الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هوبزباوم في -العولمة والديمقراطية والإرهاب-

سعد محمد رحيم

2012 / 2 / 12
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


من أكثر القضايا التي شغلت الكتّاب والمفكرين في العالم طوال معظم سنوات القرن العشرين هي تلك التي تتعلق بالصراع الطبقي والإشتراكية والرأسمالية والفاشية والحرب الباردة وحركات التحرر الوطني والاستعمار والاستقلال، الخ. إلا أن الأمر اختلف بدءاً من تسعينيات ذلك القرن حين بدأ الاهتمام يأخذ منحى آخر تحت تأثير تحولات عاصفة غيّرت من الخريطة الجيوسياسية لقارات الأرض، لاسيما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وتفرد الولايات المتحدة وحلفائها باتخاذ القرارات المصيرية التي تخص حياة البشر في كل مكان، واتساع الفجوة بين المجتمعات، وصعود الأصوليات وانتعاشها، واستفحال ظاهرة العنف، في موازاة تقدم تقني مذهل في مجالات الإعلام والاتصال، وتأسيس نمط مغاير من العلاقات في حقول السياسة والاقتصاد. وهذا كله أدى إلى إنشاء قاموس يحوي مفاهيم ومصطلحات ( بعضها جديد وبعضها اكتسب دلالات غير تلك التي عُرف بها ) هيمنت على لغة الفكر والثقافة والإعلام والعلوم الإنسانية.. هذا بعض مما يناقشه إيريك هوبزباوم في كتابه ( العولمة والديمقراطية والإرهاب/ الدار العربية للعلوم ناشرون ومركز الجزيرة للدراسات ـ بيروت 2009 ـ ترجمة أكرم حمدان ونزهت طيب ) وهوبزباوم مفكر ومؤرخ ماركسي شهير له مؤلفات لافتة أهمها ( عصر الثورة، وعصر رأس المال، وعصر الإمبراطوريات، وعصر التطرف ).
يعتمد هوبزباوم على فرشة واسعة من المعلومات الموثقة الخاصة بظاهرات عصرنا، فضلاً عن ملاحظاته الثاقبة حولها بعدِّه شاهداً على زمننا، ومراقباً لكثر من الأحداث الكبرى التي ميزت سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا. مخضعاً إياها لتحليل منهجي معمق مستفيداً من خبرته في حقل الدراسات التاريخية، حيث يضع كل ظاهرة واقعة في سياقها ليسهل عليه فهمها وتقويمها.
في مداخلته عن موضوعتي الحرب والسلم يقر هابزباوم أن القرن العشرين كان الأكثر دموية في تاريخ الإنسانية إذ هلك، خلاله، جراء الحروب وعقابيلها 187 مليوناً من البشر. وقبل هذا القرن كان الفرق بين الحرب والسلم جليّاً، لكن بعد العقد الثاني من القرن المذكور غدا الخط الفاصل بين النزاعات الدولية والأهلية مشوشاً، وأصبح شائعاً تدخل الدول القوية في شؤون الغير. كما "لم يعد ثمة تمييز واضح بين السلم والحرب، فباستثناء بعض المناطق هنا وهناك، فإن الحرب العالمية الثانية لم تبدأ بإعلان للحرب ولا هي انتهت باتفاقيات سلام". في الوقت الذي غاب فيه أي سلطة مقتدرة، حسنة النية، "بوسعها السيطرة على الخلافات المسلحة، أو إيجاد حلول لها ناجعة". حيث بقيت الدول الإقليمية/ القومية هي السلطة الوحيدة في إقرار المسائل السياسية والعسكرية. على الرغم من أن هذه الدول فقدت "احتكارها التقليدي للقوة المسلحة، وكثيراً مما كانت تنعم به من بأس واستقرار، كما فقدت على نحو متزايد المعنى الأساسي للشرعية". فراحت تتشكل، بالمقابل، جماعات خاصة ( عصابات وميليشيات ) بمقدورها الحصول على الآلة الحربية، وقنوات التمويل غير الدولية، لتصبح منافسة لسلطة الدول، تُنازعها في محاولات الاستحواذ على مصادر الثروة ومناطق النفوذ.
