الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التسونامي يخلق فرصا للسلام في آسيا

عبدالله المدني

2005 / 1 / 10
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


فيما البعض منا يطلق التخريفات حوله
التسونامي يخلق فرصا للسلام في آسيا

في الوقت الذي كان فيه العالم يضيء الشموع و يتلو الصلوات و يقود حملات التبرع و الإغاثة لضحايا كارثة التسونامي الآسيوية، لم يجد احد رموز تيار الإسلام السياسي في الأردن ما يعلق به على الكارثة سوى القول أنها عقاب رباني لبعض الأمم بسبب تقاعسها عن تطبيق الشريعة و تعاونها مع القوى الكافرة في ضرب المجاهدين و تعقبهم ، مضيفا أن تطبيق شرع الله و الوقوف مع المجاهدين وحدهما الكفيلان بتفادي مثل هذه الكوارث مستقبلا. و ما لم يفسره لنا الرمز الهمام هو لماذا استهدفت الكارثة أساسا مئات الآلاف من المسلمين المعدمين الذين لا ناقة لهم و لا جمل في الصراعات الدولية ، ولم تحل على رؤوس قوى الكفر- بحسب تعبيره- مباشرة؟ بل لماذا انصبت تحديدا على مناطق تحمل لواء الجهاد وتسعى إلى إقامة كيانات إسلامية مطبقة للشريعة مثل جنوب تايلاند وإقليم آتشيه.

قريبا من هذا ، خطب رجل دين معروف في إحدى دول الخليج قائلا أن توافق وقوع الكارثة مع "احتفالات أعياد الميلاد و ما يصاحبها من مجون و فسق و صخب" لهو دليل على غضب الله من المسيحية و أتباعها. ويبدو أن الشيخ نسي في غمرة حماسه أن مواطني الدول التي اجتاحتها أمواج التسونامي هم في الغالب الأعم ليسوا من أتباع المسيحية. أضف إلى ذلك أن احتفالات راس السنة الميلادية هي التي قد يصاحبها بعض المجون و ليس أعياد الميلاد التي تعتبر في عرف المسيحيين مناسبة دينية و عائلية.

وفي سؤال لأحد المسلمين الماليزيين عما إذا كان يستطيع في هذه الظروف الاستثنائية أن يخرج زكاة أمواله لغير صالح من حددتهم الشريعة من مستحقين مثل منكوبي التسونامي من غير المسلمين في دول الجوار ، رد احد أساتذة أصول الفقه في الجامعة الإسلامية العالمية بكوالالمبور (و هو في الوقت نفسه عضو في مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي) بعدم جواز ذلك لمخالفته تعاليم الدين مستثنيا حالة واحدة هي إن كان المانح يأمل من وراء زكاته أن يدخل المتلقي الإسلام. وبهذه الفتوى ربط الفقيه تضامن المسلم مع أخيه في الإنسانية في هذا الظرف الأليم بشروط و مقايضات ليس هذا أوانها. ولا بأس عنده ، بعد ذلك ، لو تقاعس المقتدرون المسلمون عن إنقاذ الجوعى و المرضى و المشردين من مواطنيهم غير المسلمين طالما هو و أقاربه يعيشون في رفاهية و لم يمسهم ضر.

آخرون تحمسوا من خلال مواقعهم الالكترونية لشرح ظاهرة التسونامي وبيان أسبابه و مراحل تطوره ، و هو جهد يشكرون عليه ، لولا أنهم في نهاية المطاف الحقوا الموضوع بعبارة "سبحان الله" و خارطة لشبه الجزيرة العربية ، ليدللوا كيف أن موجة المد البحري العنيفة التي بدأت في سومطرة و مرت على سواحل دول عديدة محدثة الدمار و الخراب توقفت عند تخوم سواحل بلادهم لأنها مصانة و ليست كبقية البلدان! لكن كيف تكون مصانة و قد نفذ إليها ما هو اخطر من الكوارث الطبيعية الآنية ممثلا في مسلسلات الإرهاب و العنف شبه اليومية.

و ما بين هذا وذاك أطلق البعض من معتنقي نظريات المؤامرة العنان لأفكاره وراح يردد بثقة و جزم أن التسونامي ماهو إلا مؤامرة غربية هدفها ضرب البنى التحتية لآسيا و شل اقتصادها في محاولة لإخراجها من حلبة المنافسة مع الغرب المتقدم ، وان الأداة التي استخدمت لم تكن سوى تجارب نووية هائلة أجرتها الولايات المتحدة في أعماق المحيط الهندي خفية ، مضيفا أن المساعدات السخية التي قدمتها واشنطون و حليفاتها الغربيات لضحايا الكارثة لم تكن سوى وسيلة لذر الرماد في العيون و ستارا لأبعاد الشبهة عن نفسها على طريقة "يقتله ثم يسير في جنازته".

بوجود مثل هذه النظريات و الأفكار البائسة لا يحتاج خصوم الإسلام لبذل أي مجهود في سبيل تشويه تعاليمه أو صورة معتنقيه ، خاصة في ظل ثورة الاتصالات و المعلوماتية الراهنة القادرة على نشر ما نتفوه به إلى أرجاء العالم في لحظته. نعم هناك ثمة مؤامرة ، لكنها مؤامرة نحن من يصنعها ضد نفسه و دينه عن طريق تبنى مواقف و أحكام و تفسيرات منفرة لا يمكن للآخر هضمها في الأوقات العادية ، فما بالك في أوقات المحن و الشدائد الإنسانية.

على أن الأمر الذي يدعو إلى شيء من التفاؤل و يجعل من هذه الآراء و الأحكام بلا قيمة أن المجتمع الدولي ، ومن ضمنه حكومات و هيئات و جمعيات عربية و إسلامية ، قد شمر عن سواعده بصورة غير مسبوقة لتقديم العون و المساعدة الإنسانية إلى المنكوبين دون اشتراطات أو تمييز ديني أو سياسي ، في ما وصف بأكبر عملية إغاثة في تاريخ البشرية.

و ربما على عكس ما يتمناه الحاقدون و سدنة العنف و الفتن ، خلقت الكارثة تعاونا نادرا ما بين من كانوا إلى ما قبل أسبوعين في حالة عداء و حرب أو خلاف و توتر ، وبما وفر أرضية جيدة لبناء الثقة و إشاعة السلام في أكثر من موقع آسيوي مضطرب. و بعبارة أخرى بدأت قاعدة "رب ضارة نافعة" تخترق المشهد ، لتقول أن ما عجزت عنه الحروب و المفاوضات و المساومات قد تنجح فيه ثورة الطبيعة و غضبها.

نجد تجليات هذا المنحى أولا في سريلانكا ، حيث يدور منذ أكثر من تسعة عشر عاما صراع عرقي دموي ما بين قوات الحكومة و متمردي نمور التاميل ، لم تفلح معه أي من الوساطات و اتفاقيات وقف إطلاق النار الكثيرة. لكن أهوال التسونامي التي انسحبت على الفريقين بالتساوي جعلتهما يتجاوزان عداءهما المستحكم و يتعاونان معا لأول مرة. ففي مبادرة نادرة للمتمردين بعث زعيمهم الأعلى "فيلوبيلاي براباكاران" المعروف بتشدده و رعونته بتعازيه إلى خصومه في الجنوب من الأكثرية السنهالية ، بل طالب قواته و أنصاره بالانتشار و التعاون مع السنهاليين و المسلمين في جهود الإغاثة ، واصفا إياهم للمرة الأولى بالأشقاء. في المقابل أمرت رئيسة البلاد السيدة "تشاندرايكا كوماراتونغا" قواتها بالتعامل مع مقاتلي نمور التاميل كشركاء و رفاق في جهود الإغاثة ، مشفعة مبادرتها بالأمل في أن يساهم ذلك في بناء الثقة ما بين الطرفين و بما يحول دون تجدد الحرب الأهلية مستقبلا.

وفي إقليم آتشيه الاندونيسي ، حيث تخوض ميليشيات حركة آتشيه الحرة حربا ضد السلطة المركزية في جاكرتا منذ نهاية السبعينات بهدف الانفصال وإقامة دولة إسلامية، قضت الكارثة الأخيرة على نحو تسعين ألف نسمة و شتت قوى المتمردين و إمكانياتهم بصورة لم يجدوا معها سوى التعاون مع قوات الحكومة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. من جانبها، قررت جاكرتا لأول مرة فتح آتشيه أمام فرق الإغاثة الأجنبية، المدنية منها و العسكرية، لإنقاذ أبناء هذا الإقليم المتمرد ، وذلك في مبادرة غير مسبوقة تبعها وقف تام لعمليات الجيش الاندونيسي ضد المتمردين و دعوة من رئيس البلاد سوسيلو بامبانغ يودويونو للتكاتف و نسيان الماضي و الانصراف معا لإعادة بناء ما تهدم.

أما في تايلاند التي انحصرت إضرار الكارثة في جنوبها المسلم ، فقد أشاعت مثابرة الحكومة و منظمات البلاد الأهلية في مد يد العون و الإغاثة إلى الأقلية المسلمة عبر حملات التبرع و التطوع و تدشين الجسور الجوية و الضغط على الدول المانحة و المنظمات الدولية الإنسانية ، مناخا من التفاؤل لجهة تواري الاحتقانات التي خلفها استخدام الجيش التايلاندي للقبضة الحديدية مؤخرا في المقاطعات الجنوبية كرد على عمليات إرهابية متفرقة نفذتها حفنة من المواطنين المسلمين بإيحاء و دعم من الجماعات الجهادية الأجنبية.

إلى ما سبق ، يبدو أن الشوائب و الشكوك المخيمة على العلاقات الثنائية ما بين أكثر من طرفين آسيويين في طريقها إلى الزوال بفعل ما ولدته الكارثة من حالات التضامن و التوحد. فمسارعة الهند مثلا ، رغم فداحة ما أصاب أقاليمها الجنوبية من خسائر ضخمة في الأرواح و الممتلكات ، إلى مد جارتها السريلانكية بالمساعدات المادية و الفنية ، لا بد وان ينعكس إيجابا على علاقاتهما الثنائية التي يعتريها من وقت إلى آخر بعض التوترات الصامتة على خلفية المشكلة التاميلية و شكوك كولومبو في نوايا العملاق الهندي و دوره الإقليمي.

و بالمثل فان الخلافات التي برزت مؤخرا بين الجارتين التايلاندية و الماليزية ، في أعقاب اتهام بانكوك لكوالالمبور بالتراخي حيال متشددين إسلاميين يعملون من داخل أراضيها لتأجيج الأوضاع في جنوب تايلاند المسلم ، مرشحة للزوال بعد ما أبدته الثانية من دعم إنساني لجهود الإغاثة التايلاندية.

وفي السياق ذاته ، لا يمكن لمساعدات استراليا السخية لجارتها الاندونيسية إلا أن يعزز الثقة ما بين البلدين و ينقى علاقاتهما مما تبقى من رواسب و شكوك من زمن الصراع في تيمور الشرقية.

وجملة القول أننا إزاء مشهد ينشط فيه ما عرف بدبلوماسية الزلازل التي أثبتت نجاحات في أكثر من أزمة مستعصية. دعونا فقط نتذكر أن ما تنعم به العلاقات التركية-اليونانية اليوم من تعاون و حيوية على الصعيدين الرسمي و الشعبي من بعد قرون من العداء المثقل برواسب الصراعات الدينية و الحروب العثمانية ، يعود الفضل فيه أساسا إلى دبلوماسية الزلازل التي أطلقتها أثينا تجاه أنقرة في أعقاب الزلزال المدمر في منطقة بحر مرمرة في أغسطس من عام 1999 ، ثم أطلقتها أنقرة تجاه أثينا فور تعرض اليونان لزلزال في أكتوبر من العام نفسه.

د. عبدالله المدني
*باحث أكاديمي و خبير في الشئون الآسيوية
البريد الالكتروني : [email protected]

نشر المقال بالتزامن في الأيام (البحرين) و الراية (قطر) و الخليج (الإمارات) في 9 يناير 2005 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية في بريطانيا.. هل باتت أيام ريشي سوناك م


.. نحو ذكاء اصطناعي من نوع جديد؟ باحثون صينيون يبتكرون روبوت بج




.. رياضيو تونس.. تركيز وتدريب وتوتر استعدادا لألعاب باريس الأول


.. حزب الله: حرب الجنوب تنتهي مع إعلان وقف تام لإطلاق النار في




.. كيف جرت عملية اغتيال القائد في حزب الله اللبناني؟