الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم الدولة في قريتي وفي وطني

محمد سليم سواري

2012 / 2 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


لقد قرأنا الكثير في كتب التربية الوطنية للمناهج الدراسية عن مفهوم الدولة .. ولقد عرفنا المزيد حول القوانين والدساتير منذ عهد حمورابي ونبوخذنصر وسقراط وإلى اليوم .. لقد عاصرنا العديد من الأنظمة والحكومات والحكام منذ الملك الشاب فيصل الثاني وبول بريمر وإلى اليوم .. لقد إرتوينا من مفهوم السلطة والإدارة والضوابط بما لذ منها ولم يطيب .. وعندما نعيش في أفكارنا مع كل ذلك ونحن نعيش اليوم في الألفية الثالثة للميلاد ونحن محظوظون بأننا عشنا الخمسين سنة من القرن الماضي للألفية الثانية وها نحن نعاصر القرن الأول للألفية الثالثة ، حيث أتذكر المثل الكردي : " إن أنت لم تجرِ على جمجمتك فكيف تعرف قيمة المشي على قدميك " .. وهكذا عندما نختبر قيمة شيء فما علينا إلا أن نقارنه بشيء آخر ولو في وقت آخر أو في مكان غيره .. فلو قارنا مسألة الدولة والنظام والحكم والسلطة والإدارة في عراق اليوم والذي يعرف بالعراق الديمقراطي بالعهد الملكي لوجهت إلينا أصابع الإتهام بأننا مَلكين ، ولو قارنا ذلك بفترة حكم الزعيم عبدالكريم قاسم لنُعتنا بالشيوعية ، ولو قارنا كل ذلك بحكم الأخوين ( عبدالسلام وعبدالرحمن ) عارف لشتمنا بأننا ناصريين وقومجيين ، ولو تكلمنا عن عراق قبل سنة 2003 وما بعدها لكانت تهمة البعث والإرهاب والمادة ( 4 ) لنا بالمرصاد .
سوف أترك كل هذا وأعود إلى قريتي مرتع صباي ومسرح أحلامي وفي بداية الخمسينات من القرن الماضي لأتكلم عن مفهوم الدولة والسلطة والنظام والإدارة في تلك القرية النائية بين ربوع جبال كردستان ، وعندما أتحدث عن تلك القرية لا يأخذ بكم الظن بأنني أتحدث عن جمهورية أفلاطون أو المدينة الفاضلة ، بل أتكلم عن قرية كانت تتألف من ثلاثمائة عائلة أو وحدة سكنية ، يشرف على شؤونها كبير القوم أو شيخ القبيلة ، وكان كل ما يخص القرية ترتبط به بصورة مباشرة ، فمن ناحية العلاقات الخارجية وإدامة العلاقة مع الحكومة كان يتم إختيار مختار للقرية وكانت واجبات المختار تنحصر بتبليغ أبناء القرية من الذين عليهم الحضور إلى دائرة التجنيد في القضاء لصرف دفاتر الخدمة العسكرية وتسويق الذين بلغوا السن القانوني لأداء خدمة العلم ، كذلك عليه إشعار دائرة الأحوال المدنية بالولادات والوفيات وحالات الزواج ، وإذا إحتاج أحد أبناء القرية دفتراً للنفوس وهو ما يسمي الآن هوية الأحوال المدنية فإن المختار يرافقه إلى مدينة العمادية لإنجازها ، وفي بعض الأحيان يتدخل كبير القرية لمساعدة المختار وتقديم النصح والإرشاد له في أُمور تكون خارج قابلية المختار، وكميزانية ثابتة للمختار تقدم له كل عائلة مبلغاً سنوياً مقداره ربع دينار ( 250 ) فلساً لتغطية مصاريف ذهابه ومراجعاته للدوائر الحكومية ، وفيما يختص شؤون وزارة الدفاع اليوم ، كان حوالي خمسون شخصاً في القرية يحملون السلاح لتشكل بذلك قوة مسلحة للدفاع عن القرية وأبناءها وحدودها ، وعندما يستدعي الأمر يقود كبير القوم هذه القوة للدفاع عن قرى العشيرة عند المنازعات العشائرية ، وكل أفراد القرية معنيون بالمحافظة على ممتلكات وبساتين الآخرين وعدم التجاوز عليها وهناك عقوبة لكل من يتجاوز على ذلك والعقوبة يحددها كبير القوم بعد إستشارة رؤساء أفخاذ القرية وهم خمسة ، ولا أنسى كيف أن كبير القوم قام بطرد عائلة من القرية لأن أحد أفرادها قام بسرقة دجاجة وقال له : " الذي يسرق دجاجة ولا يحافظ عليها كيف سيحافظ على أعراض وممتلكات قريته " ، وفي حدود القرية وفيما يخص العلاقات الإجتماعية فإن لكبير القوم شأنه وكلمته في الخلافات التي تحدث بين أبناء القرية وخاصة في مسائل الخطوبة والزواج والنزاع على الأراضي وكانت هناك ضوابط وتقاليد هي بمثابة قوانين ودستور لا يمكن التجاوز عليها حتى لأقرب الناس لكبير القوية ، الكل سواية أمام ذلك ، وفيما يخص الدعم فإن أية عائلة فقيرة أو أرملة لها أيتام تلقي الدعم من أفراد القرية وبإيعاز من كبير القوم في بعض الأحيان كأن يطلب من أبناء القرية بإعداد وتهيئة الحطب لهم لموسم الشتاء أو حرث أراضيهم وبساتينهم أو جني محاصيلهم ، وإذا حدث زواج في القرية فإن كبير القوم يرسل في طلب والد العريس ليستمع منه عن إستعدادات العائلة لتلك المناسبة ويقدم له الدعم الذي يطلبه وعادة ما كانت الأعراس تقام في موسم الخريف بعد الإنتهاء من جني المحاصيل، وإن إحتاجت القرية عالماً دينياً ( الملا ) وهو الشائع في قرى كردستان ، فإن كبير القرية يبحث عنه في القرى الأُخرى ويفاوضه للعمل في القرية وتكون أتعابه مبلغ نصف دينار سنوياً عن كل شخص بالغ مع تقديم زكاة المحاصيل وزكاة الفطر له ويكلف أحد الأشخاص لخدمة المسجد ويسمى ( مجيور ) ويدفع له سنوياً درهمان عن كل عائلة ، أما إذا مرض أحد أفراد القرية فإن هناك عجوز تستطيع تقديم العلاج لبعض الحالات ومجاناً وإذا أُستعصي الأمر فإنها تبلغ كبير القوم بإستحالة العلاج ، وعندئذِ يكلف كبير القوم ثلاثة من أفراد القرية الذين لهم دراية بأمور المدينة لمرافقة المريض ، وفي حالات تقديم الخدمات فإن كل أفراد القرية يتعاونون فيما بينهم لإنجاز ما هو مطلوب ، فعندما تسقط الثلوج مثلاً وتسد الطرق أمامهم لجلب العلف فالكل يخرج لفتح جميع الطرق الخارجة من القرية إلى العقار والقرى الأُخرى ، كما وأن لكبير القوم شخص يسمى ( كزير ) أي المنادي هو بمثابة سكرتيره لتبليغ أبناء القرية لكل حالة يستدعي حضورهم إلى ديوان أو مضيف كبير القوم .
وخلاصة القول أن كل عائلة أو شخص في القرية مطمئن على ماله وملكه وعرضه وهو يعلم بأن هَم كل القرويين هو المحافظة على بعض الثوابت والتي هي بمثابة خطوط حمر لا يمكن تجاوزها وهم متأكدون على أن يقدموا الجزء الأكبر من مجهودهم للآخرين قبل أن يفكر في نفسه وهو يدرك بأن الآخرين يحذون حذوه .
هذه المفاهيم البدائية عن الدولة والأُسس البسيطة عن الإدارة هي التي تربطني اليوم بتلك القرية الكردستانية أكثر مما تربطي بوطني وبلدي وقد مضت على تلك الذكريات أكثر من خمسين سنة والقرية هدمت ودمرت ثلاث مرات ولم تزل خرائبها وأطلالها تناجي الغربان إلى اليوم .. نعم أنا في شوق إلى دولة قريتي ودستورها ونظامها وكبير قومها أكثر من شوقي إلى دولة العراق ونظام حكمها وبرلمانها ووزراءها ، نعم أنا أحس بإنتمائي إلى دولة قريتي أكثر من إحساسي للإنتماء إلى عراق يصارع فيها الأحزاب والطوائف ومنذ تسع سنوات على المناصب والمنافع والفساد وغايتهم سرقة قوت الشعب العراقي أكثر مما سرق من العراق منذ عهد أبو جعفر المنصور وإلى كل العصور الأُخرى ، نعم أنا أعتز بإنضواي لدولة قريتي أكثر من إعتزازي بدولة العراق التي تأتي بالدرجة الأًولى في الفساد وفنون علي بابا ، العراق الذي ليس فيها ما يشجعك للإنتماء إليها والغناء مع سربه ، نعم أنا أتقبل دكتاتورية كبير قريتي أكثر مما أتحمل ديمقراطية لا تغني ولا تسمن








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فخر المطعم اليوناني.. هذه أسرار لفة الجيرو ! | يوروماكس


.. السليمانية.. قتلى ومصابين في الهجوم على حقل كورمور الغازي




.. طالب يؤدي الصلاة مكبل اليدين في كاليفورنيا


.. غارات إسرائيلية شمال وشرق مخيم النصيرات




.. نائب بالكونغرس ينضم للحراك الطلابي المؤيد لغزة