعيين العرب صوب التاريخ القومي والتراث الذاتي. وهي مفارقة لا أسخف منها بالنسبة للوعي الذاتي التاريخي والقومي. طبعا أن سبب ذلك يقوم في أن اغلب قيادات الحركات الشيوعية العربية من الأقليات القومية والعرقية والدينية. من هنا اغتراب التاريخ العربي والإسلامي عنها. ولا يقلل من هذا الأثر الطابع الأيديولوجي للكتاب. فقد كانت مهمته البرهنة على صحة وعظمة الماركسية والبحث عن "مادية" في التراث العربي الإسلامي مؤيدة لها.
بعبارة أخرى، لقد كان كتاب حسين مروة من ناحية المضمون اقل إثارة وقيمة من كتابات هادي العلوي. رغم الدعاية الهائلة له كما هي العادة بالنسبة للشيوعية العربية. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن أن كل "إبداع" الشيوعية العربية وشخصياتها من كتاب وأدباء وشعراء وفنانين و"مفكرين" كان جزء من تصنيع حزبي ومتحزب. من هنا شدة الاهتمام بكتاب حسين مروة القادر على صنع "عقل" عقائدي مقنن، أما العلوي فانه ترك المجال حرا أمام البدائل. انه محرّض ومثير للشكوك والنقد. الأمر الذي يجعل من الممكن القول، بان ماركسية منسّقة ومرتبة أتعس من ماركسية مبعثرة ومشعوذة! تماما كما أن "ماركسية" أنصاف المثقفين والمتعلمين أرذل من ماركسية صعاليك أميين! والقضية هنا ليست فقط في أن المثقف الحقيقي لا يمكنه أن يكون ماركسيا، بل وبسبب تخريبها للروح الحر والانتماء القومي والرؤية الواقعية والذوق السليم خارج حدود الثقافة الأوربية.
إن سبب هذه المفارقة يكمن في أن هادي العلوي لم يكن أيديولوجيا ولم يؤدلج لحركة سياسية أو حزبية. وليس مصادفة آلا يقلده الحزب الشيوعي العراقي (والعربية) إدارة تحرير مجلاته أو جرائده. بل عادة ما كان يترأسها أنصاف متعلمين مستعدين بحماسة منقطعة النظير لقول كل ما يريده الحزب! هذا الاسم المعتق لكل ما هو عتيق تلف! لقد كان هادي العلوي يفكر ويكتب بمعايير الذوق الشخصي والمعاناة الفردية وليس بمعايير العقائد. فقد تلاقت عنده في الواقع قيم العدالة والحق والمساواة والحرية والإنسانية وغيرها مع ما هو شائع عن الشيوعية. فتلابس الأمران فيه وعنده.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا إلى أننا لا نعثر عند هادي العلوي على اي اهتمام نظري بالماركسية والشيوعية. فهو لم يكتب بهذا الصدد شيئا يذكر. كما تخلو كتاباته من أي شيء له علاقة بأصول الماركسية ومكوناتها، اقصد الفلسفة والاقتصاد والاشتراكية (السياسة). وهكذا ظل حتى نهاية حياته. لقد كانت الماركسية بالنسبة له أشبه ما تكون بالحب الأول: مشاعر وعواطف ووجدان. يتذكره بلطف وعنفوان ولكن بدون ملامسة جسدية. وبالتالي لا ماركسية بالمعنى الدقيق للكلمة في كتابات العلوي، بل شيوعية قيم. والقيم الكبرى ليست حكرا على تيار دون آخر. لكن الصدفة شاءت(!) أن تكون في عراق النصف الأول من القرن العشرين مرتبطة بالشيوعية.
فقد كان العلوي يحتوي في شخصيته وأعماقه على تيارات عديدة: يسارية وشيوعية وماركسية وماوية ووطنية وقومية عربية وشرقية ومعادية للغرب. وبالتالي لا ينبغي إرجاعه إلى جزء منها. فالعلوي صيرورة وكينونة ثقافية. والجامع فيها أو الرابط لكل أجزاءه هو ما يمكن دعوته بوجدانية القيم الكبرى كالعدل والمساواة والحق والعدالة والإنسانية.
وليس اهتمامه أواخر حياته بالمشاعية والتاوية والتصوف سوى الوجه الآخر لمرارة الشك بالعقائد الشيوعية. لكنه لم يستطع الفكاك منها بصورة تامة، بمعنى أن لم يوجه نقده الاجتماعي والفكري لتجارب الشيوعية والفكرة الماركسية. لقد بقى ضمن سياق الفكرة الشائعة عن أن الخطأ في العمل وليس في النظر. وهذا بدوره مجرد وهم أيديولوجي. لكنه تلمس أواخر حياته واقترب من الحقيقة البسيطة القائلة، بان الثقافة الحقيقية لها أصولها الحقيقية. والمهمة تقوم بالرجوع إلى هذه الأصول. لكنه لم يستطع تأصيل هذه الفكرة، كما انه لم يقم بتطبيق نظري وفكري لها.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي الثقة بين شيرين بيوتي و جلال عمارة ???? | Trust Me


.. حملة بايدن تعلن جمع 264 مليون دولار من المانحين في الربع الث




.. إسرائيل ترسل مدير الموساد فقط للدوحة بعد أن كانت أعلنت عزمها


.. بريطانيا.. كير ستارمر: التغيير يتطلب وقتا لكن عملية التغيير




.. تفاؤل حذر بشأن إحراز تقدم في المفاوضات بين إسرائيل وحماس للت