الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألحرب ضد الارهاب تتحول الى عقيدة سياسية

حسن الجنابي

2002 / 9 / 15
الارهاب, الحرب والسلام


أن نهاية الحرب الباردة، على الرغم من أنها قلّلت من خطورة تدمير العالم وإبادة سكانه، خلقت أوضاعاً أبعد ما تكون عن التوازن والعدالة في العلاقات الدولية. فلم يسبق في التأريخ أن تمتعت أمة أو إمبراطورية بمثل ما تمثله اليوم الولايات المتحدة الأمريكية من قوة وجبروت وثروة وإمكانيات، يستعصي معها حل أية مشكلة دولية دون مشاركتها. وهذا عامل إرباك، ليس على الصعيد الدولي فحسب، بل على الصعيد الداخلي الأمريكي أيضاً، إذ لم يتفهم صانعو القرار الأمريكي أنفسهم بعد ما الذي يمكن فعله بكل هذا الجبروت عدا عن تكريس أحادية القطب، والزعامة المطلقة، وتحقيق الرفاهية الاقتصادية المحمية بدروع واقية وشروط حرب النجوم. لقد تعزز الشعور الأمريكي بالتفوق المطلق بعد حرب الخليج الثانية، وبدرجة أشد وضوحاً في حرب كوسوفو، اللتين خيضتا إلى حد كبير بتكنولوجية السيطرة عن بعد، فأضحت معهما الحرب شبيهةً بلعبة تسلية على الكمبيوتر!!. وحينما تكلل الأمر بانتخاب إدارة أمريكية جل طاقمها من المتشددين اليمينيين برئاسة شخص لم يخف جهله بقضايا العالم وجغرافيته، أصبح واضحا أن أزمة ما في قيادة العالم آخذةٌ بالتبلور. وقد تجسدت بعض مظاهر الأزمة في الانسحاب من اتفاقية كيوتو حول المناخ، ورفع اليد عن "أزمة" الشرق الأوسط، ورفض مشروع محكمة الجنايات الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب، وعدد من الإجراءات الاقتصادية والتجارية التي أحرجت حتى أقرب حلفاء الولايات المتحدة.

على هذه الخلفية جاءت أحداث سبتمبر لتهز أركان النظام الأمريكي المستسلم لفكرة التفوق المطلق والابتعاد الآمن عن مآسي العصر ومعاناة الشعوب. فقد سددت مجموعة صغيرة من المتطرفين ضربة قاتلة لهذا الكيان ومعه نظام العلاقات الذي أنجبه، فلفت الدهشة والذهول جهات الأرض الأربعة وهم يشاهدون انهيار برجي التجارة على الهواء مباشرة. فالهجوم، إذا ما أمكن التغاضي عن أبعاده الاجرامية بإستهداف المدنيين الأبرياء وهذا مرفوض قطعاً- هو عمل خارق من حيث التخطيط والتنفيذ والدقة، ولم يتخيله لا العرّافون ولا المنجّمون ولا مخرجو أفلام الخيال العلمي. لكنه أيضاً عمل طائش وإرهابي وأخرق بمستواه السياسي وينم عن جهل بالشرط السياسي ومحدداته المعروفة، فضلا عن أنه عمل بلا هدف محدد ولم يدرك مخططوه حجم تأثيره السلبي على دول وشعوب وجاليات لم تكن لها يد بما جرى، اضافة الى كونه محفزّاً وشاهد اثبات للتيار الغربي المتطرف الذي يدفع باتجاه المواجهة والتسلح والعدوانية.

من جانب اخر، فالهجوم يمثل، لدى الكثيرين، احتجاجاً متطرفاً على اللاعدالة السائدة في العلاقات الدولية وحجم الطغيان والعولمة السياسية والاقتصادية التي تجلت بأكثر أشكالها إيلاما في الدول الفقيرة. وهنا يجب الاستدراك أن هذا الاحتجاج لم يأت من طرف حريص على قيم العدالة وحقوق الانسان، بل من مجموعة متطرفة، لاوطنية، هلامية الابعاد والاهداف، تحترف العنف المنفلت، وتفتقر لأي برنامج عقلاني أو أهداف قابلة للتحقيق. وأن الصدفة وحدها جعلت هجومها الارهابي يتساوق مع مشاعر الغضب والاحتجاج التي تكتسح العالم والتي تجلت في الاحتجاجات الجماهيرية ضد المنابر الاقتصادية الدولية كما جرى في سياتل وجينوى وملبورن. ومن الطبيعي أن يتذكر المرء، ليس من باب القاء اللوم بقدر وضع الحدث بسياقه التاريخي، أن هذه المجموعة وقادتها كانوا حتى الامس القريب حلفاء أمريكا في حرب "الجهاد" الافغانية.

 

إن العالم اليوم أكثر خطورة مما كان عليه قبل عام. فالحرب الامريكية "ضد الارهاب" مستمرة دون أن يلوح في الافق أي مؤشر على نهاية محطتها الاولى، ويصعب التكهن بمديات محطاتها القادمة. بل أن الحرب ضد الارهاب تتحول تدريجياً الى عقيدة سياسية أمريكية، وايديولوجيا تستخدم كفزّاعة لمعاقبة دول اخرى. وفي الوقت الذي يمكن فيه تفهم حجم الغضب الامريكي كرد فعل على أحداث سبتمبر، وأحقية تغيير نظام حكم طالبان الهمجي، لايمكن السكوت عن القصف العشوائي للقرى والقوافل الفقيرة في افغانستان، واقامة القواعد العسكرية الدائمة، ومصادرة استقلال البلاد، وابتزاز الدول الاخرى، والعبث بالمحرمات كما جرى في نبش القبور لفحص جثث الموتى واخذ عينات الـ  DNA  وغير ذلك.

