الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التشكيلي في البصرة... صناعة الفضاء في العدم

هاشم تايه

2012 / 2 / 25
الادب والفن


بعد جرعة الحريّة الهائلة التي سكبها في فمه العام 2003 واجه الفنان التشكيلي في البصرة، من جديد، مشكلته المزمنة مع الفضاء الذي يسع خطابه الخاص، ولا يعدو جداراً نظيفاً بلون محايد يستقبل إنارة كافية من مصدر ضوئي في مكان يصلح لإطلاق نصّ بصَريّ في حضرة جمهور مهتمّ..
وفي هذا العدم المكانيّ- لو سمح المفهوم- كابد التشكيليّ في البصرة عناء صناعة فضائه الخاصّ ساعة قرّر أن يعرض تجاربه، واكتشف ألاّ مناص من التطفل على أمكنة نادرة وجد أن عليه تكييفها لتمرير خطابه. فأنشأ داخلها جدراناً من صفائح خشب مستطيلة التصقت ببعضها وعلّق عليها أعماله..
عبد الرزاق سوادي فنان تشكيليّ بصريّ عانى من عدم وجود قاعة فنية مؤهّلة يعرض فيها أعماله، واضطر إلى أن يقيم أحد معارضه الشخصيّة في البيت الثقافيّ، كما أقام معرضاً آخر في القبّة الفلكيّة لجامعة البصرة. وفي هذين المعرضين احتال سوادي على المكان فصنع فضاء للعرض داخل فضاء أوسع غير محايد مستعيناً بجدران من الخشب..
لكنه حين دُعِي، من قبل التجمع الثقافي في البصرة، إلى أن يقصّ قصته مع اللوحة والألوان، وأن يعرض عدداً من أعماله في دار قديمة يتخذ منها التجمّع مقرّاً لأنشطته، لم يكلّف نفسه، هذه المرّة، عناء الاحتيال على مكان غير مؤهّل، فاكتفى بتعليق تسع عشرة لوحة زيتيّة أنجزها في سنوات متفرقة على جدران الفناء الداخلي لدار التجمع الثقافي. وفي هذا المكان قصّ قصّته لجمهور أنصت إليه بتعاطف كبير صبيحة الجمعة الموافقة 17/2/2012
وحيث وجد الفنان مساحة فارغة على جدران بالية، علّق لوحة من لوحاته حتى لو كانت هذه المساحة على شباك عتيق، أو بالقرب من السقف! وكانت النتيجة اختلاط اللوحات بمعالم الجدران، وبالإعلانات الملصقة عليها، وبشبابيكها، وبأبواب الغرف، وأجهزة الكهرباء، وغيرها.. وحصل التشويش الذي لم يمكن بالوسع تفاديه في عرض عشوائي قلّل، إلى حدّ بعيد، من فرصة التلقي المريح للعين بمواجهة لوحات على سطح لم يكن محايداً بالمرّة..
اخترع التشكيلي ذو الخمسة والسبعين عاماً كنايةً وتشبيهاً، حين شرع يقصّ قصته، فقال "أنا طلوع ربّي"! و"أنا مثل العاقول"! معترفاً لجمهوره بأنه فنان هاوٍ، لم يتلق تعليماً أكاديمياً يؤهّله ليكون محترفاً.
كما اخترع سبباً لعرضه أعماله، بالكيفيّة التي ذكرناها، في دار التجمّع القديمة قائلاً إن هدفه ليس إقامة معرض شخصيّ، بل هو يسعى إلى تحريك الجوّ الثقافيّ عموماً، والجوّ التشكيلي خصوصاً في مدينته. فهذان الجوّان، بحسب قناعته، راكدانِ، وهما بحاجة إلى حجر يحرّك مياههما، حتى لو كان هذا الحجر قصّة رحلة مع اللّوحة تُقصّ على جمهور في فوضى دار قديمة..
ويبدو أن التشكيليّ الشيخ يحلم بأن يستعيد الإبداع، والثقافة عموماً، تأثيرهما في جمهور عريض تجتذبانه فيقبل عليهما حيث يلقيان خطابهما الذي يجب أن يكون، برأيه، واقعياً، بعيداً عن الشكلانيّة والغموض، داعياً المثقف إلى أن يتبوّأ مكانه من جديد كـ "طليعة المجتمع" ومن دون تعالٍ كما حرص على القول.. وربما فاته أن يقول إن مثقفه مايزال يعمل بآليات وأطر تقليديّة داخل حاضنات مغلقة بعيدة عن الفضاء العام المثقل بأعباء أوضاع مزرية بلا حصر..
لا جديد في القصّة التي قصّها الفنان سوادي مرتجلاً عن تجربته، فهو، كغيره، شرع يرسم منذ الطفولة، وحين كان تلميذاً، واكتسب مهاراته من خلال تقليده أعمال عدد من الرسّامين، ثمّ استوى تشكيلياً بشخصيّة مستقلّة..
وما جعل قصته ذات وقع ملحوظ في مستمعيه أسلوبه البسيط في قصّها، وإنهاؤه كلّ مقطع من مقاطعها بعبارة فكهة قالها بالعامية. كذلك تواضعه الذي جعله يعترف بأنه مجرّد فنان هاوٍ، ولم يغتمّ أو يعترض حين وصفه بعض جمهوره بأنه فنان فطريّ تنقصه مهارات فنيّة أساسيّة..
الطريف كذلك تأكيد هذا الفنان أنّه ماركسيّ وعياً وثقافة وتوجّهاً، وأنه في الفنّ واقعيّ، بل واقعيّ اشتراكيّ. كأنه بذلك أراد أن يريح مستمعيه ومعظمهم يساريّون ضاعت فرصتهم، أو ضيّعوها، في فضاء احتجزته الطوائف واحتكرته لعصابها..
صناعة الفضاء في العدم لم تقتصر على التشكيليّ عبد الرزاق سوادي، فما أن فرغ من قصته، حتى انخرط آخرون بصناعة فضاء آخر بين جدران دار التجمع القديمة ذاتها... كانوا بضعة موسيقيين شبّان أمسكّ أحدهم عوده الجميل وطفق يحرّك أوتاره، ومع الأنغام انطلق أقرانه يغنون بعذوبة:
"لمّينا.. لمّينا ! يا بصرة، لمّينا !".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بشار مراد يكسر التابوهات بالغناء • فرانس 24 / FRANCE 24


.. عوام في بحر الكلام-الشاعر جمال بخيت يحكي موقف للملك فاروق مع




.. عوام في بحر الكلام - د. أحمد رامي حفيد الشاعر أحمد راي يتحدث


.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت يوضح محطة أم كلثوم وأح




.. عوام في بحر الكلام - إلهام أحمد رامي: أم كلثوم غنت في فرح با