الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأدب الرقمي وأفق التلقي (متى يصبح الأدب الرقمي أمرا واقعا؟)

ثائر العذاري

2012 / 2 / 5
الادب والفن


لا تبدأ تجربة القراءة، ونحن نُقبل على قراءة نص ما، من لحظة مواجهتنا لذلك النص. بل هي حلقة متصلة بسلسلة طويلة تتألف من كل التجارب القرائية السابقة التي مررنا بها وشكلت خبرتنا في القراءة. فالقارئ – أي قارئ- يكون قد طوّر أنساقا معينة للتلقي تزداد رسوخا كلما تمرّس في القراءة، منها أنساق اجتماعية يتفق عليها مجتمع القراء، ومنها ما هو فردي تتميز به تجربة كل قارئ بصفة شخصية.
فأما الأنساق الاجتماعية فهي تلك المتعلقة بجنس النص، إذ أن هناك عقدا بين مجتمع القراء والمنشئ على أصول محددة ترسم حدود الجنس الكتابي. فحين نُقبل على قراءة قصيدة مثلا فنحن نفعل ذلك وقد هيئنا أنفسنا لتلقي شكل محدد من اللغة، وأنساق معينة من الجمل، وأنظمة صوتية اعتدنا مواجهتها في الشعر.
بينما نكون قد تهيئنا لنسق آخر من التوقع حين نكون مقبلين على قراءة قصة قصيرة، إذ نتوقع شخصية ستكون مركز الموقف القصصي، وأنظمة محددة لمعالجة الزمان والمكان.
ويختلف الأمر مع أي جنس كتابي آخر، فالرواية والمسرحية والمقال السياسي وغيرها نتلقى كلا منها بعد أن نكون قد حصرنا أفق التلقي في ما نتوقعه من أنساق يتفق عليها مجتمع القراء في ذلك الجنس المعين.
وأما الأنساق الفردية فهي تلك التي تتكون في وعي القارئ الفرد اعتمادا على تكوينه الثقافي ورغباته وميوله. فقد يمتلك قارئ ما خبرة في تلقي الشعر أكثر من النثر، وقد يميل قارئ آخر إلى قراءة قاصّ معين أكثر من غيره لأنه استطاع أن يفهمأسلوب معالجاته اللغوية. فضلا عن أن اللغة ذاتها بوصفها مفردات وتراكيب نحوية لها تاريخ شخصي في وعي أي قارئ يختلف عن ما هو عند غيره.
يقع القارئ المتمرس تحت سلطة أفق التلقي أكثر من الآخر الأقل مراسا،فهو حين يقبل على قراءة نص لكاتب معين سيتوقع منه ما عرفه عنه من نصوصه السابقة، فحين أتوجه لقراءة نصّ لصلاح عبد الصبور مثلا، فأنا أتوقع أنماطا لغوية تختلف عن تلك التي أتوقعها في نص لبدر شاكر السياب، على الرغم من أن كليهما يكتب نصا منتميا إلى الجنس ذاته.
إن فكرة أفق التلقي لا تعني إطلاقا تقييد الكاتب بضوابط مقدسة لا يجوز الخروج عليها، فكلّ النصوص الإبداعية تقوم على إحداث الدهشة في وعي القارئ من خلال كسر أفق التوقع، بيد أن هذا الكسر يكون في نطاق محدد ترسمه حدود الجنس، ولولا هذه الحدود لما كان باستطاعة المنشئ توليد أية صدمة أو دهشة. والأمر هنا يشبه عملية بناء دار، فلا يمكننا توقع دار من غير جدران وسقوف وأبواب ونوافذ وإنارة وتأسيسات كهربائية وصحية، غير أن هناك ما لا نهاية من احتمالات التصاميم الهندسية التي تتوفر على هذه العناصر.
إن كل الأجناس الكتابية مبنية بطريقة يفرضها الوسيط الطباعي المتكون من الورق والأحبار. ويتم تلقيها على أساس طريقة الإنشاء تلك، فالقارئ يعرف أن النص سلسلة من الجمل لها بداية ولها نهاية، وأن عليه أن يتلقاها بطريقة خطية تبدأ بالكلمة الأولى فالثانية فالثالثة وهكذا حتى يصل إلى الكلمة الأخيرة التي يكون بعدها فقط قادرا على تصور البنية الكاملة للنص.
تغيب كل هذه الأصول حين يكون الأمر عملية تلقي نص رقمي: فهذا النمط الجديد من الإنشاء مبني على أصول تختلف تماما عن تلك التي تبنى عليها الأنساق الكتابية. فالوسيط الجديد (الحاسب الإلكتروني وفضاء الشبكة) يتيح أدوات أكثر تنوعا بكثير من تلك التي يتيحها الفضاء الكتابي. إذ باستخدام تقنيات الوسائط المتعددة Multimedia يمكن أن يفيد النص من الألوان والصور وأشرطة الصوت والفيديو. كما تؤدي فكرة الترابط التشعبي Link إلى انهيار صورة التلقي الخطي الكتابية ذات المسار ذي الاتجاه الواحد، فالنص الرقمي بنية كتليّة، تتألف من مجموعة من الكتل النصية التي يمكن التنقل بينها اعتمادا على الروابط Links، فنقرة على زر الفأرة تنقل المتلقي إلى كتلة نصية جديدة قد تكون مختلفة في كل محتواها البنائي. وأدّى هذا التكوين الكتلي إلى أن يكون من المتعذر تصور العمل الأدبي الرقمي ببداية ونهاية كما هو الحال في النص الكتابي أحادي المسار.
كما أن نظرية الأجناس الأدبية التقليدية لا تستطيع تجنيس النص الرقمي بسبب الطبيعة الجديدة التي يقوم عليها، فرواية مثل (صقيع) للكاتب الأردني (محمد سناجلة) يصعب أن تنطبق عليها أصول علم السرد، إذ تدخل في بنيتها الصور وأشرطة الفيديو والموسيقى، فضلا عن الكثير من الكتل النصية الشعرية التي تظهر عند النقر على روابط معينة.
هذه الطبيعة البنيوية الجديدة تضع المتلقي بإزاء كيان جمالي جديد، لم يطوِّر بعد أفق التلقي الخاص به، فهو يقبل عليه من غير أن يمتلك خبرة التلقي التي توازي تلك التي يمتلكها وهو يقرأ نصا كتابيا، بل إن الخبرة القرائية التقليدية قد تؤدي إلى إرباك تلقي النص الرقمي حين تفرض أفق التلقي الكتابي على النص الرقمي.
من ناحية أخرى لم يستطع مجتمع القراء بعد أن يطور عقدا اجتماعيا جديدا يرسم أفق التوقع الخاص بالأدب الرقمي. وكل ما يحدث اليوم هو أن متلقي الأدب الرقمي يطأ أرضا مجهولة لا عهد له بها من غير أن يعرف قوانينها وضوابطها المحلية. وهو يطور تجربته الفردية ببطء نتيجة لصعوبة الانعتاق من ربقة الأدب الكتابي الخطي.
غير أن جيلا جديدا ينشأ على هذا النوع الجديد من الآداب والفنون. جيل يتآلف مع تقنية الوسائط المتعددة ويجيد استخدامها، ويستمتع بها أكثر من متعته بالقراءة الخطية للنصوص الكتابية. وعندما يصبح عمر هذا الجيل الجديد بحدود متوسط أعمار المتلقين سيكون الأدب الرقمي أمرا واقعا وليس محض ظاهرة تجريبية. وعندها سيتمكن هذا الجيل من تطوير نظرية أدب جديدة قادرة على بناء عقد اجتماعي جديد للتلقي وبناء أفق التوقع الخاص بالأدب الرقمي عبر نماذج رقمية قارّة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب


.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي




.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء


.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان




.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي