الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المواطن ومحيطه في الدولة المستبدة

حسن الجنابي

2002 / 9 / 14
اخر الاخبار, المقالات والبيانات



تهدف السلطة المستبدة الى تدمير المحيط الاجتماعي والبيئي الذي ينتج أو يسند الرأي المعارض. ولا يوجد مكان تمارس فيه هذه السياسة بمثل البشاعة التي جرت بها في العراق على مدى العقود الثلاث الماضية. وأزعم أن الدرس الاول الذي يتوجب فهمه لمن يتصدى لمشكلات العراق بعد زوال النظام الحالي، هو أنه لا توجد حلول سحرية لمصائب العراق لأنها بحاجة الى معالجة متأنية، قد تكون مؤلمة في بعض فصولها، لتنجح في استئصال اسباب الكارثة الصدامية، وتمنع عودتها بأي شكل من الاشكال.
مما يدعو للتفاؤل أن أعداداً متزايدة من العراقيين تدرك حجم التحديات المقبلة، رغم عدم وجود فهم موحد لسبل معالجتها. يعود السبب، أساساً، لفداحة الكارثة التي تعصف بالبلاد نتيجة مغامرات الدكتاتور، وسياساته الرعناء في التمييز، والقمع، والعسكرة المفرطة، وما سببته من تحطيم للعلاقة العضوية، الضعيفة اساساً في بلادنا، بين مؤسسات المجتمع من جهة، والدولة من جهة اخرى، إثر تكريس دعائم السلطة الحزبية في ميادين الحياة كلها، فتشوهت العلاقة الفطرية بين الفرد ومحيطه الاجتماعي، استجابة لسياسة التمييز الرسمي على اساس الولاءات الحزبية، وضعفت، بالنتيجة، علاقة المواطن بمحيطه البيئي كذلك.
فالإنسان مجبول بالفطرة على احترام بيئته التي يستمد منها قدرته على البقاء وانتاج الثروة. والصرح الحضاري السومري افضل دليل على انسجام الانسان مع محيطه البيئي، وتفاعله المنتج معه، الى أن جاءت السلطة الجاهلة، لكن المدججة بالسلاح وكيمياء التدمير، فاقتلعت اخر شواهد ذلك الصرح العظيم باستئصال شرطه الاجتماعي وقطع شريان الحياة عنه: الماء. أي التدمير المتعمد للمحيطين، البيئي والاجتماعي، اللذين أنتجا حضارة الماء السومرية وحاضنة الرأي المعارض.
والمياه في العراق ليست صدىً تاريخياً لحضارة شهدنا أخر فصول انتكاستها على يدي صدام فحسب، بل تهديد خطير لمستقبله، يرتكب من يقلل من أهميته خطأً جسيماً. فقد كان العراق، حتى وقت قريب، ينعم بموارد مائية غزيرة ولّد حالة من الاطمئنان والخدر، عجز معها المواطن، ليس فقط عن استنكار عروض الحكومة بتزويد الدول المجاورة بحاجتها من المياه العراقية، بل حتى عن المطالبة بالتمتع بوفرتها عن طريق ايصال مياه الشرب، وربط شبكات الصرف الصحي وغير ذلك. ففي العراق قرى وأحياء ومدن تنعدم فيها تلك الخدمات ، حتى قبل الحروب الاخيرة وما الحقته العقوبات الاقتصادية من تدمير في البنى التحتية، في الوقت الذي كانت تتسرب فيه أكثر من 80% من مياه الرافدين للخليج، ويعوم فيه العراق على خزين هائل من النفط يقارب سعر البرميل الواحد منه الثلاثين دولاراً.
صحيح أن الاحتجاج من المحرمات الدائمة في العراق الحديث، الا أن الرفض الشعبي يمكن تلمسه في ظل أعتى الانظمة الدكتاتورية على شكل وعي مطلبي. لكن القضية أكبر من أن ترتبط بالمواطن الفرد بل بالاحزاب السياسية التي تدعي التعبير عن حاجاته، وتحترف العمل الجماهيري. فقد فشلت، كما أظن، على صعيد الاستجابة لمتطلبات الحياة الملموسة، وأهملت دورها التثقيفي والتعبوي بتعميق وعي المواطن بمحيطة المحلي، لصالح برامج وشعارات لم تكن واقعية، أضحى معها شباب القرى والأحياء المعدمة في العراق يختلفون حول الحروب العالمية، وثورة أكتوبر، وأزمة كوبا، وحرب الفيتنام، وسيلفادور الليندي، وطنب الكبرى والصغرى، دون أن ينتبهوا للشبابيك المخلعة في مدرستهم، أو أكوام القاذورات والفضلات في مرافقها الصحية. وظاهرة مناقشة بعض مظاهر السياسة الدولية ليست دليلاً على الوعي السياسي للشبيبة العراقية، كما قد يعتقد البعض. لأن الوعي هو محاربة البؤس، والفقر، والجهل، وارشاد السكان لممارسة دور مسؤول في إدارة شؤونهم اليومية، وتحسين شروط معيشتهم الصحية، والمادية، والروحية، وما إلى ذلك، وليس بالضرورة الانشغال بمصير الكون، لأنه سيأتي كتحصيل حاصل لتطوير الوعي بالشروط المحلية.


لقد أنتجت الممارسة السياسية للعديد من الأحزاب العراقية، التي أهملت هذه الحقائق البسيطة، فئة من النشطاء الحزبيين، خاصة في المدن الصغيرة والتجمعات السكانية الفقيرة، ممن يأنسون لإستعمال مصطلحات غريبة وأجنبية، مكتسبة من الانخراط في العمل الحزبي، يدوّخون بها جمهورهم البسيط، دون أن يعبأوا بمضيعة الوقت في المقاهي بعيداً عن محاولة خلق شروط مادية لعمل منتج ومفيد، فانخلقت حالة من الرهبنة السياسية يتخلى بها المناضل عن حاجاته الانسانية الحسية، ليتقمص شخصية مختلفة لا ينسجم ظاهرها مع حقيقته. ويكاد ينفرد العراق بوجود مناضلين سياسيين تقدميين في خطابهم السياسي، ولكنهم رجعيون في كل ما عدا ذلك، فيفقد الانتماء الحزبي بهذا معناه الايجابي كعامل اسناد لحركة المجتمع للامام، ويصبح مرادفاً للانتماء العشائري، وهذا بالضبط ما عناه علي حسن المجيد بإشارته إلى أن البعثيين ينتمون لعشيرة البعث وأن أي اعتداء على بعثي يعتبر اعتداءاً على العشيرة كلها.
ويجب الاستدراك هنا، لا بل من الانصاف، القول أنه لا يمكن للمعارضة أن تفلت من تداعيات هذا المفهوم السلطوي للعمل الحزبي لأنها لا تعيش على سطح القمر، بل تنشط وسط ركام التشويه والقمع، وجيوش المخبرين، والجواسيس، والحزبيين، الذين جندتهم السلطة لتفكيك النسيج الاجتماعي، واعادة تركيبه ليلائم فلسفتها البائسة.
فسلطة البدائل البشعة التي ابتلي بها العراق شكّلت، بدلاً من مؤسسة حماية البيئة ومنع التلوث، وزارةً للتصنيع العسكري، خصصت لها جلّ موارد العراق، وعقله العلمي والهندسي، فاختصت باستيراد وسائل القمع وتطوير برامج أسلحة الدمار والتجسس. وبدلا من تطوير قواعد حماية المياه والغابات والنخيل، إنشغلت بتطوير قواعد الحد الاعلى المسموح به لوزن الوزير وشكل بدلته. وبدلاً عن تحديد الحدائق الوطنية والاماكن المحمية للابقاء على قيمتها التاريخية والثقافية، أو تنوعها البيولوجي، طوّرت وسائل تبيح تدميرها، والاستئصال التعسفي والانتهاك البشع لقوانين الطبيعة والقيم السماوية والثقافية كما حدث في اعادة بناء معالم بابل الاثرية، أو ردم الاهوار العراقية وتجفيفها. وبديلا للتفاوض مع الجار السوري، أوالتركي، أو الايراني حول قسمة مياه الرافدين وشط العرب، عقدت اتفاقيات تبيح للجيش التركي انتهاك السيادة الوطنية وملاحقة المعارضين وتخلت عن نصف شط العرب مقابل القضاء على الحركة القومية الكردية، وتمتد قائمة البدائل البعثية الى ما لايمكن حصره في كتاب فضلا عن مقالة قصيرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تظاهرات في إسرائيل تطالب نتنياهو بقبول صفقة تبادل مع حماس |


.. مكتب نتنياهو: سنرسل وفدا للوسطاء لوضع اتفاق مناسب لنا




.. تقارير: السعودية قد تلجأ لتطبيع تدريجي مع إسرائيل بسبب استمر


.. واشنطن تقول إنها تقيم رد حماس على مقترح الهدنة | #أميركا_الي




.. جابر الحرمي: الوسطاء سيكونون طرفا في إيجاد ضمانات لتنفيذ اتف