الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطاقة الإبداعية للسؤال .. قراءة في رواية اللاسؤال و اللاجواب ل فؤاد التكرلي

محمد سمير عبد السلام

2012 / 2 / 18
الادب والفن


يقبض الروائي الراحل فؤاد التكرلي على اللحظة التي تتجلى فيها طاقة السؤال الإبداعية في حالات روحية ضخمة تقع في مواجهة الذات التي أدركت حكمة المفعولية ، و السلب في سياق تفاعلها الوجودي ، و الثقافي مع العالم ؛ و يبدو هذا التصور الفني واضحا في نصه الروائي الأخير (اللاسؤال و اللاجواب) ، و قد نشر بمجلة الكلمة الثقافية ، عدد أبريل سنة 2007 .
يبدأ النص ، و ينتهي في سياق حدث نفسي ، أو غير واع كبير يستلب الوعي ، و يذكره بالقهر ، و المفعولية المعلقة التي تتماس مع أبنية ثقافية ، و سياسية ، و فلسفية عميقة في النص ؛ و كأن الذات تواجه موتا مؤجلا دائما بفعل ذلك الحدث الذي يعاين فيه البطل النهايات المتكررة في شكول مختلفة ، دون حسم واضح لموقعه في العالم من جهة ، أو تكوين موقف فكري ثابت من أحداثه من جهة أخرى.
و يقوم النص على مجموعة متضافرة ، و متفاعلة من متواليات الوظائف السردية ؛ مثل حالة الانفصال عن الوعي ، و غلبة العنف اللاواعي الموجه ضد الهوية ، و الذكريات العائلية الملحة على البطل عبد الستار ، و ما تحويه من أسئلة معلقة ، و عنف ضد الأم ، و كراهية ، و موت ، و كذلك هيمنة الأزمة الاقتصادية المصاحبة للحصار الاقتصادي للعراق أثناء عام 1994 ، و تأثيرها غير المباشر في تشكل الوضع الطبقي ، و القيم الثقافية المصاحبة له في العالم الداخلي للشخصيات ؛ فقد اضطر البطل عبد الستار للعمل الإضافي كسائق تاكسي مع عمله كمدرس ، و العيش المحدود ، و معاينة الألم و الحزن في حالتي الفقر ، و الغنى المفاجئ.
و أرى أن حدث التمرد الإبداعي على الإطار الواعي لشخصية عبد الستار ينبع من سؤال الكينونة في مواجهتها لهيمنة الطاقة الضخمة لأسئلة اللاوعي ، و الوجود الروحي ، و الذاكرة ، و الأحداث المأساوية اليومية المميزة للحظة الحضور ؛ إنه يبحث عن أرض جديدة للهوية ، و يحاول نسجها من الماضي نفسه ، و من ذلك السلب غير المفهوم ، أو هو يريد العودة لطفولة بكر تعيد تشكيل الذات انطلاقا من طاقة الأمل المتجدد في بناء وعي آخر مضاد لذلك التاريخ ، و لحظة القهر ، و قد تتفاعل صرخة التمرد لديه مع قوة السؤال الإبداعي ، و تشكلاتها المجازية ، و الواقعية ، و الأسطورية .
إن السؤال الفكري يتجسد في صيرورة السرد ، و يتضخم في متوالياته ، و وظائفه الجزئية بحيث يشكل عالما فتيا قويا في مواجهة حكمة الوجود السلبي التي انتقل إليها البطل ، و جعلته يعاين حالة الموت المؤجل ؛ و من ثم فهو يحاول تحطيم الإطار ، و التفاعل مع تلك الفاعلية الغريبة ، دون أن يفقد تمسكه بأفكار الجمال ، و الحب ، و القيم الأولى ؛ فهو يحاول هدم الإطار ، و إعادة بنائه ، و لكنه لن يجيب عن سؤال مواجهة القهر ، أو يشكل المعنى الكامل لهويته ، و تطورها التاريخي ، أو الاجتماعي.
إن ما يمنح النص تميزا فنيا مضافا أنه يحقق مستوى التفاعل بين الفن ، و الحكمة الفلسفية للكاتب ، و الممثلة لرؤيته المتأخرة للعالم .
لقد ارتكز فؤاد التكرلي على المعنى العام للهوية ، و الانفصال الدائري بين تعاليها الشعري ، و صيرورة الحياة ، و عوامل الهدم ، أو القهر فيها ، دون ان يكون الموقع الطبقي للبطل هو أساس الرؤية ، رغم أهميته ؛ فنحن أمام ذات مجردة تبحث في انفصالها ، و غربتها عن كينونة بريئة ، أو فنية مع قبولها للأحداث العبثية الكبيرة المواجهة لها .
و بصدد (الأسلوب الأخير) للفنان ، أو الكاتب ، و تأسيسه لرؤية نقدية ذات أهمية تصدر عن العمل الفني في تجلياته الحكيمة يرى إدوارد سعيد أن الأسلوب الأخير لديه القدرة على تبديد السحر ، و تحقيق المتعة ، دون أن يلجأ إلى حل للتعارض القائم بينهما ؛ إذ يبقي على التوتر بينهما كقوتين متساويتين تشدان في اتجاهين متعاكسين ، ثم يحلل قصيدة (الله يتخلى عن أنطونيو) لكفافيس ؛ فهي تجمع بين الصمت التام ، و نشوة الاستمتاع بالموسيقى ، كما يسهب في عرض أدورنو لأسلوب بيتهوفن في السيمفونية التاسعة ؛ فطبيعتها المتشظية تستعصي على الكلية ، و لا يجمع أجزاءها المختلفة سوى العمل نفسه (راجع / إدوارد سعيد / أفكار حول الأسلوب الأخير / ترجمة فخري صالح / مجلة الكرمل / عدد 81 / خريف 2004 / من ص 33 إلى 51).
و أتفق مع إدوارد سعيد في تطويره ، و تأسيسه لتلك الرؤية النقدية التي قد تكشف عن ملامح متجددة للأسلوب الأخير في أعمال فنية ، و أجناس متباينة ، و ثقافات مختلفة ، و قد تكشف تطبيقاتها عن استشراف المبدع لعوالم جديدة يبدعها الوعي في استنزافه المستمر لمركزية الكينونة ، أو الإطار ، أو تؤكد قيمة روحية بعينها ، دون أخرى على مستوى تراتبية التيمات ، أو الموضوعات في النص ، و إن ارتبطت قيمة ذلك المنهج ، أو الرؤية النقدية بالراحلين من الفنانين ، و الأدباء ، و نتاجهم المتأخر خاصة، و لا يقلل هذا الجانب من أهمية تلك الرؤية ؛ فالحكمة الفنية قد تتجلى بصور متباينة ، و في مراحل متعددة من نتاج الفنان.
إن فؤاد التكرلي يعمق حالة المفعولية ، و حكمة قبول الموت المؤجل في تفاعلها مع القوة المتوهجة للسؤال ، و فاعليته في النص ؛ مما يؤسس لتعارض لا يمكن حله بين الحالتين ؛ و هو ما يؤكد النزوع نحو تجزؤ الأسلوب الأخير طبقا لسعيد ، و يمكننا ملاحظة بعض التفاصيل المؤكدة لقيم روحية جديدة في النص تقوم على التجزؤ ، أو تتجاوزه .
و يمكننا ملاحظة ثلاث تيمات في النص ؛ هي :
أولا : بين المفعولية ، و الطاقة الإبداعية للسؤال.
ثانيا : تناقضات الصوت ، و أصالته.
ثالثا : الوعي ، و دائرية السرد.
أولا : بين المفعولية ، و الطاقة الإبداعية للسؤال:
يرصد الراوي حالة الانفصال بين البطل ، و ذاته ، ثم غربته عن تاريخه ، و حتميات الواقع ، و تشكلات غرائز العنف فيه ، و لكنه يبحث أيضا عن الإجابة ، أو الوجود الأصلي المحتمل في مساحة من الجمال الفني داخل الذات ، و خارجها ، أو يحاول الامتداد في تلك الحالة الغريبة التي تمتلك الفاعلية غير المبررة ؛ و من ثم يتحول الانشطار بين مشاعر السلب ، و فاعلية السؤال إلى مزيد من الانقسامات الداخلية ، و الخارجية ؛ فيبدو العالم مفتتا ، و إن بحث عن أصل نقي ، و مؤجل مثل الموت ؛ فالإجابات الحاسمة ، و ما تحويه من انسجام جمالي مفتقدة في النص .
إن السارد يضع المتلقي أمام موقف سردي تختلط فيه المفعولية بميلاد السؤال ، و تجدده .
يقول :
" لم يغمر النور الحليبي المنصب من النافذة إلا مساحة صغيرة من الغرفة ، لم يدرك ما كان يحصل له ، و من رماه هكذا من فراشه على الأرض الثلجية . كان منزويا في الجانب الآخر من الغرفة ، تستحوذ عليه ارتعاشات غريبة متصلة " ، ثم تسأله زوجته عما حدث له دون تفسير.
يضعنا السارد مباشرة أمام موقع انفصالي يمثل ذات البطل ، بينما يشير بخفاء إلى حداثة ذلك الموقع ، و تعارضه مع الذات الأولى التي تقع في حالة القهر ، و لا يسعى للتوفيق بين الذات ، و تلك المواقع الجزئية التي تمثل ثورة اللاوعي ، أو السلطة الطبقية ، أو السياسية ، و تأثيرها في قدرة البطل على تشكيل معنى للوجود .
و هنا يبدو المدلول الكوني الممثل للانسجام الجمالي المثالي محدودا في علامة النور الحليبي ؛ فالبطل لا يستطيع التوحد الكامل بالنور ؛ لأنه يعاين تضخم السؤال ، و تجزؤ الذات بين التمرد الحلمي ، و البحث عن البراءة ، و محاولة الاندماج بصيرورة تلك الذات الأخرى الممثلة في تشكلات السؤال في المستقبل.
هل المفعولية هل حكمة التلقي العميقة لمؤثرات العالم القوية ؟ أم أنها تمثل تصاعدا سيمفونيا للحزن ، و عوامله الوجودية ، و الاجتماعية ؟
إن التجزؤ يوحي بجذرية الأسلوب الأخير فنيا في النص ؛ فالمتلقي يجد نفسه وسط تكوينات متباينة ، و متضادة ؛ مثل النور ، و الذات المنزوية ، و الذات الحلمية الغاضبة ، و البحث المستمر عن الإجابة ، أو الموقف الفكري معا.
و لا يمكن فصل المفعولية عن الأبنية الاقتصادية ، و الاجتماعية ، و تشكيلها لرؤية البطل ، و وعيه ؛ فقد دفع الحصار الاقتصادي أسرته إلى بيع ثلاث قطع للسجاد ، و تركوا مكتبة أبيه ؛ لأن الناس لا يشترون الكتب ، و أمعاؤهم فارغة .
تبدو الأسرة هنا مساقة نحو طاقة الحتميات المتعالية ، و تنفصل عنها من داخل الخضوع لها ؛ فثمة تعارض أصلي بين الذات الإنسانية ، و كيانها المادي . هذا التعارض يضاعف غربة الروح عن وجودها الاجتماعي ، و يعزز من القهر ، و البحث عن فاعلية جديدة خارج اللحظة الآنية ، و التاريخ معا ، و يظل البحث معلقا ، أو مرتبطا بذلك الشعور الفطري بالرفض ، و محاولة التشكل خارج الإطار ، أو الهوية القديمة.
و أرى أن الموقف الفلسفي للبطل لم يكن نابعا من بنية الأزمة الاقتصادية وحدها ، و إنما كانت الأخيرة مظهرا نسبيا لشعور إنساني غامض بالتلقي السلبي لمثيرات العالم ، و هو ما يميز مدلول الأسلوب الأخير كما هو عند سعيد ؛ فموقع البطل الطبقي يعد امتدادا ثقافية للسلب بمفهومه الوجودي ، و بحثا عن الارتقاء الروحي في الوقت نفسه ؛ و يؤكد مسار السرد هذه الرؤية ؛ إذ ينصرف البطل كثيرا لاسترجاع أسئلة الماضي المعلقة ، و معاينة الفقر ، و الغنى المفاجئ ، دون إجابة عن سؤال المفعولية الذي يتضاعف دائريا في حالة الغنى ، و الحل الجزئي لاقتصاد الأسرة .
و تقوم الرؤية الفكرية للبطل على عامل الارتقاء الروحي الذي يصله بالحقيقة ، و الوجود الجمالي ، دون أن يتحقق في اللحظة الآنية للشخصية ، و إنما يظل في الوعي الممكن كإمكانية لها روافد داخلية ، ثم اجتماعية.
ثانيا : تناقضات الصوت ، و أصالته:
تتعدد مقومات الصوت ، و تتنافر في النص ؛ فالصوت الذي يبحث عن أصالته ، و حكمة وجوده يتعارض جذريا مع الذكريات الملحة ، و المتجددة للقسوة ، و الألم ، و معنى الحياة .
يبحث عبد الستار عن الارتقاء في زياراته السرية لمكتبة الأب ، ثم تهاجمه ذكريات عدوان أبيه على أمه ، و شعوره بالإثم ، و الخوف ، و القسوة ، و أهمية العدالة في وقت واحد ، ثم ينتصر الشعور بالعقاب كسؤال إبداعي ينبع من الأصالة ، و يناهض تاريخ البطل ، و هويته ؛ فيسقط في تناثر معلق ، أو تشتت بين الحكمة ، و المعنى من جهة ، و الخضوع للعواطف المتناقضة من جهة أخرى.
و قد تتحول أزمة الصوت ، و الهوية الذاتية إلى أخيلة للظلام ، و التفكك في وعي البطل ، و أحلام اليقظة المعبرة عن التيمة في صيرورة السرد ؛ فالوظائف السردية الممثلة لمواجهة الصوت للقوى العاطفية ، و الاجتماعية ، و التاريخية غير المفهومة تتبلور في بقع مظلمة متتالية في الرؤية ، و الوعي ، و تؤدي إلى سلب مضاعف ، و ولادة جديدة معا.
يتحدث عبد الستار مع زوجته / زكية عن حدث سقوطه المتكرر ، ثم يتشاركان في أكل بيضة مسلوقة ، ثم يتحول صوت ماكينة الخياطة الرتيب في وعيه إلى فجوة غريبة ، أو ثقب أسود ، و يتساءل حول حول إمكانية إنارته.
إن آلية الماكينة تدل على طاقتها الخفية ، و حاجتها للعمل ، و التمثيل المجازي للوجود ، و الإبداع ، و كذلك قسوة الضرورات الحتمية ، و قوتها الممتدة التي تنفجر في دال الثقب الأسود الذي يجمع بين الاضطراب ، و القوة الكبيرة ، و السلب الممتد للكينونة في الوقت نفسه.
هل بلغ الصوت قمة تناثره الخاص ، و تشتته؟ أم أنه يعيد تشكيل بنيته من خلال إرادة النور بداخله؟.
إن الكاتب يؤكد وجود الذات الأصلي رغم وجود الظلمة ، و تكرارها ، و مواجهتها للأفعال العدائية من الداخل ، و الخارج ، و خاصة في المشهد الذي جمعه بالمجرم ، و اعتداء الأخير عليه أثناء قيادته للتاكسي ؛ إذ يغيب عن الوعي ، و تبقى الذات الممثلة لضمير الأنا حية ، و تمارس وظائف جسده المتهالك.
إنه يوظف بلاغة الظلمة في سياق تأكيد هوية مجردة ، أو نفس قيد التشكل ، و لكنها مؤجلة بفعل الحزن ، و الخوف ، و تناقضات العواطف ، و الذكريات.
و يقترن استرجاعه لعلاقته بزكية بتناقضات مناهضة للحضور الذاتي ؛ فقد تمزق حبه لها بسبب عمته التي زوجتها لآخر ؛ كي تنتقم منه ، و من والده دون مبرر ، ثم أنجبت هيفاء ، و تزوجته بعد وفاة زوجها الأول ، و قد ارتبطت تلك المشاعر بعدوانه على ذاته ، و تكراره العبثي بعد الزواج منها أيضا ؛ فأصالة صوته مازالت معلقة ، و مشتتة في طاقة الصور المظلمة ، و المشاعر المتناقضة الحية بأطيافها المهددة لكينونته.
و يأتي الجوع في ذلك السياق السردي ؛ ليجدد ظلمة اللحظة الآنية ، و يبعث الطاقة الخفية في الصوت الداخلي مرة أخرى .
يقول عن البيضة التي أتت بها زكية من جارتها:
"كانت في الواقع تمسك بين الأصابع النحيلة بتلك الجوهرة البيضاء التي يمكنها أن ترد الجوع عنا بعض الوقت".
لقد اقترنت البيضة الممثلة لولادة الصوت البيضاء بأشباح زكية القديمة ، و ما تحمله من سلطة ، و حسد ، و حب ، و حزن ، و ثورات حلمية ، و جسدية غير مبررة ، و كأن البطل يطارد طيفا جديدا لزكية في سياق تشكل الصوت الآخر بعيدا عن الألم ، و هو ما يؤدي إليه بالضرورة الأسلوب الأخير ؛ فما فائدة تأكيد التناثر ، و الظلمة؟
إنها ذلك الوجود الذي يوحي به النص فيما وراء لحظة الشتات ، و هو تكوين يستعصي على فهم الشخصية نفسها ، و لكنه يسعى وظيفيا إلى مقاومة الموت ، و الانتصار عليه ، و أرى أنه سيكون موضوعا فنيا رئيسيا في مثل هذا النوع من الإبداعات الفريدة؛ إذ يرتبط وثيقا بالقيم الدينية ، و الإبداعية الخفية في وعي الشخوص.
يسترجع البطل وفاة أبيه ، ثم أمه ؛ فيتذكر شلل لسان الأول عقب حديثه عن السعادة ، و رغبة الأم في اللحاق به ، و موتها المفاجئ على أرض المطبخ.
ثمة إحساس يستنكر نهائية ذلك الموت ، و قسوته نلمحه في ثنايا سرد المتكلم للحدث ، و حزنه الدفين ، فهل يجدد طاقة الموت ؟ أم أنه يسعى لمقاومته من خلال إبرازه في سياق أصالة ضمير المتكلم؟
و أرى أن البطل لم يفقد مثاليته الذاتية ، و تفاعله مع الجانب الجمالي في الحياة ؛ و يبدو هذا واضحا في حدث شجاره مع المجرم عباس كرازة ، و نهايته بانتصاره ، و غناه المفاجئ .
لم يكن الحدث وظيفيا هنا بالدرجة الأولى رغم طوله ، و فاعليته في تحريك مجرى الأحداث ، و لكنه يعبر عن صراع فلسفي بين منطق الحكمة و تلقي البطل السلبي للحتميات ، و الاستغلال المباشر للقوة الواقعية كما يرى عباس ، و تؤكد نهاية الحدث على ضعف تلك القوة أيضا ، و انسياقها لحتميات اجتماعية جديدة ، و كأنه ينتصر لحكمة السلب ، و انتظاره لولادة جديدة أيضا بعيدا عن القوى الممزقة للصوت.
ثالثا : الوعي ، و دائرية السرد:
جاءت المواقف السردية في نص فؤاد التكرلي معبرة عن ازدواجية الأزمة ؛ و من ثم تصاعد الحزن من جهة ، و البحث عن وجود إبداعي آخر من جهة أخرى ، دون حسم واضح ، أو إجابة شافية لسؤال الكينونة ، و تاريخها ، و وضعها الاجتماعي .
و تبدو هذه الازدواجية الدائرية في موقفين يلتقي فيهما عبد الستار ببعض زبائن التاكسي ، و يعاين من خلالهما القهر ، و الخلاص في نسيج حكائي واحد.
الأول : يلتقي فيه عبد الستار بشيخ يطلب نقله إلى الزاوية ، و قد بدت عليه علامات الكبر ، و آثار الأزمة ، و عقب استعاذته بالله من الشيطان الرجيم يتحدثان عن الأزمة الاقتصادية، و يذكر عبد الستار أنها اختبار من الله ، و يرد الشيخ بأن العالم يريدك أن تموت.
و يبدو في حديث الشيخ أنه ينسب الشر بشكل مباشر للعالم ، و لا يتعارض جذريا مع رأى عبد الستار ، إذ يجسد صعود الضمير ، و قوته من داخل ظلام الأزمة ، و دائريتها ؛ و كأن تلك الذات الداخلية تقاوم حتميات العالم ، و تتجاوزه من داخل سطوة الضرورة.
الثاني : يركب فيه مجموعة من خمسة أفراد يطلبون توصيلهم للأعظمية ، و يبدون كعائلة مكونة من سيدتين ، و رجل ، و صبيين ، و يشير السارد إلى رائحتهم النفاذة ، و صوتهم العالي ، و رغبتهم في الأكل ، و خبزهم الساحر مثل قلوبهم.
لقد بدا هؤلاء الشخوص في تتابع الوظائف السردية في النص ، و كأنهم أطياف عابرة ، و نقية ؛ فقد تماسوا مع تلك الذات التي توشك أن تتشكل خاردج سطوة التاريخ ، و الشتات ، و الطبقة .
ما ذلك الخبز الساحر ؟ هل كان واقعيا ؟ أم أنه أتى من عوالم اللاوعي؟
إنه تمثيل لبلاغة الأداء الفطري ، أو لمحة من الصفاء القادم فيما وراء جماليات الأسلوب الأخير عند فؤاد التكرلي.

د. محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن