الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قرراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 13المثقفون وأدوارهم 2

عبد المجيد حمدان

2012 / 2 / 13
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


والآن وقد حان موعد الإجابة على السؤال الذي ختمنا به الحلقة السابقة : وماذا عن سوريا ومصر وما يقال عن مخططات التمزيق واصطناع كيانات هزيلة ، نبدأ من سوريا ونقول :
تتواتر تحذيرات النظام ، ومشايعيه ، مما يصفونه بمؤامرات تستهدف تفتيت سوريا إلى كيانات ودويلات . وتتوالى تحليلات ، ومداخلات ، ومقالات الكتاب والمحللين ، من المشايعين للنظام ، ومن محسوبين على التيار القومي العروبي ، وحتى ممن يحسبون على اليسار . وتتصاعد لهجة التحذير من هؤلاء جميعا ، مع تصاعد قمع النظام لمعارضيه ، المطالبين بالديموقراطية والحقوق والحريات . ويتفق جميع هؤلاء على أن استهداف سوريا ، ونظامها ، بهذه المؤامرة ، راجع لوقوفها ، كدولة ممانعة ، وخط دفاعي أخير ، في مواجهة المخطط الإسرائيلي الأميركي لإنهاء القضية الفلسطينية ، ولاستكمال السيطرة على العالم العربي ، وثرواته النفطية وغير النفطية الضخمة ، ومن ثم لإنهاء الحلم العربي في النهضة والوحدة . ويؤكدون أن الأطراف المعادية ، تستغل الأحداث الجارية ، وبعضهم يضعها في خانة المؤامرة ، للتدخل بوسائل وطرق وأشكال مختلفة ، وبخاتمها التدخل العسكري، لتنفيذ مخطط التفتيت هذا .
أ . ب . سياسة :
ولأنني في هذه الحلقة سأستعين بكتابات لمثقفين يساريين ، فلسطينيين بالأساس ، فسأبدأ بتذكيرهم بما يعرفونه من ألف باء العمل السياسي ، بدءا ببديهيات العمل الحزبي ، الذي مارسوه سنوات طويلة . فليس هناك مجال للظن ، بأن أحدا منهم يجهل القاعدة التي تقول بأن ساحة العمل الحزبي ، كما تعرف الصداقة والإئتلاف ، تعرف التنافس والخصومة ، التي قد تصل إلى العداوة . ويعرفون أن التنافس لا يقف عند حدود الحوار والمناظرة ، وإنما يتعداها للبحث عن السلبيات والسقطات واستغلالها . واستغلال الأخطاء والسقطات لا تحكمه ، دائما ، قواعد النزاهة والشرف ، وما إلى ذلك . ومسؤولية حدوث الثغرات في العمل الحزبي ، تقع على عاتق قيادته . ولوم الخصم الذي استغل الوضع ، وعمد إلى لعب غير نظيف ، لا يساعد القيادة على التخفيف من الأضرار التي تقع ، أو توفير أعذار تساعدها على التملص ، أو حتى التعايش ، مع أخطائها .
وإذن فإن ألف باء العمل السياسي توجب منع حدوث أية ثغرات ، تنجم عن أخطاء ، كالتناقض بين القول والفعل ، أو انحرافات في السلوك ، سواء تعلق ذلك بالأفراد العاديين ، أو بالقيادات الأعلى . وإذا ما حدث تغاضي عن السلبيات ، وحدث ما يجعل ثوب الحزب مليئا بالخروقات ، سهل ليس على الأعداء ، بل وحتى على الأصدقاء ، النفاذ تحت جلده ، سعيا لإخراجه من حلبة السياسة ، ونهائيا .
ولا شك أن أي صاحب خبرة حزبية ، يعرف أن ما ينطبق على الساحة الحزبية ، ينطبق ، وبصورة أعمق ، على ساحة الحكم . فليس هناك من نظام لدولة ، تنحصر علاقاته مع الأصدقاء فقط . كل نظام له منافسون وخصوم ، وأعداء في كثير من الأحيان . ولا أظن أن سياسيا متمرسا يمكن أن يتخيل ، أن اللعب في الساحة الدولية ، يقيد أطرافه بقواعد النظافة أو النزاهة . فهناك تربص دائم يبن الأطراف المتخاصمة ، خصوصا حين تتصادم المصالح ، وحين تكون هذه المصالح كبيرة . تربص يبحث عن الثغرات التي تساعد على النفاذ ، إلى قلب الخصم . وحين يكون ثوب النظام خلِقا ومهلهلا ، يكون توجيه اللوم إلى الخصم ، والغرق في الحديث عن التآمر والمؤامرات ، نوعا من عبث صبياني لا أكثر . عبث يحاول إبعاد المسؤولية عن كاهل النظام ، والتستر على الخروقات التي مهدت للخصم سبل النفاذ والتدخل . وإذا ما نظرنا إلى ثوب النظام في سوريا ، طالعتنا صورة غربال ، لكثرة ما في هذا الثوب الخلِق من ثقوب .
ج . د . سياسة :
يلاحظ المتابع للحالة السورية أن أي ذكر لمؤامرة التفتيت ، يستدعي فورا ، عند المثقفين ، محللين أو كتاب سياسيين ، عقدة سايكس – بيكو سيئة الذكر . لكن المتمعن لا يحتاج كبير جهد لكشف السر في ذلك . فسوريا بتكوينها الحالي جاءت كأحد نتائج مخطط سايكس – بيكو ، رغم أن اقتطاع لواء الإسكندرونة منها ، قد تم بعيدا عنه. كما يلاحظ المتمعن أن استنفار خطر التفتيت يأتي مناقضا لحقائق ، ما يمكن وصفه بجيم دال السياسة . كيف ؟
بداية فسوريا ، ومعها لبنان وقد عرفا الانفصال بعد نهاية الاستعمار ، كانتا مسقط رأس فكر وأيديولوجيا القومية العربية ، ومهد أحزابها . فيها نشأت جمعية العرب الفتاة ، على شاكلة تركيا الفتاة ، ثم فكر وتنظيم كلا من حزب البعث ، وحركة القوميين العرب . وفي فترة حكم البعث سوريا والعراق ، وباتت نواة حلم الوحدة في اليد . لكن مسؤولي الحزبين قدموا قضية تثبيت ، ومنافع كراسي الحكم ، على الحلم ، وليبقى قابعا هناك ، في خانة الحلم ، ثم ليتلاشى أمام ما يوصف بأخطار التفتيت الماثلة على الكل .
وبعد هذا ، لا يجهل أي متعامل بالسياسة ، وأي متحصل على قدر مقبول من الثقافة ، أن رسم مخطط كمخطط سايكس – بيكو ، وتطبيقه أمر فات أوانه . ذلك لأن الظروف الدولية الجديدة ، بمناقضتها لظرف سايكس – بيكو ، وضعت أمر مخطط شبيه ، وتطبيقه ، في خانات الاستحالة . وقد يسأل قارئ : وإذن كيف ؟
لقد جرى إعداد مخطط سايكس – بيكو أواخر الحرب العالمية الأولى ، التي شهدت مخططات أخرى مماثلة ،في أكثر من بقعة من بقاع العالم . لكن الأمر لم يتكرر في الحرب العالمية الثانية . لقد حدث أن البلدان التي احتلت جيوشها ألمانيا ، أبقت على هذا التقسيم الذي حدث بفعل الحرب . ونتيجة لهذا الواقع تشكل فيها نظامان ، في شرقها وفي غربها . لكن جيوش الحلفاء لم تعمد إلى أي تقسيم آخر ، لا في اليابان ولا في ممتلكاتها . وعلى العكس شهدنا في أوروبا توحد قوميات البلقان ، في اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية ، رغم ثقل تركة صراعات الماضي الدامية . وكما أشرت في الحلقة السابقة ، لم يقدم هذا الاتحاد الوليد ما يساعد على صهر هذه القوميات ، في هذه البوتقة الواحدة ، بعد حل ونسيان صراعاتها السابقة ، ولتعود إلى الاستقلال بعد أول فرصة توفرت .
وفي الحلقة السابقة ، أشرت إلى توفر حالة فريدة ، في عالمنا العربي ، ساعدت على تسهيل مهمة تطبيق مؤامرة سايكس – بيكو . ويعرف من يحظى بقدر قليل من الثقافة المعرفية ، أن هذه الحالة ذهبت إلى غير رجعة .
في كتابي " إطلالة على القضية الفلسطينية 2 "، الموجود على موقع الحوار ، توقفت عند نشأة دول جزيرة العرب ، لسبب العلاقة مع القضية الفلسطينية . ولأن واقعة ترسيم الحدود بينها لفتت انتباهي ، فقد توقفت عندها ،وبغرض وضع القارئ في صورة العالم العربي الذي كان قائما آنذاك ، وانعكاس ذلك الوضع على قضيتنا الوطنية . ومجددا يقدم ذلك ، كما أرى ، فهما لما يقال عن مخططات للتفتيت ، تستهدف عددا من بلدان الربيع العربي .
كان قد شغل منصب المعتمد البريطاني ، لمنطقة الخليج العربي والعراق ، في تلك الفترة ،أواسط الثلاثينات ، جنرال بريطاني اسمه بيرسي كوكس . نظم كوكس مؤتمرا جمع ملوك وأمراء المنطقة ، للاتفاق على ترسيم الحدود بين الدول الناشئة . في البداية تركهم كوكس للوصول إلى الاتفاق فيما بينهم . وبعد يومين من النقاشات والخلافات ، تدخل هو في الأمر ، وحدث الترسيم على النحو التالي : سحب قلما أحمر وخط على الورق خطوط الحدود المستقيمة ، ودون اعتراض ، ممن سادهم الخلاف قبلها . في وقت لاحق جاءه السلطان عبد العزيز آل سعود شاكيا ظلم كوكس له . ولأنه أثناء عرض الشكوى انفجر باكيا من شدة ما ألحقه كوكس من ظلم به ، استدر بكاؤه عطف الجنرال ، الذي قام بتصحيح الوضع على حساب أمير الكويت ، باقتطاع بعض من إمارة الكويت وإلحاقه بأرض السلطان . فرض كوكس أمرا واقعا على أمير الكويت ، وجاءت النتيجة أن خرج الكل راضين . ذلك كان الحال الذي كما أشرت ذهب إلى غير رجعة .


من جهة أخرى هيأت نتائج الحرب العالمية الثانية ظروف تصفية الاستعمار . لكن الاستعمار ، وقبل رحيله عن المستعمرات ، ترك للدول حديثة الاستقلال ، كثيرا من القروح والعلل ، والألغام القابلة للانفجار متى تهيأت اللحظة المناسبة . أهم تلك الألغام تمثل في إلحاق قوميات بأكملها ، وتقسيمها في أكثر الأحيان ، بالدول الناشئة . ولأن هذه القوميات عانت من الإهمال ، ومن إهدار شديد في الحقوق ، كان طبيعيا أن تتحرك في اتجاه الحكم الذاتي أحيانا ، وفي اتجاه الانفصال ، فدولة مستقلة جديدة ، في أحيان أخرى . وشكل السودان والعراق ، من عالمنا العربي ، أبرز الأمثلة في هذا الشأن .
ه . و . ز .(هوَّز ) سياسة :
لكن طريق القوميات ، سواء للحكم الذاتي ، أو للاستقلال ، لم يكن لا معبدا ، ولا حتى ممهدا . توجب على هذه القوميات ، مُهدَرة الحقوق في دولها الجديدة ، أن تعبر طريقا طويلا ووعرا ، قبل التوصل إلى بعض حقوقها . ذلك على الرغم من وجود قوى الاستعمار الجديد على القرب ، وعلى الرغم من وضوح أطماع هذه القوى في الثروات الضخمة ، التي تم اكتشافها بعد رحيله ، وبالتالي توافر حوافز فنوايا ، ما يوصف بالمخططات والمؤامرات الخارجية للتقسيم .
كان على القوميات مهدرة الحقوق أن تخوض نضالا صعبا ، يبدأ سلميا ، ثم ينتقل إلى الثورة المسلحة ، مطالبا بحقوقه ، ومقنعا الجوار أولا ، والعالم ثانيا ، بعدالة هذه الحقوق ، وعدم قابليتها للتصرف . ولكن ، وحتى التوصل إلى إقناع الأمم المتحدة ، وأصحاب مخططات التدخل ، على التحرك ، يحتاج إلى توفر عوامل إقليمية أولا ، ودولية ثانية ، تهيء الساحة لذلك .
وفي العقود الخمسة الماضية ، رأينا على اتساع العالم ، نماذج لحركات قومية حققت هدف نضالها ، بالحصول على الاستقلال ، فيما فشلت غيرها ، رغم قوتها وعنفوان فعلها النضالي ، في تحقيق هذا الهدف . كان جنوب السودان وتيمور الشرقية أمثلة على النموذج الأول ، فيما كانت كردستان ، بأقسامها الأربعة ، وكشمير ، وقومية التاميل في سيريلانكا ، والباسك في اسبانيا ، وارلندة الشمالية ، والشيشان ، والتبت ، أمثلة من النموذج الثاني .
