الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدستور ليس برنامجا حزبيا... تلك هى «المعركة»!!

هانى جرجس عياد

2012 / 3 / 4
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


من المفارقات المشحونة بالدلالات أن تتحول كتابة الدستور إلى «معركة»، وكأنه ينقصنا المزيد من المعارك، ذلك أن قواعد كتابة الدساتير فضلا عن مضمونها قد استقرت وأصبحت معروفة ومتقفا عليها، ولا تستدعى أية معارك، بل مجرد اجتهادات فى تفاصيل تختلف من بلد إلى أخر.
تداعيات «المرحلة الانتقالية» فى مصر تفرض ضرورة استدعاء بديهيات، لم يعد أحد يحتاج العودة إليها إلا نحن، فلم يحدث فى التاريخ، فيما أعرف، أن ثورة قامت لتنتخب برلمان، وأن برلمانا وظيفته التشريع والمراقبة انتخب جمعية تأسيسية لتضع دستورا، وتلك إحدى النتائج المأساوية التى أفرزها تحالف «لجنة المستشار» و«مجلس المشير» منذ فبراير 2011.
من بين البديهات أن الدستور ليس برنامجا حزبيا يكتبه الحزب –أى حزب- بما يتوافق مع رؤاه وتصوراته، ثم تقره «الأغلبية» فى صفوف الحزب، وعلى الجميع الالتزام به، ولا هو برنامج حكومة «الأغلبية»، يقره البرلمان، بالأغلبية أيضا، ثم ننتظر كيف ستفذ هذه «الأغلبية» برنامجها.
وكذلك فالدستور لا يعرف أغلبية حزبية، أو حتى أغلبية مجتمعية، لأنه دستور المواطنين جميعا دون أية استثناءات من أى نوع وعلى أى مستوى، فهو «برنامج» المجتمع كله دون استثناء، والنصوص الدستورية الواضحة والمحددة والقاطعة، التى لا تحتمل التأويل ولا تقبل الاجتهاد، هى وحدها التى يجب أن تضمن وتكفل حقوق جميع المواطنين وحرياتهم، وليس أية وثيقة أخرى مهما علا شأنها.
ولذلك فإن الجمعية التأسيسية المكلفة بكتابة الدستور لا تمارس عملها بالتصويت، فكتابة الدساتير لا تعرف التصويت، بل التوافق. والتوافق هو الاتفاق على الحدود الدنيا التى يقبل بها المجتمع كله، لا تضير أحدا ولا تجور على حق أحد، وما عدا ذلك يمكن أن يضعه من يشاء فى برنامجه الحزبى، وليس فى دستور الوطن.
وفى معركة كتابة الدستور كان تشكيل الجمعية التأسيسية، هو الطلقة الأولى فيها. إنها الطلقة التى انطلقت -فى حقيقة الأمر- منذ وضع المستشار البشرى تعديلاته الدستورية، وأناط بالبرلمان انتخاب الجمعية التأسيسية، دون أن يضع أية ضوابط أو معايير لانتخاب الجمعية التأسيسية، لا فى نص التعديل الدستورى، ولا بإحالة إلى قانون يصدر لتنظيم هذا الانتخاب، متضمنا بين نصوصه تلك الضوابط والمعايير، فترك الأمر كله وفق أهواء وأمزجة السادة أعضاء البرلمان «المنتخبين»، ورغم اننا لا نفتش فى النوايا، إلا أنه من الصعب الاعتقاد أن مثل هذا الأمر قد فات عفوا على من هو فى قامة طارق البشرى القانونية. (دعك الآن من النص على أن الأعضاء المنتخبين وحدهم، دون المعينين، هم من ينتخب الجمعية التأسيسية، رغم أنها سابقة تميزية بين أعضاء البرلمان لم تعرفها البلاد منذ منذ عرفت اختراع منح رئيس الجمهورية صلاحية تعيين عشرة أعضاء فى مجلس الشعب، ثم تعيين ثلث أعضاء مجلس الشورى).
والحاصل أن بوادر معركة «كتابة الدستور» قد بدأن بمناوشات خول نسب تشكيل اللجنة، دون أن يقول لنا أحد ما هى المعايير والضوابط التى يجرى على أساسها الاختيار، رغم أن تحديد هذه المعايير وتلك الضوابط هى الخطوة الأولى الصحيحة التى إذا ما جرى الاتفاق عليها، لا يعود مهما بعدها كم عضوا من خارج البرلمان وكم من داخله، طالما انطبقت عليه ضوابط ومعايير الاختيار. لكنه الأساس الذى وضعه المستشار أن نبدأ الطريق من نهايته ثم نعود القهقرى إلى الخلف، بعد سلسلة من المعارك لا لزوم لها.
وأظن أن كل الذين اجتهدوا –مشكورين- فى اقتراح نسب تشكيل لجنة كتابة الدستور، عليهم أن يتكرموا بإعلان الأسس التى يجب أن تحكم عملية الاختيار، وإن لم تكن هناك أية أسس فى اقتراح هذه النسب (وهذا هو الراجح عندى) فلتكن البداية هى الاتفاق عليها وإعلانها علينا.
لقد كان الرئيس المخلوع يختار وزراءه ويقيلهم دون أن يعرف أحد لماذا جرى اختيار هذا الشخص بالذات ولماذا جرى استبعاده، ولست أظن أنه من الحنكة فى شيء أن تعيد أحزاب الأغلبية الإسلامية إنتاج ذات الشكل الذى حكمنا به المخلوع، فلا نعرف لماذا جرى اختيار (هذا) فى الجمعية التأسيسية دون (ذاك).
ثم يخطو بنا حزب النور السلفى خطوة أخرى فى «المعركة» قبل أن نحسم الخطوة الأولى ونتفق على معايير تشكيل الجمعية التأسيسية، حين يعلن محمد نور المتحدث باسمه أن حزبه «لن يسمح بإدراج كلمة مدنية فى الدستور....»، ورغم أنه من حق كل فرد ومؤسسة أن يدلى برأيه فى موضوع الدستور، إلا أن استخدام صيغة «لن نسمح» تطيح بفكرة الدستور وجوهره، وتحيله إلى برنامج لحزب النور، ثم تصفع الجميع بسؤال عن حقيقة دور الجمعية التأسيسية إذا كان حزب النور «لن يسمح»؟
ولئن كانت مفارقات حكم عسكر مبارك قد أفرزت لنا أحزابا دينية فى تناقض صارخ مع الإعلان الدستورى الذى أصدره العسكر أنفسهم، فإن هذا لا يعنى أن تفرض تلك الأحزاب برامجها وتصوراتها على المجتمع ثم يسمون تلك البرامج والرؤى «دستور».
وإذا ما تجاوزنا عن مدى سماح حزب النور، فإن فزاعة «المادة الثانية» لم تعد تخيف أحدا، ولست أظن أن هناك من يعترض عليها، لكن المشكلة أن الإحالة إلى «مبادئ الشريعة الإسلامية» (حسب المادة الثانية فى دستور 1971) هى فى حقيقة الأمر إحالة إلى مجهول، فليس هناك كتاب متفق عليه اسمه «مبادئ الشريعة»، وإنما الأمر كله متروك لاجتهاد الحاكم.
فى عام 1956استند جمال عبد الناصر على «الشريعة» ووقف خطيبا فى الأزهر «سنقاتل ولن يفرض أحد علينا الاستسلام»، لكن الأزهر عاد ليحلل الصلح مع إسرائيل، ويفتى –استنادا إلى «الشريعة»- أن الصلح معها جائز شرعا. وبموجب «الشريعة» تعلمنا فى الستينيات أن الإسلام دين الاشتراكية، لكننا فوجئنا أن «الشريعة» فى زمن الانفتاح ترفض التأميم حفاظا على الملكية الخاصة. وفى يناير 2011 استند (الشيخ) حسان على «الشريعة» ليهاجم الثورة ويعتبرها خروجا على الحاكم، ثم اتكئ السلفيون على الثورة التى هى خروج على الحاكم ليصلوا إلى البرلمان، وصبحى صالح يعتمد «الشريعة» فيحكم على المسلمة التى ليست عضوا فى الجماعة بأنها (واحدة جاية من ع الرصيف)، وعبد المنعم الشحات يطالب بإحراق كتب نجيب محفوظ بموجب «الشريعة». وفى السودان تفرض «الشريعة» جلد المرأة التى ترتدى بنطلونا، وتنظيم القاعدة يستند إلى «الشريعة» فى تفجير محطات المترو، ولا يجوز للمرأة قيادة السيارة فى السعودية بموجب «الشريعة».
ثم إن هذه المادة ذاتها أثارت جدلا فى حينه بين ما إذا كانت موجهة للمشرع أم للقاضى، وبقى الخلاف قائما ولكل فريق مبرراته وحججه.
قولوا لنا ما هى هذه «الشريعة» التى تريدون، ثم أليس من الأفضل أن تتفقوا على الأحكام التى تريدون تطبيقها بموجب «الشريعة» وتصيغونها فى قوانين واضحة ومحددة؟ فلئن كان المطلوب –مثلا- قطع يد السارق، فيمكنكم صياغة قانون ينص على ذلك ويلغى كل ما عداه من قوانين، وأنتم قادرون على إصدار ما شئتم من قوانين بحكم الأغلبية التى تمتلكونها فى البرلمان، لكن ابتعدوا عن الدستور الذى هو «برنامج» مصر لفترة أطول كثيرا من قدرتكم على الحكم بالأغلبية.
أن الديمقراطية ليست مجرد حكم الأغلبية، بل–أولا وقبل كل شيء- احترام حقوق وحريات الأقلية، وقد اعتمد الإسلاميون على أحد مبادئ الديمقرطية، الانتخاب، للوصول إلى البرلمان، وعليهم أن يدركوا أن حقوق وحريات الإنسان أصبحت هى العمود الفقرى لأى دستور وكل دستور، صحيح أن الدستور يحيل «تنظيم» ممارسة هذه الحقوق والحريات إلى القانون، لكن الصحيح أيضا أن هناك فارق كبير بين «التنظيم» من ناحية و«التقييد» أو «الانتقاص» أو «الالتفاف» من ناحية أخرى، مهما كانت الحجج والذرائع والمبررات.
أعرف ويعرف الجميع أن «الأغلبية الإسلامية» ربما تعتقد أنها قادرة على فرض رؤاها وتصوراتها على المجتمع باعتباره «دستور»، لكننى أعرف أيضا أن هذه الطريق سوف تقود البلاد إلى موارد التهلكة، و«الأغلبية الإسلامية» هى أول من سيدفع الثمن، وإن كنت غير واثق هل يدركون ذلك أم لا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ليس الحرب الحالية.. ما الخطر الذي يهدد وجود دولة إسرائيل؟ |


.. مجلس النواب العراقي يعقد جلسة برلمانية لاختيار رئيس للمجلس ب




.. هيئة البث الإسرائيلية: توقف مفاوضات صفقة التبادل مع حماس | #


.. الخارجية الروسية تحذر الغرب من -اللعب بالنار- بتزويد كييف بأ




.. هجوم بـ-جسم مجهول-.. سفينة تتعرض -لأضرار طفيفة- في البحر الأ