الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجمرة

بدر الدين شنن

2005 / 1 / 12
الادب والفن


جلس وليد بجوار زوجته ينتظر .. وخلال إنتظاره، راح يتطلع إلى محتويات صالة الإنتظار .. لوحات فنية معلقة على الجدران .. مكتبة مليئة بالكتب والمجلات .. ستائر أنيقة .. مفروشات تؤمن راحة المواطنين . ثم أخذ ينظر إلى الجالسين في الصالة .. أجانب وأبناء البلد ، بعضهم كان يقرأ ، والبعض الآخر كان يتكلم هامساً . وبعفوية تامة خطر له أن يحسب كم بلاطة في أرض الصالة تساوي مترين مربعين .. واحدة .. إثنتان .. ثماني بلاطات . وضحك في نفسه لهذه الخاطرة . ثم انتابه بؤس أقرب إلى الحزن ، حين قفزت في رأسه فكرة .. إن المترين المربعين هما بحجم مساحة القبر
حاول أن يكسر هذا الإحساس بالعودة إلى سبب إنتظاره .. اليوم سيتسلم الهوية التي تعني إكتسابه الجنسية الجديدة .. البديلة. ويختتم بذلك مرحلة شاقة من مراحل البحث عن ملجأ .. وعن مستقر . لكن إحساسه البائس الحزين تواتر أكثر .. واندفعت تتقاطع في مخيلته الصور والذكريات والأزمنة

قبل عشرين عـامـاً

حصل وسط مسلحين ، يترصدون أمثاله ، على آخر بطاقة هوية في وطنه .. كان في تلك اللحظات محاطاً بين فكي الإعتقال والقتل .. ونفذ بإعجوبة بجلده وبالهوية
خمسون عـامـاً إلى الوراء

مدير المدرسة يقول لأبيه .. هذا ليس هو .. وهو ليس هذا ..
قال أبوه للقاضي .. أنا لاأفهم ياسيدي ماتقول .. كيف يمكن أن يحيا ميتاً ويموت حياً ؟ ..إنه حقيقة واحدة .. إنه من لحمي ودمي
وأمات القاضي الميت , وأحيا الحي .. وأعطوه ا سماً .. وهوية .. وعرف رغم صغر سنه ، أن الهوية تمنح الإنسان قيمة

بعـد ثـلاثيـن سنة

فتشوه .. أخذوا منه أشياءه والهوية .. وقالوا له .. من ليس معنا فهو ضدنا . ورموه في نفق لاتدرك له نهاية

لماذا لايشعر الآن بالإرتياح ؟ .. لماذا يشعر أن إنتماءه إلى وطن آخر ليس بإنتماء .. والأمان ليس بأمان .. والهوية بلا هوية ؟
وجاءه صوت زوجته سائلاً ، لماذا لاترد .. أين أنت ؟
قال لها ، أنا هنا .. أنا معك
قالت ، نعم أنت معي .. لكنك لست هنا .. ما الأمر ؟
أجابها بصوت متهدج .. إنها الهوية
أحزنت الزوجة طريقة لفظه كلمة " هوية " وبدا لها أنه يلفظها كما يلفظ كلمة مأساة .. مصيبة . وا ستعادت في ذهنها ما كان يردده حين هم بطلب الحصول على الجنسية " إن هي خلصتنا من كوابيس الترحيل إلى جحيم القهر ، في أية لحظة ، فهي لن تمنحنا ذاك الذي لايعوض .. الذي لايمكن نقله في حقيبة السفر .. إنه الإنتماء الأصيل وروحه ودفئه

السيد مظلوم .. السيد وليد مظلوم .. هكذا نودي عليه باحترام . نهض وسار باتجاه الصوت . ومع كل خطوة كان يزداد اضطراباً .. كأنه يسير على الصراط المستقيم دون كتاب
وتذكر .. خيروه في بداية الغربة .. المنفى .. لما ا شتد عليه الخناق ، أن يسقط جنسيته .. أصوله .. أن يمحي إنتماءه لوطنه ، الذي هو أمه وأبوه وجدوده وروحه ، مقابل حصوله العاجل على الأمان . وضعوه بين نصلين قاتلين .. أن يسقط مغدوراً من قبل ذوي القربى .. أو يسقط روحاً من قبل ذوي الرحمة . وتوالت السنون والأيام .. لاشمس الشرق أ شرقت .. ولاشمس الغرب أدفات . ومفاعيل الغربة اللئيمة دفعته .. ركلته .. ليقف ذليلاً طالباً عباءة يتقوى بها جلده المجلود

نظرت إليه الموظفة مرة إثرمرة .. كتبت .. سجلت .. لحظات وقالت له .. وقع هنا .. وتسلم الهوية
تمعن في صورته تتوسط الألوان والأرقام والأختام .. وغاص في أعماق نفسه . حاول أن يستوعب هذه اللحظة ، التي شعر أنها أصبحت في حياته علامة افتراق بين زمانين وعالمين .. حاول أن يفهم هذه النقلة التي جرفته إلى متاهات جديدة .. من هو الآن ؟ .. هل مازال إمتداداً لما كان ؟ شئ يشبه التحول .. يشبه التجويف هزه بقوة ، هز شيئاً كبير الأهمية بداخله ، أشعره أنه لم يعد الذي كان .. ولم يعد أبعد من الصفر مسافة تذكر .. وضيع الجهات الأربع . عاد وانفصم إلى إثنين . لكنه الآن بلا قاض ينصفه ، وبلا أب يتشبث بوجوده
وفهم بعمق لم يدركه من قبل ، لماذا بكى صاحب إمرؤ القيس ، لما أيقن أنهما لاحقان بقيصر

رغم كل تداعياته واضطرابه ، كان بإمكانه أن يغادر المبنى ، ويتجه إلى البيت بهدوء ، لولا أن أحد رجلين يتكلمان العربية ، قال للآخر بالقرب منه .. تهانينا على الجنسية يا أخ .. ونظر إلى وليد مبتسماً موحياً أنه يقصده بتهنئته تلك . حينها شعرأن نياط قلبه تقطعت .. وشئ يشبه الدوار بدأ يتغلغل في راسه . حاول ان يجمع كلمات يرد بها على تلك التهنئة .. أراد أن يقول لذلك الرجل .. أألى هذا المستوى وصلنا .. نلتقط عظمة على قارعة الطريق ونسميها كنزاً .. وهل تعادل كنوز الأرض كلها حفنة من ترابنا ؟.. لكنه عجز عن النطق بكلمة واحدة . وبدأ توازنه يختل
أمسكت به شريكة العمر والعذابات والمنفى .. طوقت وسطه بيدها .. قات له .. هون عليك .. ألم تكن تعرف مسبقاً تداعيات أوضاعنا ؟
قال لها أ سمعت ما قاله ذلك الرجل .. لقد قالها وكأننا ا ستعدنا القدس .. كأننا ..
أجابته .. وهل بيدنا خيار آخر ؟ أليس من حقنا ، أن نعيش هنا بعد أن ا ستحال العيش علينا هناك ؟
قال .. نعم .. إنما يجب ألاّ نفقد وسط ظلام الدروب الخيارات الصحيحة .. ألاّ نسمح للأمنيات الكاذبة أن تسيطر علينا .. ألا نتصور أنه يمكن تبديل الوطن مثل تبديل الثياب . الآن ، أ شعر بالمدى الأمر والأبشع للقهر .. بالمدى الأعمق والأعمق للحرية .. أ شعر أن الذي هربت قد لحقني إلى هنا . وهو يجثم فوق صدري كالجبل .. آه لو أملك القدرة لأغرق عال القهر ببصقة كبيرة .. آه لو أقدر أن أحرق زمن الغربة بلحظة .. وأعود إلى ديارنا .. ولو ليوم واحد قبل أن أموت .. وقال .. أنظري إليها .. وأشار إلى الهوية في جيبه ، وزفر زفرة طويلة حارة وقال .. كم هي تعذبني ..كم تحرقني
قالت .. أنا أدري ذلك .. أدري أنها في جيبك مثل جمرة ملتصقة فوق القلب . لم تمنحنا إنتماء ولادفئا .. هيابنا نذهب إلى الأولاد

دخلا البيت .. جلسا دون اكتراث بأسئلة الأولاد الفرحة الساذجة .. بابا .. ماما .. هل أصبنا أوربيين ؟
لم يستطع أن يقول شيئاً .. أحس بالإختناق ، وشئ ثقيل يضغط .. يعصر قلبه . نظر بأبوة عميقة إلى الأولاد ، وتساءل في نفسه ، ماذا يمكن أن يكون مصيرهم بعد سنوات .. ماذا سيقولون عن هذا الزمن .. هل سيتفهمون ذات يوم سبب تغربهم وانسلاخهم ؟
نهض ودخل غرفة النوم . أراد أن يتخلص من أ سئلتهم ، ومن حراجة الموقف . لكنه فوجئ به في الغرفة .. صارا وجها لوجه .. وحين نظر في عيني نفسه ، شعر بتزايد الضيق والإختناق .. والخجل .. أراد أن يتكلم أن يبرر .. أن يسمع صوت روحه ، لكن الآ خر ظل صامتاً . كان مثله مكسورأً . وانحدرت دمعات سخية من العيون .. بللت الخدود ثم العنقين .. ومن العنقين إنحدرت متدفقة إلى الأرض . أغرقت الدموع أرض الغرفة .. وراح الماء المالح المر يعلو .. ويعلو .. تشظت المرآة وتناثر الآخر .. ووجد نفسه يغرق .. ويغرق . وبكل العزم المتبقي فيه راح يصرخ .. أبي .. أين انت يا أبي .. لقد غربوني عمري كله

وحين كان الأطباء في قسم الإسعاف ، يتبادلون الدهشة ، وهم يحاولون بصعوبة بالغة ، فك تشابك يديه فوق صدره ، كان هو يعانق شاهدة قبر أبيه بسعادة كبيرة .. وينعم بالفْ والراحة والأمان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح


.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة




.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ


.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ




.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال