الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة حب في زمن الثورة

نارت اسماعيل

2012 / 2 / 2
الادب والفن


عبير فتاة تسكن في بيت يطل على شارع قريب من ساحة العاصي في مدينة حماة، هذه الساحة التي تشهد مظاهرات يومية منذ بدأت الثورة السورية.
عبير فتاة خجولة في سنتها الجامعية الأولى وهي انقطعت عن الدراسة بعد أن اشتدت الاحتجاجات الشعبية، فقد منعها أهلها من الذهاب إلى الجامعة خوفآ عليها من الاختطاف على أيدي شبيحة النظام.
كانت كلما سمعت هتافات الثائرين المتوجهين إلى الساحة تذهب إلى الشرفة وتطل على الحشود، كانت تكتفي بمراقبتهم بفضول واهتمام، وكانت أحيانآ تتمنى أن تنزل وتقترب منهم وربما تشاركهم مظاهرتهم ولكن ذلك كان صعبآ لأن المظاهرات في مدينة حماة المحافظة كانت مقتصرة في أغلب الأحيان على الرجال، أما النساء فكانت تشارك أحيانآ بمظاهرات نسائية وأحيانآ أخرى تكون متجمعات بأعداد قليلة خلف مظاهرات الرجال.
مع مرور الوقت شد انتباهها شاب كان دائمآ في الصفوف الأولى وكان دائمآ يرتدي بنطال جينز رافعآ علم الثورة ويلف حول جبينه عصابة بألوان علم الثورة، لفت انتباهها لشدة حيويته وحماسه الواضح وهو يردد هتافات الثورة:
واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد
السوري يرفع إيدو، بشار ما منريدو
صارت كلما سمعت هتافات الثوار وهم يتوجهون للتجمع في ساحة العاصي، تخرج مسرعة إلى الشرفة لتبحث عنه، ذلك الشاب المندفع الذي يرتدي الجينز، وكثيرآ ما تنهرها أمها وتأمرها بالابتعاد عن الشرفة حتى لا تصيبها رصاصة طائشة.
صار قلبها مع مرور الأيام يخفق بشدة كلما لمحته أو تهيأ لها أنها لمحته وسط الزحام والارتباك الذي يعقب إطلاق النار من أحد الحواجز القريبة، كانت تحاول دائمآ إبقاءه تحت أنظارها وكأنها تريد أن تحميه من طلقة غادرة، وكانت كلما انفضت المظاهرة تعود إلى غرفتها يعتريها القلق الشديد أن يكون قد حدث مكروه له، فهو دائمآ في الصفوف الأولى وكثير الحماس ولا تهدأ مخاوفها إلا بعد أن تراه سالمآ في اليوم التالي.
في أحد الأيام وعندما شعرت باقتراب الحشود من بيتها توسلت من أمها أن تسمح لها بالنزول إلى مدخل العمارة وتشاهد المظاهرة عن قرب، بصعوبة بالغة سمحت لها أمها بشرط أن لا تخرج إلى الشارع وأن تبقى خلف مدخل العمارة وأن تعود فورآ إلى البيت في حال سمعت أي صوت إطلاق نار، صار قلبها يخفق بشدة عندما اقتربت الجموع منها، كانت كعادتها تبحث عن ذلك الشاب المتوقد الذي يرتدي الجينز، لم يخب ظنها طويلآ فها هو الشاب مرفوعآ على ظهر أحد رفاقه يقود الهتافات التي يرددها المتظاهرون من بعده، هذه المرة شاهدته عن قرب واكتشفت أن له لحية شبابية صغيرة لا تكاد تظهر لنعومتها، أما هو فكان مشغولآ بأمره ولم يعرها أي انتباه.
تذكرت أن معها موبايلآ وكثيرآ ما التقطت صورآ للمظاهرات فلماذا لا تلتقط صورة له؟ للأسف كان الشاب قد غاب مبتعدآ وسط الجموع.
تكرر الأمر في الأيام التالية ودائمآ لا تتذكر عبيرالتقاط صورة للشاب إلا بعد أن يصبح بعيدآ أو غائبآ وسط الجموع.
في اليوم التالي وعند اقتراب المتظاهرين، تجرأت وخالفت تعاليم أمها وخرجت إلى الشارع ورفعت يدها بخجل ملوحة، حظيت بكثير من النظرات والتلويح من المتظاهرين إلا ذلك الشاب الذي كانت تتابعه بنظرها فقد كان مشغولآ بأمره وبهتافاته وبالعلم الذي يحمله فلم يلتفت لوجودها.
في المرة التالية اقتربت أكثر منهم واكتسبت جرعة إضافية من الشجاعة وصارت تردد عند اقترابهم وبصوت خافت: واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد.
أثار حضورها ورقة صوتها الكثير من الانتباه والتلويح، إلا ذلك الشاب ذو اللحية الصغيرة وبنطال الجينز فقد كان كعادته منغمسآ بالتحديق أمامه وبقيادة الهتافات، ومثل كل مرة لا تتذكر عبير أن تلتقط صورة له إلا بعد أن يبتعد ويغيب وسط الجموع في الساحة.