يخلق رصد هوبزباوم لتسارع خطى التاريخ، أي حركة التغيير المخيفة في حياة البشر، لديه هاجس الخشية على مصير النوع الإنساني والبيئة، إلى الحد الذي بتنا فيه "لا ندري إلى أين نحن ماضون". فيما نظام السوق الحرة المعولم لا يمكن ضبطه، وهو الذي أفضى إلى حصول اختلالات حادة في العلاقات بين الدول، ومن ثم تفاوتات تتسع يوماً بعد آخر لتكون "حواضن طبيعية للظلم والاضطرابات". وإذا كان انتهاء الحرب الباردة قد هيأ للولايات المتحدة فرصة أن تكون الدولة العظمى الوحيدة في العالم، فإن "السياسة العالمية الأمريكية موجهة نحو الداخل وليس الخارج، مهما كان تأثيرها على بقية العالم عظيماً ومكلفاً. فالولايات المتحدة ليست مصممة لتنتج إمبراطورية ولا هيمنة فعالة". بحسب هوبزباوم الذي يرى أن هذا الأمر لا يقلل من خطورة أمريكا، بل على العكس، طالما كانت تنشر الضبابية والاضطرابات والعدوان، كونها "قوة غير عقلانية وخارجة عن السيطرة". لكن المشروع الأمريكي لإحياء نموذج إمبراطوري للقرن الواحد والعشرين، بحسب هوبزباوم، مصيره الإخفاق في النهاية.
يناقش هوبزباوم في كتابه آنف الذكر حقيقة دوافع أمريكا لإقامة إمبراطورية تجعل من القرن الواحد والعشرين قرناً أمريكياً بامتياز. ويُرجع محاولاتها بهذا الصدد إلى تطورات أربعة وسمت عالم ما بعد الحرب الباردة، أولها: العولمة وما أفرزت من اضطرابات وتوترات وتفاوتات تنذر بانفجارات على الصعيدين الداخلي والخارجي، في مقابل ممانعة النشاط السياسي، دولياً، لها. وثانيها: انهيار توازن القوى الدولي مما هيأ الأرضية لاندلاع حروب عالمية ومحلية، وإشاعة الفوضى والخراب. وثالثها الضعف الذي أصاب الدولة القومية كنموذج عالمي للحكومة والتي باتت تفقد سيطرتها المحكمة على ما يجري على أراضيها. وأخيراً إحياء أشكال قديمة من النكبات العالمية وبروز أخرى جديدة مثل التهجير الجماعي والتطهير العرقي وانتشار الأمراض كالإيدز وإنفلونزا الطيور وتأثيرات التغير المناخي. وإذ صار العالم بحاجة إلى حلول تتجاوز الحدود القومية للدول، راحت تتهيأ لمخايل الساسة الأمريكان فكرة إقامة إمبراطورية مكيفة مع معطيات عصر مغاير لتلك التي هيأت لإقامة الإمبراطورية البريطانية.
هنا، يبدأ هوبزباوم بالمقارنة بين طبيعة الإمبراطورية البريطانية الآفلة والإمبراطورية الأمريكية البازغة. فالأولى اعتمدت على قوة أسطولها البحري خلال القرن التاسع عشر وكانت سيطرتها على الدول مباشرة، فيما تعتمد الولايات المتحدة على قوتها الجوية الضاربة تدعمها قواعدها المنتشرة في أنحاء المعمورة، وتسعى إلى نوع من الهيمنة الاقتصادية. وفي كلتا الحالتين سيطرت القوتان على اقتصاد العالم الصناعي "ليس بسبب حجم عدّتهما الإنتاجية بوصفهما ورشتي العالم"، وقد كان اقتصاد بريطانيا متوسطاً بين اقتصادات كثيرة حتى حين كانت تحكم ربع أراضي العالم وسكانه. فيما اقتصاد أمريكا، وإن كان هو الأكبر عالمياً، إلا أنه "لم يكن له، وليس له الآن، هذا الارتباط العضوي باقتصاد العالم". وقد اعتمدت أمريكا أكثر من بريطانيا على مصادرها المحلية وسوقها المحلي. وهي لا تزال "واحدة من أقل الاقتصادات اعتماداً على التجارة في العالم، حتى أقل بكثير من منطقة اليورو". ومارست القوتان تأثيراً ثقافياً على نطاق واسع بسبب عالمية اللغة الإنجليزية "لكن الهيمنة الثقافية لم تكن يوماً دليلاً على قوة إمبريالية". ويستنتج هوبزباوم أن الإمبراطورية الأمريكية، خلافاً للبريطانية، اعتمدت باستمرار على عضلاتها السياسية.
حددت الجغرافيا والتطور الديمغرافي، إلى حد بعيد، من بنية الإمبراطوريتين وطبيعتهما. فبريطانيا بمساحتها المحدودة كانت ترسل المستوطنين إلى مستعمراتها فيما بقيت أمريكا حتى وقتنا الحاضر مستقبلة للمهاجرين لما تمتلك من مساحة واسعة وتخوم. لذا "لم يكن الشكل المميز لقوة الولايات المتحدة خارج أراضيها استعمارياً، ولا حكماً غير مباشر ضمن إطار استعماري لحكم مباشر، ولكن نظام دولة تابعة أو مذعنة".
كانت التغييرات العاصفة بعد الحرب العالمية الأولى قد بدات بالإطاحة بالإمبراطورية البريطانية التي فهمت الظروف المستجدة وتأقلمت مع خسارتها السياسية. وهنا يتساءل هوبزباوم؛ "فهل ستتعلم الولايات المتحدة هذا الدرس، أم أنها ستُغرى بالتشبث بموقع آخذ في الزوال عبر اعتمادها على قوة عسكرية سياسية، لا تنشر نظاماً عالمياً ولكن نزاعات، ولا تقدماً للحضارة ولكن بربرية؟".
يستذكر هوبزباوم الحالة السائدة سياسياً في العالم حين ولادته في العام 1917 حيث كان معظم الأوربيين يعيشون في مناطق "كانت أجزاء من إمبراطوريات، بالمفهوم الملكي التقليدي أو المفهوم الاستعماري للقرن التاسع عشر". غير أن الوضع اختلف بعد ذلك، وزاد عدد الدول المستقلة أضعافاً مضاعفة. أفلت حقبة الإمبراطوريات من غير تعويض فعال، وها نحن اليوم "ننظر إلى الوراء من نافذة قرن جديد يغمره البؤس والمشاكل، ويفتقر إلى ما عرفته حقبة الحرب الباردة من نظام نسبي وتوقع بمآلات الأمور". وينكر هوبزباوم دعوى أن الاستعمار قد جلب التمدن والحضارة للشعوب المتخلفة، وإن لم تكن هذه الدعوى، في نظره، زائفة كلياً. وفي الغالب هيمنت، بعد العهد الاستعماري، أنظمة وطنية استبدادية على الشعوب التي عانت من الاستعمار، حتى أن "بعض الإمبراطوريات الغابرة، وليس جميعها، كانت أكثر تسامحاً فيما يتعلق بالتعددية العرقية واللغوية والدينية من الدول القومية التي خلّفتها".
وإذا كان عصر الإمبراطوريات قد انتهى إلى غير رجعة فإن علينا، بحسب هوبزباوم، إيجاد "سبل أخرى لتنظيم العالم المتعولم في القرن الواحد والعشرين".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وثائقي -آشلي آند ماديسون-: ماذا حدث بعد قرصنة موقع المواعدة


.. كاليدونيا الجديدة: السلطات الفرنسية تبدأ -عملية كبيرة- للسيط




.. المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري يعلن مقتل جنديين


.. مقطع مؤثر لأب يتحدث مع طفله الذي استشهد بقصف مدفعي على مخيم




.. واصف عريقات: الجندي الإسرائيلي لا يقاتل بل يستخدم المدفعيات