وفي رأيي أن مثال تيمور الشرقية يستحق وقفة . فهذا البلد هو جزء – نصف – من جزيرة تيمور الاندونيسية . ولكنه خضع لاستعمار برتغالي امتد لقرابة أل400 سنة ، تشكلت خلالها ، في هذا الجزء من الجزيرة ، نوع من قومية مغايرة لأهالي نصف الجزيرة الثاني ، تيمور الغربية، بعد أن دخل أهلها دينا مغايرا ، الكاثوليكية . بعد الاستقلال سارعت اندونيسيا ، بقيادة الجنرال سوهارتو ، التي لم تعترف بهذا التطور الذي حدث في هذا الإقليم ، إلى اجتياح تيمور وضمها . لكن أهالي تيمور لم يعترفوا بهذا الضم ، وواصلوا الكفاح ، رغم شراسة القمع ، وعمليات الإبادة الجماعية ، لاستعادة الاستقلال . ورغم وقوع تيمور في منطقة حساسة ، على مقربة من استراليا ، إلا أن التيموريين احتاجوا لأكثر من ثلاثين سنة من الكفاح المرير ، وقرابة ربع سكان الإقليم ، قبل الفوز بالاستقلال ، والذي جاء واحدا من ثمرات الثورة الشعبية ، التي أسقطت نظام سوهارتو ، ووضعت اندونيسيا على بداية طريق الديموقراطية .
والأمثلة السابقة لا تشكل غير جزء من مشاكل القوميات ، التي تستدعي وجود مؤامرات ، ومخططات للتفتيت والتمزيق ، حسبما تطلع علينا نظم الاستهداف لثورات الربيع العربي . فأفغانستان مثلا تتكون من عدد من القوميات الموزعة ما بين أفغانستان وجاراتها . ومثلها إيران . ورغم وجود قوات الغزو الأميركي وحلفائها على الأرض الأفغانية ، ورغم أن تمزيق أفغانستان بين هذه القوميات ، وتوفر الإمكانيات لإحداث ذلك ، يوفر الحل الأمثل للمعضلة الأفغانية ، لم تظهر دلائل على وجود مؤامرة أو مخطط لذلك .
وفي إفريقيا وقع العديد من الحروب الأهلية ، حملت معها عمليات إبادة جماعية كثيرة . ورغم الطبيعة القبلية والإثنية للبلدان التي شهدت هذه الحروب الأهلية ، لم تسفر تلك الحروب ، لا عن تمزيق ولا عن تفتيت لتلك البلدان . رغم أن التفتيت والتمزيق يصب في صالح قوى الاستعمار ، التي يقال بأنها تتربص ببلداننا العربية . أخيرا قد يقول قارئ : ولكنك نسيت مثال قبرص وتمزيقه إلى جمهورية قبرص التركية الصغيرة ، وجمهورية قبرص اليونانية الأكبر حجما من الأولى . ونقول أن هذه شكلت حالة خاصة ، تمثلت في سرعة التدخل الخاطفة من تركيا المجاورة ، ولجم حلف الأطلسي لعضويه ، تركيا واليونان ، من تحويل هذه الحركة إلى حرب طاحنة بين البلدين . ورغم الواقع الذي تكرس على الأرض القبرصية ، ما زال العالم يرفض ما حدث . وما زالت تركيا عاجزة عن ضم ذلك الجزء التركي من قبرص إليها . وخصوصية هذا المثال تجعله غير قابل للإعادة ، أو التكرار في أية بقعة أخرى من العالم . ومثال ضم الكويت ، بعملية خاطفة ، للعراق ، وما لحقها من تبعات ، ما زالت طرية في الأذهان .
وعودة لسوريا :
تقوم دعاوى القبول بمؤامرة تفتيت سوريا ، على عداء كل من إسرائيل وأمريكا ، وأتباعهما ، لدور سوريا كدولة ممانعة ، في إحباط مخططاتهما الإقليمية من جهة ، وعلى واقع الفسيفساء الطائفية التي تشكل خارطتها ، من جهة ثانية . ورغم أن التجربة العالمية المعاصرة لم تسجل حادثة واحدة ، جرى فيها تقسيم وطن ، اعتمادا على تقسيماته الطائفية ، يأتي الجواب بأن سوريا ، كدولة ممانعة ، والحصن الأخير لقوى الممانعة في منطقتنا ، تشكل حالة استثنائية . وإذا قيل أن الطوائف في سوريا متداخلة بشكل يصعب الفصل بينها ، فتشكيل كيانات طائفية ، وأهم من هذا أن أحدا منها لم يرفع يوما شعارا كهذا ، ولم يخض نضالا من أجل الانفصال ، سيقال أن مخطط المؤامرة سينفذ قسرا . وإذا قيل : بأي قوى سيتم فعل ذلك ، والحاجة هنا لقوى هائلة ، وليس فقط كبيرة ؟ يأتي الجواب : بقوى التدخل العسكري التي يستدعيها خونة محسوبون على الثورة الشعبية ، وتحت ستار حماية الجماهير الثائرة من قمع النظام . وإذا قلت: ولكن ليس هناك في سوريا أيضا قوى قومية تشن صراعا قوميا من أجل الانفصال . يأتيك الجواب هناك القومية الكردية ، بملايين تزيد عن ثلاثة ، تستند إلى زعم بأن الدولة ، وبعد هذا الزمن الطويل على الاستقلال ، ما زالت تحرم مئات الألوف منهم ، من حق بسيط لهم ، هو حق حمل بطاقة الهوية الوطنية ، في تكرار سفيه لحالة البدون الكويتية .