في اليوم التالي ارتفعت جرعة الجرأة لديها واقتربت كثيرآ من الصفوف حتى صارت ملاصقة لهم وعندما لمحت حبيبها صارت تلوح بيديها وتهتف بكل قوتها وبصوتها الأنثوي الرقيق:
واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد
كانت تصرخ كما لو كانت تهتف له وحده، وكأنها تقول له أرجوك انظر إلي، اشعر بوجودي.
لم تعد ترى شيئآ حولها غير ذلك الشاب. وأخيرآ شعر الشاب بوجودها، لوح لها بيده وبادلها النظرات قبل أن يغيب مبتعدآ.
طار قلبها من الفرح، هذه أول مرة تتبادل النظرات المعبّرة مع شاب وتلوّّّّّح له ويلوّح لها، تذكرت أن بيدها موبايلآ وفيه كاميرا ولكن الشاب صار بعيدآ.
قررت أن يكون كل تركيزها في اليوم التالي على أخذ صورة له ، فهذه المرة لن ترتكب تلك الحماقة أبدآ، فكيف لم تحظ بصورة واحدة له مع أنها تراقبه منذ شهر؟
سارعت عبير للعودة إلى بيتها وقبل أن تصل إلى مدخل العمارة سمعت أزيز رشقات متتالية من الرصاص، ساد الهرج والمرج ورأت الناس يركضون هنا وهناك محاولين الاحتماء، احتمت هي أيضآ خلف باب العمارة ثم سمعت أمها وهي تصرخ من داخل العمارة أين أنت يا عبير ارجعي بسرعة.
كيف ترجع وقلبها يكاد يخرج من صدرها من شدة الخفقان والخوف على حبيبها، تبحث عنه في كل الاتجاهات، لا ترى شيئآ غير أناس يصيحون ويركضون بدون هدف، بعد ذلك توقفت أصوات الرصاص وبدأت تسمع أصوات الاستغاثة وشاهدت الكثير من المصابين يتم نقلهم، اضطرت للعودة إلى البيت بسبب الصراخ الهستيري لأمها، حاولت الخروج إلى الشرفة لتبحث عن حبيبها ولكن أمها منعتها.
لم تنم عبير تلك الليلة، قلبها كان منقبضآ بشدة وكانت تخشى أن لا تراه ثانية فقد كان في المقدمة وكان يقود الشباب وكان الأكثر نشاطآ وحيوية.
كانت عبير تقلب وسادتها كل ما ابتل أحد جانبيها بدموعها.
صارت تنزل كل يوم بدون علم أمها تبحث بين المتظاهرين عن شاب يرتدي الجينز وله لحية صغيرة ويحمل علم الثورة.
تذكرت أغنية فيروز، شادي ، الذي ضاع في الثلج.
كان تتمنى لو التقطت صورة واحدة لحبيبها لكي تضعها تحت وسادتها قبل أن يغيب عنها للأبد.
كانت تتمنى لو عرفت إسمه لكي تكتبه في دفاترها، على مقعدها، لتحفر إسمه على شجرة في الحديقة القريبة.
خشيت أن يضيع حبيبها في عتمات النسيان، فرسمت على ورقة من دفترها صورة لشاب يرتدي الجينز، له لحية صغيرة ويلف على جبينه عصابة بألوان علم الثورة ويحمل بيده اليمنى علم الثورة.
لأنها لا تعرف إسمه أطلقت عليه إسم "ُثائر"
علقت الرسمة على جدار غرفتها.
كانت تتمنى أن تضع كلمة "حبيبي" أمام إسمه، ولكن التقاليد لن تسمح بذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عزيزي الأستاذ نارت اسماعيل المحترم
ليندا كبرييل ( 2012 / 2 / 2 - 14:43 )
نحن مثل عبير ، أحببنا هؤلاء الشباب ، بإبائهم ، وشموخهم ، وشجاعتهم ، فإن أحبت عبير شاباً واحداً فقد أحببنا نحن من تعدينا مرحلة المراهقة مئات .. آلاف الشباب ، يا لروعتهم وهم يصرخون بحماس يهز الجبال هزاً
قلبي يجعني عليهم وأنا أتخيل كل يوم حجم التعذيب الذي يلقونه في المعتقلات ، رأيت بأم عيني كيف كان الرجل المخابراتي يلطم شاباً ببسطاره على وجهه بعنف وحقد ، ثم حملوه إلى السيارة مشحوطاً والدماء تنزف منه ، لم أستطع أن أنام تلك الليلة وما زلت . بوركتم


2 - السيدة المحترمة ليندا كبرييل
نارت اسماعيل ( 2012 / 2 / 2 - 19:57 )
شكرآ جزيلآ أختي ليندا وأنا فخور بمشاعرك الوطنية الصادقة، تذكريني ببعض الأصدقاء المسيحيين الذين نجتمع معهم في أوقات كثيرة ونحن عندنا شلة من العائلات السورية من كل المذاهب ونعتبر أنفسنا أسرة، صدقيني نحب بعضنا البعض ونقف بجانب بعضنا البعض بكل المناسبات الحلوة والمرة تمامآ مثل الأهل،، كم أتمنى أن تسود هذه الروح في سائر الوطن بعد أن ينزاح ذلك
الكابوس المخابراتي القمئ
أرجو أن تتقبلي تحياتي الصادقة

اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال