الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإرسي لسلام إبراهيم - هذا المشهد الروائي الباهر -

حسين سرمك حسن

2012 / 3 / 1
الادب والفن



في دراسة نقدية عن رواية الأحمر والأسود لستندال قال الناقد الفرنسي "روجيه نيميه" وهو يتحدث عن إحدي صور ستندال الفنية التي حفلت بها الرواية الشهيرة والتي ملكت عليه لبه: (هنا.. يجب علي المخرج أن يضرب رأس الممثل بقطعة من الديكور ).
وفي بعض الروايات مشاهد فذة تعلق بذاكرة القاريء إلي الأبد. هي مشاهد متخمة بالدلالات الإنسانية المصوغة فنيّا بصورة لا يمكن نسيانها أو مقارنتها بغيرها من المشاهد. إنها لحظات فنية تتجاوز الواقع وتخرقه. هنا تبدأ الحياة بمحاكاة الفن لا العكس. من تلك المشاهد وقفة مدام بوفاري في رواية فلوبير الشهيرة وهي تحاول الإنتحار ثم تشاهد المغني الأعمي فيصعد إليها الرصيف وتحجم.. ومنها المشهد الذي ينحصر فيه بطل رواية كل شيء هاديء في الميدان الغربي لريمارك مع الجندي العدو الذي يلفظ أنفاسه.. ومنها مشهد أحد شخوص أحلام مستغانمي في روايتها عابر سرير وهو يرتعد أمام محاولة المتطرفين تحطيم الباب لقتله.. ومنها محاولة منيرة بطلة رواية فؤاد التكرلي "الرجع البعيد" الإنتحار ومنعها من قبل شقيق زوجها وحديثها الباكي الساحق حزنا ونقمة علي الحياة وظلم الناس. وفي رواية سلام إبراهيم "الإرسي" ــ دار الدار ،القاهرة، 2008 ــ هناك مشهد لا نعرف بأية قطعة من الديكور نضرب رأس الممثل بها. إنها قطعة فنية ستكون من كلاسيكيات السرد العراقي. فقد اتفقت العمة مع ابن اختها الجندي الهارب من الخدمة العسكرية، علي أن لا يخبر زوجته بمكان اختفائه في علية "إرسي" بيتها. هكذا تمر سنوات لا يري فيها زوجته وطفله الوحيد. وفي وحشة العزلة وظلمتها يناجي زوجته الحبيبة في مونولوج جارح عن حزنه وافتقاده لها ولأصدقائه وصخب الحياة اليومية:
(صرتُ مثل روح يا حبيبتي؛ روح غير مرئية غادرت الجسد الفاني، روح هائمة، تدور في العتمات والأمكنة، روح تتحاشي التجسّد للأحياء كي لا تثير فزعهم.. تتأملهم من الزوايا والأركان المنسية.. ــ ص 52 و53). ووسط هذه التداعيات يسمع صوت زوجته آتيا إليه من الشارع.. تصوّروا ردة فعله وهو يراها حاملة ابنه في الشارع من فتحة الإرسي الصغيرة.. لا هي تدري به.. ولا هو يستطيع مخاطبتها.. ولا يفصل بينهما سوي مسافة بقدر سُمك زجاجة الشباك:
(.. وبغتة اخترقني صوتك. اضطربتُ. توترتُ. تشنجتْ أصابعي الممسكة بإطار الشباك الخشبي. أمد بصري.. أدوّره.. من أين يأتي؟ من الشارع أم من أوهام ذاكرتي؟! أتكونين خلف النافذة؟.. و.. و.. أسمع نبرتك الفريدة، واضحة قريبة هذه المرة.. وأنت تنادين وتمازحين بنتا جميلة تقف ضاحكة بمواجهة موضعي. أطفر إلي الجهة الأخري. أرمي بصري من الزاوية المقابلة. لا أري شيئا. ثمة غشاوة انسدلت علي عينيّ، مضافة إلي غشاوة الأتربة المتراكمة علي مشبك السيم الصديء. أصبح من العسير تحديد ملامح الوجوه في ضوء الغروب. أفرك عيني متخلصا من الغشاوة البيضاء. أعاود الحملقة. أقتحمني صوتك هذه المرة قويا.. قريبا، مباشرة خلف النافذة. أشب علي أصابع قدمي. أميل مجازفا بالاقتراب من زجاج النافذة. باغتتني قسماتك دانية، لا يفصل بيننا سوي سُمك الزجاج. بخطوك المتأني ووجهك الباسم تدخلين مسافة نافذتي، يباغتني وجه ابننا المدور الجميل، يحدق نحوي ضاحكا وكأنه يراني. أشبّ. أتلظي بناري وأنت تستكملين احتلال فضاء النافذة. تستديرين بقامتك الرامحة نحو البنت الواقفة علي عتبة بيت مقابل تبادلينها الكلام.. استديري نحوي يا حلوتي.. أريد أن أراك من هذه المسافة. أريد التحقق من ملامحك التي ضببتها الأحلام والأخيلة والرغائب والذاكرة. أردتك أن تلفتي كما صغيرنا مرة واحدة. ها أنت تشرعين بالخروج من فضاء نافذتي، ودون وعي وجدتني أضرب عارضة النافذة بقبضة مضمومة مما جعلك تجفلين متلفتة صوب عتمة الشباك ، ناظرة بعينين فزعتين.. أتشرب ملامحك المضببة بأغبرة المشبك، والزجاج المغبش بأنفاسي المتلاحقة... تبتعدين. ألاحقك. ستمرين أمام باب البيت. أركض مثل مجنون نحو المدخل. ألصق عيني بثقب المفتاح. يجيء حفيف العباءة أولا.. و.. تقتحمني رائحتك العذبة الظالمة المُعذبة... أستجمع وشل شجاعتي الغاربة كي أستطيع سحب درفة الباب.. يملؤني خيال عناقك.. ضم جسد ابننا.. سأشبع بكاء.. سأبلل رقبتك التلعاء.. سأ.. سأ.. سس.. سس.. أزحزح كفي القابضة أكرة الباب باغيا سحبها.. تعصي متمنعة والسواد يشغل سماء الثقب، ويغيب. تنحل أصابعي وتموت فوق الأكرة ، وجسدك المحتشد النابض يتلاشي في شحوب المساء.
فأسقط متكوما علي بلاط المدخل حاضنا الستارة القديمة. أنتحب نحيب مذبوح، وأحدق عبر غلالة الدمع الفائر المنسكب بالمساء الذي احتل الباحة المهجورة بلون ظلامه الشفيف ــ ص 53 ــ 55).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي


.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال




.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما


.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم




.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا