الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين برانكوزي وسيرا: كراسة إمكانيات للعين والبصيرة

يوسف ليمود

2012 / 2 / 1
الادب والفن


لا شيء جوهريا ولا ظاهريا يجمع بين قنسطنطين برانكوزي وبين ريتشارد سيرا، لا التوجه ولا الأسلوب ولا الوسيط ولا المفاهيم الفنية التي انبثقت منها أعمالهما يمكن أن تصنفهما معا كفنانين من طراز واحد، رغم هذا، وبالرغم من أكثر من ستين عاما تفصل بين الاثنين وتصنِّف الأول (برانكوزي) ضمن موجة الفن الحديث، والأخير (سيرا) في موجة المعاصر، جمعهما متحف بايلار في مدينة بازل السويسرية في معرض واحد يفترض وجود خيط دقيق بين هذين الفنانين اللذين يُعَدّان اثنين من أكبر نحاتي القرن العشرين، معتمدا على التأثير الذي مارسه نحت برانكوزي على سيرا حين ذهب الأخير إلى باريس 1964 لمدة عام لاستكمال دراسته الفنية في التصوير فاكتشف النحاتَ بداخله وتحول مساره ومصيره ليصبح أحد ألمع الأسماء في عالم النحت اليوم. يعتبر هذا المعرض حدثا استعاديا يغطي قرنا كاملا من تطور النحت الحديث عبر هذين الفنانين، متخطيا حواجز المستحيل فيما يتعلق بتجميع أعمال برانكوزي خلال أربعين عاما من إبداعه، بندرتها وقابليتها للخدش وللكسر، وبجبروت أعمال سيرا بمساحاتها الهائلة وأوزانها الخيالية التي يزيد بعضها على الثلاثمائة طنا من الحديد المصمت.


قنسطنطين برانكوزي: ليس الشكل وإنما الجوهر

"لا شيء ينمو تحت الأشجار الكبيرة" هذا ما قاله برانكوزي بعد شهر قضاه في ورشة النحات الأشهر أوجست رودان التي كان قد دُعى إليها، معلنا فطامه ومبرهنا على أن الأنا الهائلة التي تتحكم في كيان الفنان الحقيقي تأبى إلا أن تجد طريقها بنفسها في الأحراش غير المطروقة، تاركة المراعي للقطعان. كان على هذا الشاب إبن الفلاح الفقير، الآتي من إحدى قرى رومانيا إلى باريس، في بداية القرن العشرين، بموهبة كبيرة أعلنت عن نفسها مذ كان طفلا يحفر على الخشب ويصنع منه أدوات وأشكالا بينما يرعى غنم العائلة، ماراً بالعاصمة بوخارست حيث درس فن النحت الكلاسيكي، كان عليه أن يخطو بفن النحت التقليدي السائد وقتئذ خطوة كبيرة في اتجاه التجريد ـ التخلص من كل ما لا ضرورة له للوصول بالشكل إلى الروح: "ليس الشكل الخارجي وإنما الفكرة، جوهر الأشياء"، من هنا تتحول الملهِمة النائمة إلى مجرد وجه هو بيضة ملساء، إنْ بالرخام أو البرونز الأصفر بالغ النقاء، غارقة في السكون المطلق؛ ويصبح الطائر خطاً ذهبيا رشيقا في الفراغ؛ ويتماهى جذع الفتاة المراهقة مع شكل جذع الشجرة في أبسط صوره وأبلغها هندسيةً؛ وتصبح القُبلة مكعبا حجريا مفلوقا تحزّمه الأذرع وتميّز انحناءة مرهفة في أحد النصفين حواء عن آدم؛ ويتجسد بورتريه مدام x، سليلة أسرة بونابرت، على يد الفنان، وبالاستعانة بفرويد، في شكل يشبه العضو الذكوري، الأمر الذي أثار استنكار الذائقة الفنية وقتها وتسبب في استبعاد ذلك العمل من المعرض السنوي العام... ولكن، رغم هذه الحسية الواضحة في عمل برانكوزي، تتجلى الروحية كذلك في جل أعماله، خصوصا تلك المستغرقة في تجريديتها، مثل "عامود اللانهائية" الذي يصل الأرض بالسماء في لا نهائية التكرار التي تنتجها العين الناظرة أبعد من حدود العمل نفسه. هذه الروح التقليلية الصارمة التي بصمت أعمال برانكوزي جعلت منه أشبه بزاهد متعبد في محراب الفن، زاهد يحب الحياة والنساء والنبيذ الجيد والتدخين، ويضخّ روحه في الخامات المتعددة التي يعمل بها، من خشب وحجر ورخام ومعدن، فيستنطق هذه المواد الصلبة فيما يشبه الهمس الذي يقول روح الأشياء والروحَ المرهفة لخالقها، بطريرك النحت الحديث.


ريتشارد سيرا: ما نراه في الفن هو ما ينقصنا

"من دون برانكوزي ما كنت لأصبح نحاتا" يعترف سيرا في معرض استرجاعه تعرّفه على أعمال برانكوزي أثناء منحته الدراسية في باريس، منتصف الستينيات، بعد دراسته التصوير في بلده أمريكا، كان برانكوزي وقتئذ في عداد الموتى منذ سبع سنوات تقريبا. دأب سيرا على دراسة الأفكار النحتية والحلول التلخيصية عند برانكوزي في كراسة اسكتشات هيّأته ليصبح فيما بعد أحد أبرز فناني المينيمالية (الاتجاه التقليلي) في أمريكا، حيث "الفراغ هو المادة التي أعمل بها"، وهذا حقيقي مجازا، حيث إن مواد تشكيله الفراغ كانت تلك التي تقول الكثافة والثقل وعنفوان الحضور، كالمطاط والرصاص المنصهر، الذي كان يقذفه كتلا على الحائط في بواكير أعماله، والحديد الذي رسخت عليه أعماله الأخيرة. خامات استخرجها الفنان من ذاكرته الشخصية قبل أن يستخرجها من ذاكرة تاريخ الفن: "كل المواد الخام التي اشتغلت بها تقبع في احتياطي الذاكرة التي أضحت مثل حلم متكرر"، فقد عمل أبوه في حوض للسفن بسان فرانسيسكو، كما عمل الفنان في مصانع الحديد والصلب في سانتا باربارا، لكي يعول نفسه أثناء دراسته الفن بتلك المدينة. خطا سيرا بفن النحت خطوة أبعد من تلك التي خطاها برانكوزي، من ناحية المفهوم وفلسفة العمل التي لم ترد للخامة أن تكون تمثيلا لشيء أو لمعنى ما، بل أن تقدم نفسها بكامل كثافتها وحضورها الأخرس، في أكثر الأشكال الهندسية أوليةً: مكعبات من الحديد المصمت، مستطيل صديء منتصب بسُمْك عشرين سنتيمترا في ارتفاع ثلاثة أمتار وطول تسعة أمتار، رقائق قصدير ملفوفة، شاشات مقوّسة من الحديد تتوازى أو تتجاذب أو تتنافر، فتصنع فراغات وطرقات ضيقة وباحات مستديرة تدعو متأمل العمل إلى التجول داخلها كما تثير فيه الرغبة للدوران حولها لفك طلسمها الذي لا يبوح بأكثر مما يمكن أن تبوح به عناصر الكون الخرساء... هذا إلى عدم إغفالنا عنصري الحجم والوزن (والزمن أيضا، لو انتبهنا إلى معالجات الفنان لسطح الحديد وعمليات الأكسدة التي تأخذ من ثماني إلى عشر سنوات كي تثبت على حالة بعينها) اللذين يضغطان، في عنف وبرقة متناهية في الوقت ذاته، على كيان الرائي ويذكّرانه بهشاشة وجوده الآدمى أمام جبروت مادة خام كالحديد تقول الأرض، كما تؤرشف لعصر غيّر شكل العالم اسمه: عصر الصناعة.

يبقى لزائر هذا المعرض أن يرى ما يريد أن يراه بين هذين الفنانين، من وشائج قربى أو من علامات تضاد، فما نراه في الفن هو ما ينقصنا، حسب سيرا.

يوسف ليمود
م. الدوحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي