الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مِنَ الذاكرة

ييلماز جاويد
(Yelimaz Jawid)

2012 / 2 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


كنا معتقلين ، ونحن سبعة عشر، في غرفة بأبعاد مترين إلى مترين ونصف ، في شقة في شارع الشيخ عمر تعود للحرس القومي ، لمدة خمس وأربعين يوماً ما رأينا فيها ضوء الشمس ، دع عنك ما كنا نلقاه من تعذيب جسدي و إهانات يمارسه أفراد الحرس القومي لا لشيئ بل للتسلية أحياناً وإفراغ حقدهم الذي لا يماثله غير سم الأفاعي . في يوم ، في منتصف حزيران ، تمّ نقلنا وغيرنا من أماكن أخرى إلى معتقل آخر ، أهم ما يتميز به أن حراسه من الجيش ، فلا تعذيب و لا إهانة ، و فيه ضوءٌ وأشعة شمس . المعتقل الجديد ، كان إسطبلات الخيالة الواقعة قبالة البلاط الملكي السابق . كل إسطبل بأبعاد أربعة أمتار إلى حوالي الثمان أمتار ، له بابٌ مغلقٌ حسبما تتطلبه التعليمات . حُشرنا في واحدة منها وكنا ستاً وأربعين ، ليس للفرد منا أكثر من 70% من المتر المربع . هناك ثلاثة أو أربعة فتحات بدل الشبابيك في إرتفاع يزيد عن ضعف قامة شخص متوسط في الطول . كان يسمح لنا بالذهاب إلى المرافق الصحية مرة في اليوم خارج الغرفة و كنا نتمتع بزيارات الأهل الشهرية . كانت الحكومة تخصص لنا مخصصات معيشة كما للسجناء العاديين والتي تساوي خمس ما كان للسجناء السياسيين ، وكانت لجنة من بيننا تقوم بمهام التسوّق وإعداد الطعام . كان الخامس من تموز اليوم الأول الذي سمح لنا فيه بالمشي في ساحة المعتقل منذ إعتقالنا في شباط . وكان منظر أجساد المعتقلين مريعاًً بما كانت تظهر عليها من آثار التعذيب الوحشي وأماكن جروح من ضربات ( الصوندة ) ( أي الكيبل الكهربائي مقطوع بطول يقارب المتر الواحد ) التي كانت لجان التحقيق تستخدمها للحصول على الإعتراف من المعتقلين .

كانت النساء والأطفال تحضر في أيام المواجهات الشهرية مبكرة لعدم وجود موعد محدد للسماح لهم بدخول المعتقل ورؤية أبنائهم . وقد كانوا ينتظرون في تلك الأيام الحارة من تموز وآب ساعات طويلة و تحت أشعة الشمس الحارقة ، حتى يقرر مسؤول المعتقل فتح الأبواب لهم : فهذه أم جلبت لإبنها كعكة ( شباك الحبايب ) ، وتلك زوجة طبخت ( الدولمة ) لزوجها وهذه طفلة تعلقت بعنق أبيها تأبى أن تتركه . كل عائلة تنتهز الفرصة لتبحث أوضاعها وتبني الآمال ، إلا القليل الذي لم يحالفه الحظ بزيارة من حبيب أو صديق أو فرد من العائلة .

كانت العلاقات بين المعتقلين يسودها الود والتعاون : فهؤلاء يلعبون الشطرنج وأولئك مشغولون بحياكة النمنم وغيرهم مشغول بممارسة بعض التمارين الرياضية أو تحضير الشاي . ومع ذلك كان البعض يتجمعون في مجموعات صغيرة ، حسب تقاربهم النفسي وتوافق أفكارهم ، فكان لي مثلاً نوري و موسى ، أذكر لهما الكثير من المواقف الأخوية الجدية والهزلية . التي تساعد الفرد على تحمّل قسوة الحياة في المعتقل . كان نوري يحملني على كتفيه لأقف وأنظر عبر واحدة من الفتحات المسماة شبابيك وأرى ما إذا جاء أحد من أهلي للمواجهة . وقد أنزل فرحاناً أو زعلاناً ، ولا أدري كيف كنت أعبر عن حالتي النفسية ، ولكن موسى كان يقلدني مستهزئاً وهو يفرك يداً بيد ويخاطب نوري قائلاً ( ولك داد .. جايّه ) والظاهر كان ذلك تعبيراً مني عندما كنت ألمح خطيبتي بين الحاضرين . وكذلك كان موسى ، وكان صغير الحجم ، يلف جسمه كله باللحاف بعد إنتهاء المواجهة ، ويستلقي على فراشه الملاصق لفراشي ، وعندما كنت أعود محسوراً أسمعه يغني ( للناصرية .. للناصرية ) ، وكان اللحاف الذي يغطي جسمه يحميه من ضرباتي ، وتنقلب حالة النفوس ويبدأ يوم جديد رتيب .

كان يوم الثامن عشر من تشرين الثاني ، بعد نجاح الإنقلاب العسكري ، من أيام الفرح التي مرّت علينا ، ونحن نرى أن جناحاً من المعتقل قد أفرز للبعثيين وأفراد الحرس القومي الذين كانوا جزارين بالأمس ونراهم اليوم جرذاناً تخاف خيالها . لقد إنطوت في هذا اليوم صفحة من تاريخ العراق ، وبدأت صفحة ، تلتها صفحات ، و لا زلنا شعباً بين معتقل أو مهاجر ، وبلدنا منحدر لا ندري أين ومتى يقف تدهوره .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فصائل المقاومة تكثف عملياتها في قطاع غزة.. ما الدلالات العسك


.. غارة إسرائيلية تستهدف مدرسة تؤوي نازحين بمخيم النصيرات وسط ق




.. انتهاء تثبيت الرصيف العائم على شاطئ غزة


.. في موقف طريف.. بوتين يتحدث طويلاً وينسى أنّ المترجم الصينيّ




.. قتلى وجرحى في غارات إسرائيلية على مخيم جباليا