الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشباب العربي وقتل الآباء

عبد الكريم بدرخان

2012 / 2 / 21
مواضيع وابحاث سياسية



في الأسطورة اليونانية، كان إلهُ السماء (كرونوس) يعلَم أن زوجته الأرض (جيا) لن تبقى له دائماً، فهي عندما تنجب أولاداً سوف تعطيهم محبَّتها واهتمامها، ولذلك كان يلتهم كلَّ مولود جديد يرزقان به، إلى أن قامت الأم بإخفاء مولودها الجديد (زيوس) في كهف في كريت، وجعلتْ والده يلتهم حجراً ملفوفاً بقماط طفلٍ بدلاً عنه، فعاش الطفلُ (زيوس) في الكهف، وعندما شبَّ قام بقتل والده (كرونوس) ليحكم السماء بدلاً عنه. وأسطورةُ قتلِ الأب من قِـبَل ابنه موجودةٌ في كل الميثولوجيات، لكني اخترتُ الرواية اليونانية لأنها الأكثر جمالاً وإحكاماً.

اهتمَّ علمُ النفس الحديث بفكرة قتل الآباء، وقد أسهبَ أستاذنا (فرويد) في شرحها كثيراً، في نظريةٍ سُـمّيتْ فيما بعد (عقدة أوديب)، لكن أستاذنا – كعادته- أعطى أهميةً كبيرة للدافع الجنسي، فقد عزلَ مفهومَ قتل الآباء عن أسبابه التاريخية والاجتماعية والفكرية، وأعطاه سبباً رئيسياً واحداً هو الدافع الجنسي، فهو الذي يدفع الابن لقتل أبيه، كونهما يتصارعان على امرأة واحد هي الأم، وهكذا فسّر (فرويد) كافة الصراعات التي تنشأ بين الأبناء والآباء على أنها صراع غريزيّ دافعُهُ الجنس، والقتل هنا قتل مادي وقتل معنوي.

وكما تطوّرتْ الفلسفة من مشكلة الوجود (ontology) إلى مشكلة المعرفة (epistemology)، فقد تطوّر مفهوم قتل الآباء كذلك، فلم يعد الابنُ يقتل أباه ليحلّ محلّه في السماء حسب الأسطورة، أو ليحلّ محلّه في العرش حسب التاريخ، أي لم يعد قتلُ الآباء استبدالَ وجودٍ بوجود، بل أصبح الابنُ يقتلُ فكْـرَ الأب ليضع فكرَهُ مكانه، ولذلك لم يعد صراع الأجيال صراع وجود بل صراع معرفة، وقد ساهمتْ ظروفُ الحياة المعاصرة – ولا سيما ثورة الاتصالات- بأن يصبح الابنُ أكثر معرفةً من الأب، وفق مقاييس المعرفة التي يعترف بها عالمنا الحاضر، فاليوم معظم الشباب مقتنعٌ بأنه أكثر وعياً ومعرفةً من آبائه.

إن ثورات الشباب العربي التي اندلعتْ خلال العام المنصرم، ليس سوى استمرارٍ لفكرة قتل الآباء، قتل الآباء السياسيين عن طريق إسقاط الأنظمة السياسية القمعية المستبدة، وقتل الآباء الاقتصاديين عن طريق إسقاط الأنظمة الاقتصادية التي أدتْ إلى الفقر والبطالة والتفاوت الطبقي، وقتل الآباء الاجتماعيين عن طريق إسقاط الأنظمة الاجتماعية التي زرعتْ النزعات الطائفية والعشائرية في المجتمع، وقد سمّيتْ هذه الثورات بالربيع العربي، لأن الربيع هو الشباب، ولأن الربيع لا يمكن تصوّره دون تصوُّر حالة الموات السابقة له.

في إحدى الدول العربية التي يحكمها حزبٌ واحد منذ عقود، قيلَ إن من يقوم بالثورة ضد النظام اليوم، هم أبناءٌ لأعضاءٍ في الحزب القائد، أي هم نفسهم ثاروا على أفكار آبائهم ومعتقداتهم، لأن الزمن تجاوزها من جهة، ولأن شبابنا – الأكـثـرُ وعياً ومعرفةً من آبائه- لم يعد بالإمكان تخديره بالشعارات الرنانة والأحلام الذهبية من جهة أخرى، ولذلك لا نستغرب اليوم عندما نرى مئات الشباب في ساحات الحرية، ونرى آباءهم - بنفس الوقت- يدعمون الأنظمة الأبدية.

الربيع العربي هو ثورة الأبناء على آبائهم، هو قتل الآباء المقدّسين ونزع القداسة عنهم، والشباب هم روح الربيع في جسد الحياة التي لا يمكن نزعها منه، إنّ إبعاد الشباب عن جوهر الحراك السياسي والاجتماعي والفكري اليوم هو وأد للربيع العربي، وعندها سوف يسجّل التاريخُ هذه الفترة باسم (الخريف العربي)، والخريف يحصل عندما يركبُ الثوراتِ آباءٌ غيرُ شرعيين لها، فيحكمون الوليدَ الجديد بفكر الآباء والأجداد، فكرِ السلَفِ والماضي الموات، وقد شاهدنا في إحدى الدول العربية كيف ركبَ الآباءُ غيرُ الشرعيين ثورةَ الشباب، ووصلوا إلى السلطة، بينما بقي الشبابُ معتصمين في الساحات.

الثورة قتلٌ للآباء، ولا يمكن أن تكون استبدالاً للآباء بآباءٍ آخرين، لأن ذلك إخراجٌ للثورة من سياقها التاريخي، ووضعها في متحف الأصنام والمستحاثات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوضاع مقلقة لتونس في حرية الصحافة


.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين: ماذا حدث في جامعة كاليفورنيا الأ




.. احتجاجات طلابية مؤيدة للفلسطينيين: هل ألقت كلمة بايدن الزيت


.. بانتظار رد حماس.. استمرار ضغوط عائلات الرهائن على حكومة الحر




.. الإكوادور: غواياكيل مرتع المافيا • فرانس 24 / FRANCE 24