الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو استراتيجية للدولة المدنية – المفاهيم - 10 - إعادة بناء الأجهزة الأمنية (التحول من الدولة الأمنية إلى الدولة المدنية)

نادية حسن عبدالله

2012 / 2 / 19
حقوق الانسان


تورطت الأجهزة الأمنية في ممارسة انتهاكات ممنهجة للقانون ولحقوق الإنسان، حتى يمكن القول إن عنف الأجهزة الأمنية وتجاوزاتها كانت من ضمن أسباب الثورات العربية، كما لعبت دوراً قمعياً في مواجهة الانتفاضات العربية، ودخلت في صدام دموي مع الجماهير الثائرة.

عندما خرج السوريون للاحتجاج والثورة في المدن السورية طالبوا بالحرية وكان الهتاف ومازال " الله، سورية، حرية وبس" وهذا يعني إدراك المواطن السوري للوجع الذي يصيبه وإدراكه لما يريد وما يحتاج، والحرية التي ينادي بها المواطن السوري تعني بالتحديد التحرر من سطوة القبضة الأمنية المتحكمة في البلد وفي كل المواطنين.

إن أجهزة الأمن المتسلطة في سورية أفقدت المواطن كرامته، وأفرغت الدولة من مضمونها، فتحولت سورية إلى دولة أمنية بامتياز، فقد فيها المواطن صلته مع مؤسسات الدولة الحقيقية، لأن النظام الأمني أصبح فوق الدولة. فشلت أجهزة الدولة التي لا تستطيع أن تعمل بتاتا دون موافقة الأمن حتى في أبسط الأمور، وأفرغت المناصب من محتواها، فالمواطن السوري يعلم جيدا إن الوزير والمحافظ والنائب في البرلمان، كلها مناصب من غير محتوى، ولا يستطيع أصحابها تحريك ساكن دون موافقة أجهزة الأمن فأصبحت هذه الأجهزة مرعبة لأنها فوق القانون، تعتقل وتعذب وتنفي وتقتل دون محاسبة أو مسائلة.

بالإضافة إلى ما سبق هناك حجم الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية للتدخل بخصوصيات الناس، وأبرز أشكال التدخل بما يسمى "بالموافقات الأمنية" وهي سلسلة إجراءات ومعاملات يقدمها المواطن للأجهزة الأمنية عندما يتقدم من أجل وظيفة في القطاع العام أو حتى الحصول على رخصة لمزاولة مهنة أو القيام بمشروع أو للسفر، وجوهر هذا الأمر واحد وهي إعطاء الأجهزة الأمنية حق الاعتراض على توظيف أو إعطاء رخصة أو السماح بالسفر للتحكم في المواطن ويبقى تحت السيطرة الأمنية في أي عمل أو أي مشروع يريد القيام به.

فهذا الجهاز الأمني الذي تحول الي جهاز أمن النظام لا الشعب أو الدولة، وسخر كل إمكانيته فقط للتنكيل بمعارضي النظام والتجسس عليهم ، غلب (الأمن السياسي) علي (الأمن الجنائي) ، ما نتج عنه مساوئ عديدة، فتغليب الأمن السياسي أدي لتجريف الحياة السياسية تماما ووضع كل المعارضين في السجون وتزوير الانتخابات لصالح الحزب الحاكم، والتحكم في المناصب الكبرى والصغرى في كل مؤسسات الدولة المختلفة وحتى المصالح الخاصة مما خلق حالة من الفساد السياسي والأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي .

رغم أن وجود الأجهزة الأمنية ضرورة حتمية لأي دولة سواء في القديم أو الحديث، تنبع ضرورة وجودها من ضرورة الأمن نفسه الذي لا غنى عنه في أي وقت سواء للفرد أو المجتمع، ويستحيل أن يمارس الناس نشاطهم وحركتهم اليومية إلا مع تحقيق الأمن، إلا أن الاتجاه العالمي اليوم هو البعد عن نظم الحكم العسكرية التي قد تفضل الأمن على التنمية كما يقال فيلاحظ الآن انحسار الدولة الأمنية ( دولة البوليس ) كما تسمى وانتشار الدولة المدنية (دولة الحق والقانون).

إن احد متطلبات النظام الديمقراطي هو تحرير قوة الأمن من أن تكون طرفا مع احد الأطراف السياسية في عملية الصراع الداخلي أو المنافسة السلمية على السلطة، أي أن قوة الأمن أداة للدولة وليس أداة للحاكم أو الحكومة في مواجهة الآخرين أو دفاع عن بقائه وسطوته وسيطرته.

الفساد في الأجهزة الأمنية

المؤسسات الأمنية بشقيها شبه العسكري (أجهزة الشرطة ووزارات الداخلية) ولاستخباراتي (أجهزة المخابرات العاملة في الداخل والخارج) تلعب دوراً مفصلياً ، حيث الفساد في الأجهزة الأمنية يعتبر أساس الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، من خلال ما يلي:

- التدخل في العمل السياسي وقمع الجهات المعارضة من المشاركة السياسية: إن الممارسات القمعية تحد من قدرة قوى المعارضة على الفعل السياسي سواء تمثل ذلك في منعها من تنظيم لفاءات جماهيرية أو مظاهرات أو الإتيان بمؤيدين إلى صناديق الاقتراع أو حرمانها من مكاسب مشروعة بتزوير نتائج الاستحقاقات الانتخابية.

- لقد شكلت ظاهرة تعدد الأجهزة وعدم وضوح صلاحيات كلا منها وغياب قيادة مؤسساتية تشكل مرجعية لها بالترافق مع غياب قانون واضح منظم لإعمالها واستمرار بقاء نفس الأشخاص على قمة هرم كل منها، كل ذلك ساهم في تحويل هذه الأجهزة إلى إقطاعيات لمسؤوليتها ومركز نفوذ لقادتها، حيث لم يعد واضحا دورها ومبرر وجودها أمام عدد واسع من المواطنين مما افقدها مصداقيتها على ضوء هذه الحقيقة وهدد السلم الاجتماعي في غياب الشعور بالأمن والأمان بالرغم من الكلفة المالية التي كان يدفعها المجتمع لتغطية نفقات هذه الأجهزة.

- الفساد في تطبيق القوانين: حيث أن القانون الأساسي لم يشر بشكل واضح أن المؤسسة الأمنية والعاملين فيها هم أداة تنفيذية للدولة وليس للحزب الحاكم أو الرئيس، وبشكل عام لا يوجد تحديد كافي يوضّح ضرورة إخضاعهم للرقابة البرلمانية أو للمستوى السياسي، حيث تكتفي معظم النصوص على عبارات عامة مثل دورها في السهر على حفظ الأمن والنظام العام والآداب العامة .... الخ.

- هيمنة المؤسسات الأمنية على السلطة التنفيذية وتوحشها إذا ما قورنت بأجهزة الحكم الأخرى. حيث تزيد مساحة تمثيل رجال الأمن إذا ما قورنت بالفئات الرئيسية الأخرى من شاكلة التكنوقراط وأصحاب الأعمال وأساتذة الجامعات. لكن الأخطر من ذلك هو واقع انتزاع المؤسسات الأمنية بحكم نفوذها في العديد من الحالات لما يشبه حق الفيتو على شخص من يكلف بمنصب تنفيذي عام أو بموقع قيادي في المؤسسات التشريعية والقضائية فضلاً عن الأجهزة السياسية إن وجدت.

- دور المؤسسات الأمنية القمعي في ضمان استقرار واستمرارية الأنظمة الحاكمة، حيث تقوم الأجهزة بحماية النظام القمعي، من خلال ممارسات غير قانونية وغرس ثقافة الخوف بين المواطنين التي تؤدي إلى الخوف والرعب من المخابرات والعزوف عن المشاركة السياسية بين جموع المواطنين.

- هيمنة الأجهزة الأمنية على المؤسسات الاقتصادية وعلى رجال الأعمال بما يؤكد مقولة "التزاوج بين السلطة والثروة يولد الفساد" حيث اعتمدت الأجهزة الأمنية على أساليب تخرج عن نطاق دورها ومارست تأثيراً قوياً على دوائر المال ورجال الأعمال وأصحاب الثروة لأن المنافع المتبادلة تجعل رجال السلطة يقومون بحماية رجال الأعمال بينما يقوم الآخرون بدورهم عندما يقدمون كل أسباب الدعم المالي لمن يحكمون. وهذه تمثل صورة للفساد المزدوج في الحياة السياسية الأمنية والحياة الاقتصادية معاً، حيث يمارس أصحاب السلطة والأجهزة الأمنية والمدعمون منهم دوراً يساعد على الاحتكار ويحمى الفساد ويستنزف إمكانيات المشروعات الاقتصادية وعوائد الشركات التجارية.

- التكاليف الباهظة للأجهزة الأمنية: لقد شكلت التكاليف المالية التي تم تخصيصها لنفقات المؤسسات الأمنية إرهاقا للموازنة على حساب التنمية والاحتياجات التي تتعلق بالخدمات الأساسية مما جعل من موضوع موازنات الأمن عبئا كبيرا على الموازنة العامة.

إعادة بناء الأجهزة الأمنية على أسس الدولة المدنية

- من الضروري تحديد دور المؤسسة الأمنية باعتبارها أداة من أدوات الدولة وخاضعة للمستوى السياسي ومساءلة أمام المجلس التشريعي مع توفير كل متطلبات واحتياجات عملها في الدفاع عن الوطن والمواطن وليس للدفاع عن الحاكم أو الحزب الحاكم. وهذا يتطلب إعادة هيكلة وتوضيح الإطار القانوني المنظم لعملها والشكل المؤسسي المناسب لها وبناء العقيدة الأمنية على أساس دور الأجهزة الأمنية في الدفاع عن الوطن والمواطن وحماية المواطن من التعديات على حرياته الأساسية التي كفلها القانون الأساسي وتطبيق مبدأ سيادة القانون وبلورة السياسات الضرورية لعملها ونوع التسلح والتدريب وفقا لصلاحيات واحتياجات كل جهاز وعدد أفراده.

- إن إعادة تنظيم المؤسسة الأمنية بجوانبها القانونية والمؤسساتية والسياساتية على أهميته وأولويته لا يضمن وحده معالجة إشكالية حالة الفلتان والتدهور الأمني، حيث لا بد من معالجة عدد من الإشكاليات المسببة وذلك في إطار حوار وطني داخلي بهدف الوصول لحلول متفق عليها وآليات وأشكال عمل ورقابة وطنية بشأنها مع المحافظة على ما يعزز التعددية وحرية التعبير في المجتمع مع وجود وقانون واحد وأمن واحد للجميع يخضع العاملون فيه للمستوى السياسي وتخضع أعماله وموازناته لرقابة السلطات الثلاث.

- من الضروري أن تقوم الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني بحوار جاد يشارك فيه الجميع بما فيها مؤسسات السلطة والأطراف الأخرى لتحديد مفهوم وطني لشكل وطبيعة المؤسسة الأمنية وحجمها ودورها في النظام السياسي حتى لا يبقى هذا الحوار داخل غرفة مغلقة بين رئاسة السلطة ومسئولي الأجهزة الأمنية، لأن الإشكال ليس موضوع خلاف إداري أو مالي أو شخصي، بل هو موضوع سياسي من الدرجة الأولى يتعلق بالمفهوم الشامل لأمن المجتمع والأفراد، يجمع بين الأمن الشخصي ومتطلبات تنمية مستدامة وأولويات عمليات إعادة الاعمار.

- إن المطلوب أن تقوم الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني بمتابعة مناقشة القوانين الأمنية قبل إقرارها وفق الأصول، على أن يتم ذلك من خلال جلسات استماع وندوات حوار مجتمعية معلنة يساهم فيها الاعلام بشكل كبير.

- لقد بات مطلوباَ تشكيل هيئة رسمية تشكل مرجعية مؤسساتية للأجهزة الأمنية مسئولة أمام المستوى السياسي حتى لا ينشأ خلاف أو صراع بين الأجهزة أو حالة من الاستقطاب أو الصراع على السلطة لا يتاح في ظلها أي مجال لإعادة تنظيم وهيكلة المؤسسة الأمنية. ويجري تحديد رئاسة مجلس الأمن القومي وفقا لطبيعة النظام السياسي، حيث يرأسه رئيس السلطة في حالة النظام الرئاسي، في حين يرأسه رئيس الوزراء في النظام البرلماني، كما يناط بالهيئة إعداد وإقرار الخطط الوطنية لعمل الأجهزة الأمنية وإقرار السياسات العامة ذات الصلة، إضافة إلى إعداد خطة إعادة تنظيم العاملين في المؤسسة الأمنية.

- ومن الضروري العمل على توفير سياسة مالية واضحة والابتعاد عن سياسة التمويل العشوائي التي أتاحت الفرصة لممارسات خاطئة في تمويل عمل نشاطات الأجهزة الأمنية وفي السلوك المالي لمسؤوليها والتي شكلت الغطاء لسياسة فرض الخاوات وقبول رشاوى وتعديات على المال العام من قبل بعض مسئولي الأجهزة الأمنية.

- العمل على تدريب الاجهزة الامنية على احترام حقوق الانسان والابتعاد عن كافة أشكال انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها جماعات من الأجهزة الأمنية وإنهاء عمليات المداهمة غير القانونية والاعتقالات العشوائية وأساليب التعذيب غير الإنسانية التي يتعرض لها المعتقلون.

لقد شكلت سياسة التساهل إزاء ممارسات ضارة للأجهزة الأمنية أو قادتها مثل تدخلها في المجال الاقتصادي (مشاريع خاصة بهم أو تدخلهم بالمشاريع الاقتصادية في السوق)، وكذلك تدخلهم في حياة الأفراد مدخلاً كبيراً للفساد وتعطيل سيادة القانون أو الحياة الديمقراطية للأفراد أو المؤسسات، لذلك عند العمل على بناء الاجهزة الأمنية يجب تحديد دورها ومجال عملها، على سبيل المثال يجب عدم السماح لهذه الأجهزة بالتدخل في العمل السياسي والإعلامي والاقتصادي إلا بالطريقة التي يحددها ويجيزها القانون.

فإذا كانت أهم أسباب الثورات تكمن في تسلط أجهزة الأمن على المواطنين، والفقر وفقدان الفرص أمام الشباب، والفساد، وفقدان شرعية هذه الأنظمة، فكيف يمكن لنظام سياسي أن يتخلص من كل هذا دون إعادة إنتاج نفسه بوسائل جديدة تقوم على مبدأ الحرية، والعدالة الاجتماعية، والتعددية السياسية، وتداول السلطة، والتي بدون تحقيقها لا يمكن لسورية أن تخرج من أزمتها السياسية.

إن التحول الديموقراطي الذي نطالب به يتطلب إعلان موت الأيديولوجية الأمنية، والتي كانت تبرر تحويل الوظائف الأمنية للدولة إلى هدف في حد ذاته منفصل عن بقية وظائف وأدوار الدولة الحديثة، فتتقلص مخصصات التعليم والصحة لمصلحة الإنفاق على الأمن الداخلي، وتتضخم الأجهزة الأمنية وتتنوع مسمياتها وتتسع صلاحياتها على حساب السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويصبح التعاون مع الأجهزة الأمنية شرطاً لازماً للترقي والترشح لمناصب قيادية في الدولة.

من الضروري العمل في دولتنا الجديدة على بناء أسس الدولة المدنية واتخاذ الإجراءات المناسبة لإعادة بناء الأجهزة الأمنية وجعلها تقوم بمسؤولياتها ووجباتها الوطنية دون الإخلال بمبدأ الحرية والممارسة الديموقراطية وإلزامها بالتقييد خلال قيامها بواجباتها باحترام القانون وتنفيذ الإختصاصات الأمنية بشكل مقبول وعدم الإعتداء على حرية الفرد واحترام حقوق الإنسان.

* ملخص لفصل الدولة الامنية في بحث الدكتوراه حول حقوق الانسان والتنمية ومكافحة الفساد في الدول العربية، المقدم إلى الجامعة الامريكية: الدكتورة شذى ظافر الجندي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تفرج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين عند حاجز عوفر


.. الأونروا تحذر... المساعدات زادت ولكنها غير كافية| #غرفة_الأخ




.. الأمم المتحدة.. تدخل الشرطة في الجامعات الأميركية غير مناسب|


.. تهديد جاد.. مخاوف إسرائيلية من إصدار المحكمة الجنائية الدولي




.. سورية تكرس عملها لحماية النازحين واللاجئين من اعتداءات محتمل