إن استعمالاً محدوداً للقوة قد يبرره العقل في العديد من الحالات اذا ما اريد للنظام السياسي الدولي أن يستقر، لكن الارتكان للقوة وحدها يصبح عامل تدمير وارهاب منفلت تتساوى عنده، من الناحية الاخلاقية، أفعال الدول الكبرى بإفعال أية عصابة أو مجموعة متطرفة. في حين أن المنطق يفرض البحث في أسباب الظواهر ومعالجتها لا خلط الاوراق والضرب بعرض الحائط بقيم الحوار والتعاون والعدالة. فبإسم محاربة الارهاب، مثلا، يحتضن دكتاتور عسكري في الباكستان، في حين يجري العمل الحثيث على اسقاط قائد شرعي منتخب كما هو الحال مع عرفات.

 

 وأودّ الاضافة هنا بأن موقف التشفي والشماتة بالامريكان اثر احداث سبتمبر، خطأ سياسي

واخلاقي جسيم ولا ينم عن شعور بالمسؤولية بل استهانة بحياة المدنيين. لكن من الصحيح أيضاً عدم تجاوز حقائق التأريخ والجغرافية والتجربة الانسانية لمجرد أن أعتداءا، مهما كان جسيماً، قد حصل في نيويورك وواشنطن. ومن المنطقي تذكّر أن امريكا هي البلد الوحيد في التأريخ الذي استخدم السلاح الذري ضد المدنيين في اليابان. فالعالم لم يولد في الحادي عشر من سبتمبر، بل أنه مليء بسلسلة طويلة من المآسي والمذابح والحروب كان للولايات المتحدة نصيب الاسد في العديد منها. وأنه لمن المفجع حقاً أن تعتبر الادارة الامريكية، أو أطراف مؤثرة منها، ما يجري من مذابح في فلسطين جزءاً من الحرب على الارهاب، وتفصل المأساة الفلسطينية عن سياقها التأريخي وأبعادها الانسانية.

مما هو مثير من ملامح ما بعد الحادي عشر من سبتمبر يمكن رصد أن كافة الدول العربية سارعت للتعاون مع الولايات المتحدة في المجالات الأمنية وتبادل المعلومات وتسليم المطلوبين. وهي تعتبر ذلك فرصة لركوب الموجة والابتعاد عن المستحقات الوطنية واولها الديمقراطية وقوننة الحياة السياسية وحق التعبير والتنظيم وتداول السلطة وغيرها. فما أن يسعى دكتاتور لتقديم معلومات عن "الارهابيين" حتى يدخل نادي المصداقية والشرعية المفقودة.

 يرتبط مسار الاحداث الى حد كبير بالمعالجة الامريكية لأحداث سبتمبر. فمن الواضح أن الامريكان لم يشفوا بعد من أثر الصدمة. ولا يوجد ما يوحي بحدوث ذلك قريباً. وهم يعتبرون أنهم في حالة حرب لا توجد أية افاق لنهايتها، وليس لها هدف محدد، عدا ما أعلن في بدايتها من القاء القبض على بن لادن وتقديمه للعدالة، وهو هدف تلاشى، ويتجنب الان المسؤولون الامريكان الحديث عنه، وقد تحولت تلك الحرب مع الزمن الى نوع من "حرب الاصوليات" حسب ما جاء بكتاب طارق علي بنفس العنوان. 

من سوء الحظ، وبإعتراف أغلب المحللين، أن الادارة الامريكية، لا تملك رؤيا سياسية معقولة للوضع الدولي. فالمرة الاولى التي تحدث بها جورج بوش عن "رؤيا" لحل أحدى مشاكل العصر هي عندما تحدث عن القضية الفلسطينية، فربط أزاحة عرفات بإقامة دولة مؤقتة يقودها موهوبون فلسطينيون يضعون أمن أسرائيل في مقدمة اولوياتهم!!!. ثم جاء اختراع "محور الشر" ، وعصاب محاربة الارهاب الذي يميز الخطاب السياسي الامريكي ويطغى على مجمل مواقف البيت الابيض، فخلق مناخاً متشنجاً أصبح به المسلمون والعرب موضع شك وانتهاك وتمييز في العديد من دول وقارات العالم.

لقد أدخلت احداث سبتمبر العالم في عصر مختلف من أوجهٍ عديدة ستبقى موضع جدل لمدة طويلة. وأن ما يأمله المرء هو أن تنتصر ارادة الشعوب بالديمقراطية والعدالة والسلم، وأن تقتنع الادارة الامريكية، ومعها الغرب عموماً، أن الارهاب ليس هو المشكلة الوحيدة التي تواجه البشرية، بل واحدة من تحديات كثيرة لربما كانت هي السبب الاساس لمشكلة الارهاب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دول عربية تدرس فكرة إنشاء قوة حفظ سلام في غزة والضفة الغربية


.. أسباب قبول حماس بالمقترح المصري القطري




.. جهود مصرية لإقناع إسرائيل بقبول صفقة حماس


.. لماذا تدهورت العلاقات التجارية بين الصين وأوروبا؟




.. إسماعيل هنية يجري اتصالات مع أمير قطر والرئيس التركي لاطلاعه