في هذا الشأن طرح الصديق معاوية سؤالا : هناك العديد من دول العالم ، الغر ب بشكل خاص ، يشكل تلوين الفسيفساء الدينية والقومية فيها ، أضعاف مثيلاته في دولنا العربية ، بما في ذلك في لبنان ، ومع ذلك لا نسمع شكوى لأي تجمع طائفي ، أو تجمع قومي ، من إهدار لحقوقه ، ومن ثم مطالبة بتشكيل كيان منفصل ، كأهل البلاد الأصليين في كندا مثلا ، والذين لم تطلهم عمليات الإبادة ، كما جرى في جوارهم ، الولايات المتحدة ، لضمان استعادة فتثبيت هذه الحقوق . ما السر في ذلك إذن ؟ قلت : الجواب بسيط . تلك بلدان أخذت بنظم ديموقراطية ، ترفضها النظم العربية ، وتساندها في ذلك قوى سياسية ، يسارية للأسف ، وجمهور من المثقفين الذي اتصف دورهم بخيانة قضايا شعوبهم ، كما أوضحت في الحلقة السابقة . تلك الديموقراطيات كفلت لهؤلاء جميعا حقا أساسيا هو حق المواطنة ، الذي بالضرورة كفل سائر الحقوق الأخرى . وفي وطننا العربي تشكل قضية المواطنة أصعب القضايا ، وأكثرها حِدة ، والتي تواجهها الجماهير . وقد وصل الحال ، بهذه الجماهير ، حد أن أصبحت قطاعات عريضة منها تعيش غربة مؤلمة عن أوطانها ، صنعت خللا واضحا في مٍسالة الشعور بالانتماء ، رغم امتداد جذورها في تربة الوطن لآلاف السنين . قال : ولكن كيف ؟
قلت : دعنا نعود لما بدأناه ، ونتوقف عند بعض الكتابات لأربعة سياسيين يساريين ، صدرت مؤخرا . وأخص منها ثلاثا صدرت في الحوار المتمدن ، لكاتبين شيوعيين ، وواحدة ، لشيوعي في وكالة معا الإخبارية الفلسطينية ، وعدة مقالات ، لكاتب قومي عروبي ، كما يحب وصف نفسه ، في وكالة كنعان الفلسطينية أيضا . وواحدة – مقابلة في الواقع - لشاعر سوري يصف نفسه بماركسي شيوعي علماني ، في السفير الثقافي . ومن استعراضها ، وحوار كاتبيها ، سيصلك الجواب على سؤالك . ومن قراءتها بإمعان يمكن الوقوف على التالي :
1. يتفق الأربعة على أن النظام السوري ، وعلى مدار الأربعين سنة الماضية ، مارس ما لا يحصى من الانتهاكات للحقوق ، وأخضع الشعب لحالة من القهر تتجاوز كل وصف . ورغم اقتناعهم بحق الشعب في الخروج والمطالبة بالتغيير ، إلا أنهم يرون أن الجاري في سوريا ، تجاوز المطالب في التغيير ، إلى التمهيد بتطبيق مؤامرة خارجية ، يعمل ، ويدعو إليها ، خونة اندسوا في الحركة ، يعملون على تشويه ما هو حادث ، ويمهدون لحرب أهلية ، تستدعي بالضرورة تدخل قوى المؤامرة الخارجية ، وهي الغرب ممثلا بأمريكا وحلف الناتو ، في تكرار لما حدث في ليبيا .
2. يتفقون على تشخيص أن دول الخليج ، وقطر على نحو خاص ، والجامعة العربية على وجه العموم ، تلعب دور رأس الحربة ، في التمهيد للتدخل الغربي وتطبيق المؤامرة .
3. يتفقون على أن موقف سوريا الممانع للمخططات الأمريكية الإسرائيلية ، لمستقبل المنطقة ، ولعب سوريا لدور الحلقة المركزية لجبهة الممانعة ، المقصورة الآن عليها وعلى إيران وحزب الله ، هوما يشكل دافع الغرب الأساس ، وليس حريات وحقوق الشعب السوري ، وتطلعه للديموقراطية والحياة الكريمة ، للتدخل وتطبيق مؤامرة كسر هذه الجبهة ، فإكمال السيطرة الأمريكية على المنطقة ، ومن ثم المباشرة في تطبيق رؤيتها للشرق الأوسط الجديد .
4. يتفقون أن احتلال العراق أولا ، وليبيا فيما بعد ، برغم أن شعبي البلدين كان من الممكن أن يحصلا على الحريات والحقوق ، بغير وسيلة التدخل الأجنبي ، جرى بسبب معارضة النظامين للسياسات والمخططات الأمريكية الإسرائيلية للمنطقة ، وأن التدخل لم يجلب حرية أو كرامة ، وإنما جلب قتلا ودمارا في حدود هائلة ، وانتقالا لهذين البلدين من جبهة معاداة الاستعمار ، إلى جبهة التبعية له ، ومن موقع صيانة الثروة الوطنية ، البترول ، إلى ضياعها بتقسيمها بين قوى الغرب المحتلة .
5. يتفقون على حق الشعب في مطالباته بالتغيير ، واستجابة النظام ، الذي أعلن عن برنامج للإصلاح ، وعلى رفض (المندسين!) على الثورة لبرامج الإصلاح ، وارتكاب أتباعهم للجرائم المروعة ، التي يتناولها الإعلام ، ويلصقها زورا وبهتانا بالنظام ، لتشويه صورته ، وللتخويف من حرب أهلية ، ولاستدعاء العون الأجنبي ، لحماية الشعب منها . ويرفع القومي العروبي النداء :" إلى من اتخذتم لغة الثورات في أرض سوريا والعرب ، ليس في سوريا ثورة وإنما مجموعات حاقدة مخربة من الهمج ، محلية ( مرتزقة أو متسللة أحلت لنفسها نشر الفوضى .... ) .
6. يتفقون على أن الثورة الوطنية تنجز أهدافها بعيدا عن العون الخارجي . ويستشهد اثنان منهم بالثورة البلشفية ، التي رغم أنها لم تتلق مثل هذا العون ، فإنها أنجزت أهداف الثورة، وفي مقدمتها صد تدخل عسكري أجنبي ، شنته عليها أربع عشرة دولة ، بقيادة بريطانية وفرنسية ، الدولتان العظميان آنذاك . ومن ثم ترك الشعب السوري ليحل مشاكله مع النظام ، بالحوار أو بغيره ، بعيدا عن أي تدخل ، عربيا كان أم أجنبيا . ولا أظن أن الكاتبين قصدا هنا إدخال أنفسهما في تعارض مع سير التاريخ . فالاستشهاد غير صحيح ، لكن ليس هذا مجال مناقشته .
7. يتفقون على رفض ديموقراطية أمريكا ، إذ يصرخ الشاعر السوري :" أنا أكره هذه الديموقراطية وأمريكا " ، ويجاوبه الشيوعي الفلسطيني :" متى نصل كلنا إلى النتيجة القائلة بأن ديموقراطية أمريكا هي أخطر أنواع الديكتاتورية " . ويلخص موقفه من مطالب الجماهير بالديموقراطية :"الدكتاتور المقاوم للاحتلال والاستعمار أقل خطرا من الديموقراطي المحتل والمستعمر " . أما القومي العروبي فيصرخ :" ألا يعني سقوط النظام السوري سقوط المشروع القومي العربي ؟ ألا يعني سقوط النظام السوري تصفية تحرير فلسطين وحق العودة لجيلين قادمين ؟ماذا يجني هؤلاء من ضياع فلسطين ؟ ثم يقدم الجواب على أسئلته قائلا :" سقوط سوريا يعني سقوط الثقافة القومية ، ثقافة المقاومة والممانعة ، يعني قطع ظهر المقاومة اللبنانية ، وخاصة حزب الله " . مرة أخرى يضع الكتاب أنفسهم في تعارض مع الواقع ، بوضع الديموقراطية ومطامع أمريكا الاستعمارية في كفة واحدة . ومع أن المكان لا يتسع للرد ، نسألهم : ما رأيكم في ديموقراطيات ، الهند ، البرازيل ، جنوب إفريقيا ، السنغال ، اليونان ، قبرص ، بنغلاديش ، سيريلانكا ......أليس من الممكن إختيار إحداها نموذجا ؟
8. أخيرا يتكئ المدافعون عن النظام السوري ، وبضمنهم الكتاب المشار إليهم ، إلى موقف روسيا والصين ، في مساندة سوريا ، وإحباطهما مخطط التدخل الغربي تحت راية الأمم المتحدة ، بإشهارهما الفيتو في مجلس الأمن . ويذهب كثرة من المثقفين – الفلسطينيين على الأقل – إلى اعتبار موقف الدولتين بالمبدئي ، رافضين النظر للمصالح والتنافس بين جماعات الدول الكبرى ، ليشيروا إلى صحة موقف النظام ، وخطأ طريق المعارضة . ويذهب احد الكتاب السالفين إلى حد القول :" بعد هذا الرفض الحاسم من روسيا والصين ، على النظام السوري تعميق التنسيق معهما ، وإجراء إصلاحات جذرية جدا ، ومكافأة هذا الشعب السوري البطل الذي يرفض التدخل الخارجي رغم الظروف المعيشية التي يعيشها ، وخاصة بسبب الضغوط الخارجية الإجرامية ، مكافأته بكل ما يحق له من حرية وديموقراطية وحياة كريمة ..." . ويستبق الكاتب معارضيه في الرأي بتوجيه اللوم لهم قائلا :" أما ظهور بعض الأقلام عندنا وكأن التنافس بيننا على من هو أكثر ديموقراطية فهو أمر خاطئ جدا ، لا يعتمد على موقف فكري طبقي صحيح ، نجد فيه أحيانا تسويق للذات بعيدا عن استيعاب المعادلة وأطرافها " . ويقول الرفيق الآخر بعد إشادة بخطاب الأسد الأخير ليشيد بما وصفه بِ "وطنية الشعب السوري العريقة ووعيه المرهف الذي أدرك في اللحظة المناسبة طبيعة وهول المؤامرة على وطنه ، ورفع مهمة درء وإحباط هذه المؤامرة التي تحتشد وراءها قوى إقليمية ودولية عريضة ، وعلى رأسها الولايات المتحدة ، إلى أولوية استثنائية تعلو على أية مهمة أخرى دون أن يعني ذلك تخليه عن أهداف انتفاضته لتحقيق الإصلاح والتغيير حتى إنشاء نظام ديموقراطي تقدمي حقيقي ."
وبعد :
تتطلب مناقشة الأفكار الواردة في هذه المقالات ، والتلخيص المقدم بالنقاط الثمانية ، مساحة تزيد كثيرا عما تبقى من هذه الحلقة . مساحة ربما تمتد على أكثر من حلقة . وسأكتفي فيما تبقى من هذه الحلقة ، بمناقشة قضيتين ، أسبقهما بطرح مجموعة من الأسئلة تتعلق بقضيتنا الوطنية ، وبموقفنا الأخلاقي ، الإنساني ، الوطني ، القومي ، تجاه ما يعانيه إخوة لنا ، تحت مسمى الانتصار للقضية الفلسطينية .
ألم يحن الوقت كي نسائل أنفسنا : بموجب أي مبررات أخلاقية وإنسانية نطالب شعوبا شقيقة بتحمل عسف وقهر نظمها الحاكمة ، بدعوى أن هذه النظم تساند قضيتنا الوطنية ؟
ألم يحن الوقت كي نسائل أنفسنا مرة أخرى : بموجب أي مبررات أخلاقية نتقبل ، ونسكت على ، استخدام قضيتنا غطاءا لإمعان نظام ما في قهر شعبه ، لتقنين الفساد ، للحفاظ على بقائه ومكاسبه ، على حساب لقمة خبز طبقاته الفقيرة ؟
ألم يحن الوقت كي نسائل أنفسنا مرة ثالثة : ألا تفرض علينا قيمنا الإنسانية ، ومبادئنا الأخلاقية ، مناصرة شعب شقيق ، كالسوري الآن ، تحمل الكثير من القهر واغتصاب الحقوق ، تحت ستار مناصرة قضيتنا الوطنية ؟
وألم يحن الوقت ، رابعا وأخيرا، كي نسائل أنفسنا : بموجب أية حقوق ، وتحت أية مبررات ، وخدمة لأية قضية ، يعمد بعضنا إلى تحدي واستفزاز إخوتنا العراقيين ، بإقامة نصب تذكارية ، لطاغيتهم صدام حسين ، تتصدر عددا من ميادين بلداتنا وقرانا ؟ وهل يمكن أن نفاجأ بإقامة نصب مماثلة لطاغية ليبيا معمر القذافي ؟
وبعد هذه الأسئلة سأتوقف عند قضيتين ، طرحتهما مقالات الكتاب الذين سبقت الإشارة إليهم . الأولى تتعلق بما يقال عن الإصلاح الذي يعرض النظام السوري البدء به وترفضه المعارضة . والثانية مسألة الممانعة وحقيقة موقف النظام السوري منها .
حقيقة الإصلاح :
يستند رافضو منهج المعارضة السورية ، في بعض أسانيدهم ، إلى ما يصفونه باستعداد النظام ، طرح وتطبيق برنامج للإصلاح والتغيير ، تقابله المعارضة بالرفض التام ، في دلالة على أن مطالبها تتجاوز الإصلاح ، إلى هدم النظام ، ونقله من موقف الممانعة ، إلى الارتماء في الأحضان الأمريكية الصهيونية . وفي إشارة جديدة يضيفون : أن المعارضة أعطت تأكيدا إضافيا تمثل في رفضها الجلوس للحوار على مائدة له في موسكو . ويقولون أن الروس ، بعد الفيتو في مجلس الأمن ، انتزعوا موافقة النظام على الجلوس مع المعارضة للحوار حول خطوات الإصلاح ، في مؤتمر يعقد في موسكو وتحت رعايتها .
وفي محاوراتهم ، يتجاهل رافضو منهج المعارضة جملة حقائق تتعلق بمطالب الإصلاح . منها أن النظام بادر إلى مواجهة مطالبات الجماهير ، التي بدأت سلمية في درعا ومحافظتها ، بالقمع العنيف ، وبما في ذلك استخدام الدبابات . واعتمدت هذا الأسلوب منهجا في التعامل ، تواصل لعدة أشهر ، قبل ظهور أية جيوب للمقاومة العنيفة . وفيما بعد اتسمت ردود النظام على مطالب الإصلاح ، ليس فقط بالبطء الشديد ، وإنما بالشكلانية أيضا . وتمثل أول رد معقول بمنح الجنسية لقرابة مائتي ألف كردي ، دون تقديم تبرير منطقي ، لإبقاء مئات الآلاف منهم ، كل هذه السنين ، ضمن تصنيف البدون . والمهم أن نهر الدم المتدفق واصل تجاوز استجابة النظام للإصلاح ، ويفرض رفع سقف المطالب ، وليتكرر البطء ورفع السقف من جديد .
والأهم من كل ذلك ، لا يتوقف مناهضو المعارضة عند ماهية عروض الإصلاح التي تقدم بها النظام . ودون أن يسألوا أنفسهم : لماذا اعتمد النظام منهج القمع الرهيب في مواجهة المظاهرات الشعبية ؟ لماذا لم يبادر إلى اعتماد منهج الاستجابة للمطالب ، التي يتفق الجميع على أنها محقة ، واستحقاق الشعب السوري لما هو أعمق منها ؟ لماذا اعتمد منهج القمع الذي يوفر للمعارضة العميلة والخائنة ، كما يصفونها ، فرص طلب الحماية ، فالتدخل الخارجي ؟ لماذا لم يبادر ، وهو الأعرف بطبيعة وجوهر مخطط مؤامرة التفتيت ، بقطع الطريق على هؤلاء الخونة وأصحاب المؤامرة ، بالبدء الفوري والجاد بتطبيق الإصلاح ؟ لماذا كل ذلك البطء في السعي لكسب وتعزيز ثقة الجماهير، فدفعها لمواجهة المندسين ، ومنعهم من تنفيذ الجرائم ، التي يبرر بها تواصل سيل نهر الدم ، وإغراقه لمناطق واسعة من سوريا ؟
يرفض مناهضو المعارضة السورية ، مجرد النظر إلى ماهية الإصلاحات التي يطرحها النظام ، وقبول حقيقة أنها تلامس القشور فقط . من يعرف شيئا عن سوريا ، يعرف أن المشكلة تتجاوز كون الدستور يثبت حزب البعث في موقع الحزب القائد . ويتجاوز حظر تشكيل الأحزاب ، وحرية التعبير ، وغيرها من الحريات . المشكلة الأساس تتمثل في الرئاسة أولا ، وفي طبيعة ومهام الداخلية وأجهزة الأمن العديدة المتفرعة عنها ثانيا . والإصلاحات المطروحة من النظام ، لا تمس أيا منهما ، لا من قريب ولا من بعيد .
عن الأخيرة وعملها ، وقعت بين يدي ، قبل البدء في كتابة هذه الحلقة ، رواية جديدة ، صادرة عن دار الآداب ، اسمها القوقعة يوميات متلصص ، للكاتب مصطفى خليفة . والكتاب ليس رواية بالمعنى المعروف والمألوف . هو نوع من تسجيل ، مع تهذيب أدبي ، ليوميات معتقل ، قضى في زنازين المخابرات ومعتقل تدمر الصحراوي ، ما يزيد قليلا على اثني عشرة سنة ، وسنة وبضعة أشهر بعدها في أقبية تحقيق عدد من أجهزة أمن النظام في العاصمة . المفارقة أن هذا السجين مسيحي اعتقل بتهمة الانتماء لتنظيم الإخوان المسلمين ، مباشرة من الطائرة ، التي أقلته عائدا إلى الوطن ، بعد تخرجه من باريس في الإخراج السينمائي .
ما يهمنا هنا أن قارئ الكتاب ، المذكرات ، قد يتجاوز السرد للأهوال التي يمر بها السجين في هذا الجحيم الذي صنعه النظام ، والتي تتجاوز قدرة أي إنسان ، يتحلى بقدر معقول من التفكير السليم ، على مجرد التصور بوجودها ، في بلد عربي . وعلى مجرد التكفير باحتمال أن يعمد نظام ، يوصف بالتقدمي ، والمقاوم ، والممانع ، إلى ممارستها ضد شعبه . لكن القارئ لا بد سيتساءل : كيف ، ولماذا اصطبر الشعب السوري على إهدار إنسانيته ، قبل كرامته ، بهذا الشكل المناقض لكل منطق ، والمنافي لأي عقل ، كل هذه السنين الطويلة ؟ ولا بد سيسأل : كيف سيكون شكل الثأر من هذا النظام ، إن ثار وتحقق له النصر ؟
أثناء قراءتي للكتاب المذكرات ، ظللت أسأل نفسي : كيف توصل هذا النظام لصناعة أجهزة ، وشحن تعبئة أفرادها بكل هذا القدر من انعدام الإنسانية ؟ بكل هذا القدر من الوحشية ؟ بكل هذا القدر من الحقد والكراهية ؟ بكل هذا القدر من غياب الضمير ؟ حتى يقدروا على إهدار آدمية الإنسان ، بآلاف الصور التي تعرضها هذه المذكرات ؟ وفي النتيجة : بم ستفيد أية إصلاحات دون هدم هذا النظام البوليسي القمعي من جذوره ، والبدء في بناء نظام بديل حقا وبالمطلق ؟
أما عن الرئاسة ، التي تشكل كل ماهية النظام في سوريا ، فإن المتابع ليعجب من الحديث عن إصلاحات وتغيير ، لا يقترب منها . ومشكلة الرئاسة في سوريا ، لا تقف عند مسألة اغتصاب الأسد الأب للنظام الجمهوري ، واستبداله بنظام ملكي مطلق ، وتوريثه لعائلته . كما لا تقف عند حدود أن هذا النظام ، تفوق على كل الملكيات في المنطقة في الصلاحيات التي يمنحها الدستور لمليكه . ولا في اقتداء كافة النظم الجمهورية العربية به ، والبدء في خطوات التحويل إلى هذا الشكل العصري للملكية ، وتوريثها للأبناء والأقارب . المشكلة أن خطوات الإصلاح ابتعدت تماما عن تلميح يخص هذا النظام . والغريب أن مطالبي المعارضة بقبول عروض الإصلاح ، والانتقال للحوار ، يتجاهلون حقيقة أن عدم المس بموقع الرئيس وصلاحياته ، يفرغ أي إصلاح من أي مضمون . ويتجاهلون حقيقة أن الأسد لو بادر إلى الإعلان ، حتى بعد الشهر الأول من الثورة ، عن عدم الترشح لدورة ثالثة جديدة ، ولفتح المجال أمام انتخابات تعددية لمنصب الرئاسة ، لكانت المسألة قد حلت ، ولما وصل حال الصراع ، ونهر الدماء إلى هذا الحد .
ولإعطاء فكرة عن صلاحيات الملك الرئيس ، وتأليه الإعلام وأجهزة الدولة المختلفة له ، سأسمح لنفسي برواية واقعة حدثت لي .
في مطلع التسعينات من القرن الماضي ، انعقد في دمشق لقاء للأحزاب الشيوعية في المنطقة ، مثلت فيه حزبنا الفلسطيني . على هامش اللقاء ، وفي الاستراحات ، دارت كالعادة أحاديث غير رسمية ، روى فيها مضيفنا السوري حادثة تتعلق بدور وصلاحيات البرلمان في التشريع والمراقبة . والقارئ لا يحتاج لتذكيره بأن الحزب الشيوعي السوري ، مضيفنا ، كان مشاركا في الحكومة ، وله أعضاء في البرلمان . قال أن البرلمان ، وبعد مسيرة زادت عن عشرين سنة ، وكحالة يتيمة ، لم ولن تتكرر ، كان له كلمة في مشروع قانون ، عرف باسم قانون إن . فالعادة أن يرسل الرئيس بمشاريع القوانين إلى البرلمان ، الذي ينحصر دوره في المصادقة عليها ، وإخراجها لتصدر في الجريدة الرسمية . وفي يوم وصله مشروع قانون وردت فيه كلمة أن . ولأن السوريين معروفون بإتقانهم للغة العربية ، ثار في المجلس نقاش ، حول صحة الكلمة ، وهل هي أن أم هي إن . وبعد ساعات أقر البرلمان تغيير الكلمة من أنَّ إلى إنَّ وليعرف هذا القانون ، على سبيل التندر بقانون إنَّ .
ولنا أن نسأل : ما قيمة أية إصلاحات لا تنص على تحديد فترة إشغال منصب الرئاسة ؟ وما قيمة تغييرات لا تخفض من صلاحيات الرئيس ؟ وما قيمة إصلاحات تطال الإعلام ، بينما يستمر قانون العقوبات على المس بالذات الرئاسية ؟ وما معنى المطالبة بترك الشعب السوري وحيدا في مواجهة هذا النظام ؟ هل المقصود إطلاق يدي النظام ليواصل عمليات الذبح ، التي قد تنتهي بتركيع ما يمكن أن يتبقى من الشعب ، وبما لا يصل النصف ؟
هل هو نظام ممانعة ؟
وبعد سيل الأسئلة ، والسابقة مجرد أمثلة عليها ، بأجوبتها المعروفة ، نتوقف عند سؤال أخير يقول : هل صحيح أن النظام السوري نظام ممانعة ، يتوجب على ذوي الرؤية الطبقية الصحيحة ، كما أشار كاتب شيوعي محترم ، دعمه ، لأنه بعدائه للاستعمار ، على المديين القريب والبعيد ، أفضل لشعوب المنطقة ، ولشعبه بالضرورة ، من نظام ديموقراطي ذي ميول غربية ؟
تفرض علينا إجابة ، تتوخى الوصول للحقيقة ، تجنب المهاترات حول توالي السنين ، وانعدام الحركة في اتجاه تحرير الجولان ، وغلق جبهتها في وجه المقاومة . ولا التذكير بأن هرولة هذا النظام ، في العام 91 ، أربكت منظمة التحرير ، وعملت على تسريع هرولتها للحاق بما وصفته بقطار الحل الأميركي ، واللحاق بموطئ قدم لها ، ولو على سلالمه الخارجية . كما لا نريد الدخول في مهاترة حول مبررات انضواء النظام ، وجيشه ، تحت لواء أمريكا ، وجنرالها شوارتزكوف ، في حرب تدمير العراق الأولى ، المعروفة باسم حرب تحرير الكويت . ونسأل : هل الممانعة ، تقف عند حدود الاصطفاف في جبهة مع إيران وحزب الله ، تناصبها أميركا وحلفاؤها العداء ؟
مرة أخرى نذكر ، بأن ألف باء النضال ، تقول بأن المناضلين ، كوادرهم على الأقل ، يعرفون يقينا مدى تفوق القوى المعادية ، وفي جوانب كثيرة . ويعرفون ضرورة توفر عوامل ، معنوية ، أدبية ،سياسية وأخلاقية ، تضمن ، ليس فقط معادلة تفوق العدو المادي ، بل وكسر هذه المعادلة ، لضمان النصر . ويعرفون أن ليس أخطر على أي ثورة من تخلخل قيمها الأخلاقية ، اللازم تفوقها على العدو بالضرورة ، وفي مقدمة ذلك تسلل الفساد ، بأي نوع منه ، إلى الصفوف . والقيادة التي تسكت على الفساد ، وترصد نموه ، دون تدخل ، تعلن عن فقدان ثقتها بالنصر ، لتجري تبديلا بين الوسيلة والهدف . وبوضوح أكثر يتحول رفع الشعارات عن قضية الثورة إلى وسيلة ، فيما يتحول الكسب ، بأساليب الفساد إلى الهدف . والأمر المحقق أن تبتعد آفاق النصر ، بكر الأيام والسنوات .
ورفع الدولة لشعار المواجهة ، أو المجابهة ، أو الممانعة ، هو موقف ثوري ، يتم التصدي فيه لقوى أعظم وأعتى بكثير ، من قواها الذاتية ، وقوى حلفها ، كما هو الحال مع سوريا . ولا يحتاج المرء لعلم كبير كي يرى أن تسلل الفساد لكيان دولة الممانعة ، يمثل الخطر الأكبر والأشرس ، عليها وعلى مواقفها . والسكوت على الفساد ورعايته لا يعني غير أن التبديل ، بين الهدف والوسيلة ، قد تم منذ بعض الوقت . وهو حال النظام السوري ، منذ أمد ليس بالقصير .
في مطلع ثمانينات القرن الماضي ، كنت عائدا لدمشق ، من زيارة قصيرة لبيروت – في الأربعة عقود الخالية دخلت لبنان ثلاث مرات ، لم أتجاوز الليلتين في أي منها - . في نقطة الحدود المعروفة بالمصنع ، توقفنا لتدقيق جوازات السفر . وكعادتي اغتنمت فسحة الوقت لإشباع نهمي في مشاهدة الطبيعة . وكان أن لفت نظري وجود شارع ترابي ، على يمين الشارع الرئيسي ، أسفل الجبل ، وبمسافة لا تزيد عن كيلومترين ، يكتظ بشاحنات وحاويات محملة ، ومتجهة إلى الشام . سألت مرافقي ، ليرد ضاحكا : هو شارع التهريب . ظننت أنه يمزح ، ولذلك قلت : كيف ذلك وهو مرئي بهذا الوضوح ، وتسير فيه عشرات الشاحنات معا ، إن لم يكن أكثر . قال : هو شارع التهريب ، وهو مكشوف لأن التهريب يتم لصالح كبار ضباط الجيش . ولأنه بان علي عدم التصديق أضاف : ألم يلفت نظرك ذلك الكم الكبير من السجائر الأمريكية تباع على الأرصفة ، بأسعار تقل كثيرا عن التسعيرة الرسمية ؟ قلت بلى ، ولفت نطرى تكدس بضائع متنوعة بذات الطريقة . قال هي هذه ، تأتي من هذه الشاحنات التي تراها . وحين تساءلت عن مهمات هؤلاء الضباط وجيشهم ، أجاب : على رأي غوار: حط في الخرج . ومنذ تلك اللحظة فارقتني القناعة ، بأن تكون سوريا دولة مواجهة ، أو مجابهة ، أو ممانعة . وحلت مكانها قناعة نقيضة ، تقول بأن رفع سوريا لذلك الشعار ، لا يشكل أكثر من غطاء ووسيلة للحفاظ على تثبيت وتعزيز مكاسب ومصالح القائمين على النظام ، لا أكثر ولا أقل .
ولم تمض غير بضعة أشهر ليكون الاجتياح الإسرائيلي للبنان ، بغرض القضاء نهائيا على المقاومة الفلسطينية . الاجتياح الذي تتوج بإخراج المقاومة . وقبل الاجتياح وجهت إسرائيل ضرباتها لصورايخ الدفاع الجوي السورية المنصوبة في البقاع ، لتدمرها عن بكرة أبيها ، وقبل انطلاق صاروخ واحد ضد الطائرات المغيرة . ولم تكتف إسرائيل بهذا بل نفذت مذبحة ضد الطيران الحربي ، شمل أكثر من ثمانين طائرة في دقائق معدودة . وانبرت أقلام المحللين والمعلقين لتبرير الكارثة ، ودون أن يشير أي منها ، ولو من بعيد ، إلى ما فعله الفساد في ذلك الجيش الأبي .
والآن ، وفي ختام هذه الحلقة ، لا بد من سؤال الرفاق القانعين بأفضلية دكتاتور ممانع للمخططات الإمبريالية ، على حاكم ديموقراطي غير ممانع : هل خيارات الشعوب تنحصر بين هذا وذاك ؟ أليس من الممكن أن يضع الحاكم الديموقراطي مصالح الوطن قبل مصالح أفراد النظام ؟ أليس من واجب القوى الثورية العمل ، بكل الجد ، للحيلولة دون وقوع النظام الجديد في أسر الغرب ؟ ألا يفرض الولاء للوطن ، والاهتمام بمصالح الجماهير، سلوك النظام الجديد طريقا ، قد لا يتصادم ، ولكن لا يتوافق مع مطالب الغرب ؟ ألا يحتاج الأمر للانخراط في النضال ، بدل التحيز لنظام يرفضه الشعب ؟ والأهم من كل ذلك ، من زاوية مصلحتنا نحن كفلسطينيين : هل هو قدر قضيتنا أن لا يساندها من الحكام العرب ، غير دكتاتور ، يذيق شعبه كل أصناف الويلات ، متذرعا بنصرة قضيتنا ؟وهل مصلحتنا على المدى القصير والمتوسط والبعيد ، مناصرة مثل هذا الدكتاتور على ظلم شعبه ؟ لا تقولوا أننا نتبنى مطالب الشعب ، وننصح الدكتاتور بالاستجابة لها ، لأنكم تعرفون أنه لن يفعل ، وأنه يوظف انحيازكم له ، لإعمال ساطور الذبح في رقاب شعبه . وأختم بالسؤال : من أي منظور أخلاقي أو إنساني نفعل ذلك ؟
وأخيرا يؤلمني ويقض مضجعي ما وصل إليه حال اليسار . كانت القاعدة أن الشيوعي مثل السمكة والماء . والماء هو الجماهير ، إن خرج منها مات . ومعروفة توصية ماركس عن الانحياز للجماهير ، حتى ولو كانت على خطأ . وقدم بنفسه المثال مع كومونة باريس ، رغم قناعته بانعدام فرصتها للنجاح . وما نراه أن يساريين وشيوعيين ينقلبون على القاعدة التي تربوا عليها ، وينحازون لنظام ، أقل ما يوصف به أنه مجرم ، مبررين مواقفهم بسلسلة من الأعذار، المناقضة لذات المنطق ، الذي بنى اليسار به وعليه أمجاده .
وبعد سوريا ، ماذا عن مصر ؟ لننتظر الحلقة القادمة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تقارير تتوقع استمرار العلاقة بين القاعدة والحوثيين على النهج


.. الكشف عن نقطة خلاف أساسية بين خطاب بايدن والمقترح الإسرائيلي




.. إيران.. الرئيس الأسبق أحمدي نجاد يُقدّم ملف ترشحه للانتخابات


.. إدانة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب توحد صف الجمهوريين




.. الصور الأولى لاندلاع النيران في هضبة #الجولان نتيجة انفجار ص