الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثمّة أشياء أخرى لـ (حميد العقابي) ـ التغريب وموضوع التأويل في تعرية النموذج النمطي ـ

كريم ناصر
(Karim Nasser)

2005 / 1 / 12
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


من الضروري جدّاً قبل البدء بتحليل القصص وتفكيك رموزها، ينبغي لنا أن نعرف بالضبط ما هو غرض القصة، حقيقية أو تخيليّة، مأساوية أو ملهاوية؟ هل هي رسائل ملغزة توجّه شفراتها للقارئ لتختبر (مهاراته التفسيرية) بوصفه عنصراً مهماً في إنتاج الدلالة، أم هل هي ((كلمات وأفعال معينة توحي ضمناً بمعانٍ دلالية مختلفة)) تخاطب القارئ وتشكل وعيه الفكري، أم هي مزيج من الاثنين؟
إنطلاقاً من هذا المعنى تقدّم المجموعة القصصية المعنونة (ثمّة أشياء أخرى) لحميد العقابي رؤيتها بطريقة متفرّدة لا تقل إمتاعاً ودهشة، عمّا نقرؤه لكتّاب عرب أو أجانب. يمكن القول فإنّ قصصه هذه تحمل طابعاً تمردّياً بمعنى من المعاني، وهو ليس تطرّفاً ينحو إليه الكاتب لتثبيته كنمط، وإنّما طريقة تعبير يظهر فيها الحدث مقنّناً على نحو مدهش، منبّهاً القارئ بتخلّيه الكامل عن عرض التفاصيل، بل أنه لا يخبره الشيء الكثير عن النتائج، ومصائر الأبطال، وتعقيدات الوضع الراهن، على قدر ما يحفزه على المساهمة معه للبحث عن معنى أو تفسير معين لذلك، مهما تكن الشفرة المتضمّنة تأويلية أو دلالية، إذا ما وضعنا بنية الجملة مقابل بنية القصة، لكون أنّ بنية الجملة هي جزء من بنية القص، ومثلما تتكوّن بنية القصة من ((سلسلة الأحداث (episode) بوصفها وحدة أساسية لها، وتنتج هذه بدورها وحدات فرعية)) وأفعالاً وقوانين وأنساقاً، فإنّ لبنية الجملة معاني مختلفة أيضاً تكوّن وحداتها الأساسية. ومقاربة استقرائية لنقد هذا الكتاب تقودنا إلى تقسيم محتوياته إلى ثلاثة أجزاء:
ـ الإيروتيكا والتقمّص الجنسي
ـ تغليب الطابع الشعري على مهيمنات النص
ـ تأكيد النموذج غير السردي

الإيروتيكا والتقمّص الجنسي:
((إنفتح الباب بفرجة صغيرة تكفي للعين أن ترصد المتخفّي، وتكفي للوهم أن يتجسّد فيسطع نهدٌ أُفلت من قميص النوم الشفّاف، لا أدري من منّا ارتدّ أنا أم هي))، الجارة ص44. بهذه الجملة يمكن أن نفسّر التقمّص الجنسي المتضمّن في القصة التي جعلت من الجنس ثيمة لها، بأنّه تحوّل نحو الإثارة، وأيّ قارئ حاد الملاحظة يمكنه أن يفهم المغزى منها. وإنّ نظرة عامة إلى مكوّنات البنى التحتية لقصص هذا الاتّجاه، ستجعلنا ألاّ نفرّق بين الإشارة إلى الجنس كما في: (المغنّي، وواقعية، حصار، بنات آوى، فضول، والغرفة، والمروّض، والسيرك) أو إثارته على الملأ كما في (الخيّام، بعد الطوفان، وعناد)، أو الترويج له والدعوة إلى ثورة جنسية كما في (آية الكرسي)، غير أنّ القصص في كل الأحوال جنسية، تدعو إلى التحرّر من التابو الديني والقبلي والعشائري الذي يفرض سياقاً محدّداً من الأنظمة والقوانين الصارمة.. ولكن يبقى السؤال دائماً وارداً: هل المقصود من التحرّر الجنسي بالمعنى المجّاني، مثل القيام بعمليّات جنسية شاذّة؟ وأعتقد أنّ الجملة التي قيلت على لسان (الشيخ) الشخصية الهامشية في (صليب الشهوة) تبرّر تساؤلاً كهذا مثل: ((أية جريمة أبشع من جريمة إنسان يغتصب أمّه)) ص63.
والحق أنّ تصوّرات من هذا النوع تسوقنا إلى فهم أننا أمام معضلة جنسية، كما لو كانت واقعية، سواء أكان مبالغ فيها أم لا، مع ذلك يبقى مفهوم الجنس نظرياً في مجتمعاتنا الشرقية صورة أخرى للواقع، وهي غير قابلة للتأويل والمجادلة في ظل الهيمنة اللاهوتية ـ الدينية ـ والقيم الاجتماعية المعقّدة، لكنّ القاص في الحقيقة لا يهتم كثيراً بموضوعات كهذه، وهو لذلك لا يقيم وزناً لها في ظل معايير أخلاقية، ما دام أنّ هدفه الأول هو الإبداع والمغايرة، منبّهاً القارئ أنّ ثمة من تغيّرات كبرى تحصل في المنظومة العالمية، وفي الجنس بصفته مادة ممتعة للمداولة، ونموذجاً طبيعياً للتواصل الإنساني، وبوصف الجنس مظهراً من مظاهر التطوّر الحضاري، كالتطوّر الموجود في التكنولوجيا وفي الأدب والعلم والفلسفة.. يقول: ((لا بدّ من ثورة جنسية تقوّض كل المفاهيم القديمة، تخرج فيها العفّة إلى الشارع عارية لتعلن على الملأ كذب عذريتها، وهنا تذكرتُ الموعد وقد قررتُ البدء بالتحضير لهذه الثورة مع فتاتي المنتظرة، سأحاول إقناعها بالذهاب معي إلى الفندق لنحتفل معاً بساعة الصفر، ولكن فتاتي لم تأت، وقد مرت ساعة على الموعد المقرر، لم آبه بذلك فأنا مشغول الآن بكتابة البيان الأول للثورة التي ستعلن نفسها خارج سياق التاريخ)) آية الكرسي ص22

تغليب الطابع الشعري على مهيمنات النص:
لم تكن طغاوة الشعر على مهيمنات النص القصصي اعتباطياً صرفاً، أو خللاً فنياً قائماً على تصوّرات مغلوطة، ولذلك فليس من الحكمة إطلاق التكهنات بسطحية تامة من دون الرجوع إلى العناصر المكوّنة لتجربة الكاتب، لذلك لا نتوهم كثيراً إذا قلنا أنّ الأمر طبيعي جدّاً، خصوصاً إذا ما وضعنا في حسباننا أنّ (العقابي) شاعر قبل أن يكون قاصاً. وإنّ التأثير الشعري المهيمن على القصصي في رأينا ليس أمراً حاسماً غالباً، أو بنية مستقرّة تفرض مسبقاً ثيمة محدّدة كهذه، إلاّ بمقدار ضئيل جداً إذا ما لا حظنا التطوّرات البنيوية التي تحصل بين الفينة والأخرى في سياق القص للتحرر من هذه المسلّمات تدريجياً.. وأحسن الأمثلة لتعزيز هذا الاتّجاه هي القصص: (بعد الطوفان) و (عازف البانجو) و (رأى ما رأى، رأى) التي تسعى بقوة إلى الحدّ من طغيانية الشعر الذي يكتنه سياقاتها..
نستخلص أيضاً أنّ (كمائن) الجزء الأخير من الكتاب المسمّاة شعراً بمعنى من المعاني، والمنشورة ضمن كتاب (خمسة شعراء عراقيين) العام 1998 هي مشروعات قصص غير مكتملة الملامح من حيث الشكل أو من حيث البناء المعماري، وحتى أنّ القاص بقي لوقت متردّداً في تشخيصها بكونها قصصاً أم شعراً حكائياً، وهذه الازدواجية في الفهم أقلّ كثيراً من أن تنفي المبدأ القائل بوجود الشعر الذي يعلن نفسه على نحو واضح، ولكن في المحصلّة النهائية نتوصّل نحن والقاص معاً إلى نفس النتائج التي تدل عليها ضمناً.. والمنطق يقول:إنّ القصة الحقيقة ترفض مسبقاً معاملتها معاملة الشعر الحكائي، الذي يبقى جوهراً وقالباً شعراً خالصاً، وعليه لا يمكن التعاطي مع المفردة الشعرية في تركيب قصة مثلاً، فهي مفردة منافية للقص إلاّ في حالات استثنائية، والحال أنّ القصة القصيرة لا تخضع إلاّ لمعايير هي في الواقع من صلبها.

تأكيد النموذج غير السردي:
إنّ تفضيل الدرامي على (الخلاصة السرديّة) لا يلغي بالضرورة مظاهر الإبداع أو عناصر التخيّل أو أفكار الشخصيات، حقيقة كونها جزءاً من تقنيات السرد.. نستطيع أن نقول إنّ القصة القصيرة كفن وكرؤية وكواقع لا تتحمّل الشرح الطويل والوصف السردي عمليّاً، ولا يكون مهماً أحياناً التعليقات المسهبة على لسان الشخصيات، ما لم يكن ذلك ضرورياً.. فإنّ السرد ليس موضوعاً حاسماً كلّي الرؤية في إنتاج القصة، بخلاف الرواية التي تتقبّل المسرودات، والتعابير المطوّلة، والتكرار، والأكليشيهات، والاقتباس، ولقطات من قصة (صفوان الوعل) تقودنا إلى فهم من هذا النوع للمشهد المختزل وتغليب الدرامي على السرد، كنتيجة لتشكيل الرؤية مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ الاستغناء عن التقنيات السردية لا ينتقص إرادياً من جماليات القص، وفن التعبير القصصي.. فالانتقال مثلاً من فعل إلى آخر ممكن الحدوث، دونما سرد تصويري أو تاريخي أو تخيّلي، أو السرد (بوصفه خلاصة) لمقوّمات القص بتعبير أفضل، مثل الاعتماد على الحدث الصغير واللّقطة التي يمكن توظيفها تقنياً وتعبيرياً..
ففي (صفوان الوعل) يمتزج التاريخ بالحرب والدين بالشرف والحاضر بصيغة الماضي، وقد يخلق لدينا الانطباع بأنّ التاريخ يعيد نفسه متجلياً بصوره المأساوية. وإنّ الأفعال الحركية التأويلية ما هي إلاّ نتائج لاستشكالات الواقع المتواتر، مع التسليم (بالنقطة السابقة) وهي التأويل ونقد الأفكار التي تجعل التحوّل من فعل إلى آخر ممكناً، ومسلّماً به دون الأخذ في الاعتبار المسرودات أساساً لتجسيد القصة. وما نجده في قصص مثل: (دفتر التلفونات القديم، وعازف البانجو، والخيّام وهي (قصة تقترب من الوصف الصوفي) لا يختلف منظوره رؤيوياً عن (صفوان الوعل) في الالتزام والمنحى والتقنية والاختزال، لتأكيد النموذج غير السردي.
((أضواء ملوّنة تخرج من صدفات فضيّة، يسبح الضوء على أعشاب يانعة تنمو بسرعة محسوسة، أطفال يولدون بين الأعشاب، عراة يعبرون انهار الضوء، ويركضون عابرين الأقاصي، دلافينُ بنفسجية تقفز من أحواض اللازورد فتسبح الروح برشاش من الرذاذ الضوئي)). عازف البانجو ص37
فالكاتب هنا يعي ما يقوله وإنّ هدفه الرئيس هو موضوع التأويل في نقد المجتمع وتداعياته من منظور جمالي ورؤيوي وصوفي، وهي صفة مميزة في قصصه على أن يكون الاختزال خطاً بيانياً في سياق المعنى، والكلام مختصراً في إنتاج الدلالة، وهذا ما ينبهنا إليه القاص دائماً حين يستعمل في أكثر قصصه النموذج غير السردي، والمشهد ـ الحدث ـ بدل الخلاصة متخطياً بذلك الكثير من التفصيلات الأسلوبية والروي، إذا ما وضعنا: القصتين (واقعية، ونصر بن حجّاج) خارج هذه المقاربة النقدية كونهما تضمّنا أسلوباً حكائياً سلفاً، و (المغنّي، سيرة ذاتية، الصرصور، لحظة فرح، وندم متكرر) كونها قصصاً تعتمد على بديهيات تقليدية.
أمّا إذا اعتبرنا ((أنّ السرد هو المعيار)) مسلّمين به نهائياً بصفته نظرية مطلقة لا تقبل التخطئة، ((وأنّ صفة السرد المميزة هي امتلاك المدخل إلى أفكار الشخصيات ومشاعرها))، وتكويناتها السيكولوجية، وهي المدخل أيضاً إلى التخيّل، فسنستطيع القول إنّ الجوهر الفعلي للعمل الأدبي رواية أو قصة، هو نفسه مهما اختلفت التقنيات الأسلوبية سرداً أو مخيالية، وإنّ الفعل الأدبي لا يتحقّق بتأثيرات القوانين النظرية والإجتهادات، مثلما يتحقّق بتأثيرات الفعل وإنتاج المعاني والتغريب والتحديث.. ((فقبل أن يطوّر المنظّرون أدوات دقيقة لتصنيف الأحداث وإقامة علاقة متبادلة بينها، لم يكن ممكناً أن تطرح بدقّة قضيّة ما إذا كانت القصص تنتهي بطريقة شكلية معينة أم لا. إن ما نتطلّبه من نظرية ما، كما يظهر الفيلسوف كارل بوبر karl popper هي بالضرورة كونها صحيحة، وإنّما كونها قابلة للتخطئة، فأن إنتاج نظرية يمكن مناقشة أغلاطها انتصار على تشوّش الذهن: فالنظرية يمكن رؤية أغلاطها بوضوح هي نظرية تتضمّن مفاتيح لكيفية العثور على الحقيقة التي ننشدها.. كما قال بيكون: تظهر الحقيقة من الخطأ بأيسر مما تظهر من الارتباك)). والاس مارتن.
وعلى ذكر السرد ((فحتى أرسطو رأى أن على الشاعر الملحمي أن يسرد أقل مما يمكن)). فالسرد في جميع حالاته يمكن أن يغدو تقليداً مملاً إذا خلا من الدرامي..
وفرضية التخيّل حالها حال السرد، وحسب تعبير بعض منظريّ السرد يُعتبر التخيّل شكلاً مماثلاً للخطاب اللاأدبي والتخيّل الشعبي تافهاً أو ضارّاً. ((إنّ المسرودات التخيّلية التي تستخدم الشخص الأول السارد هي بيانات عن واقع مزيّف)). هامبرجر. فالنص غير السردي لا يتبنّى مثل ذلك النوع من التخيّلات في كلّ الأحوال إلاّ (التخيّل الحقيقي) الملغز الذي يُؤكد بالدليل القاطع. وذلك لكي نفهم علينا الإقرار بالمتخيّل انطلاقاً من هذا المعنى المدرج أعلاه.. المتخيّل بالاصطلاح الإبداعي بوصفه انعكاساً لأفعال غرائبية مختصرة، (وليس البديل للتقاليد) الموروثة بوصفها أسلوباً.. الجنس الأدبي يصبح أكثر إشراقاً وتقبّلاً وقيمة أدبية، إذا ما خلت بُناه التعبيرية من (الأنواع غير الجادّة)، والقصص الزائفة، والأفكار الشاذّة ـ النكوصية ـ ونظرية شكلوفسكي في التغريب وتعرية النموذج النمطي انطلاقاً من هذا الفهم تبدو مقنعة أكثر من أيّ وقت مضى، كون التقليد هو عدو التغريب وليس بديلاً له.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس الأوكراني: الغرب يخشى هزيمة روسيا


.. قوات الاحتلال تقتحم قرية دير أبو مشعل غرب رام الله بالضفة




.. استشهاد 10 أشخاص على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على مخيم ج


.. صحيفة فرنسية: إدخال المساعدات إلى غزة عبر الميناء العائم ذر




.. انقسامات في مجلس الحرب الإسرائيلي بسبب مستقبل غزة