الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النمر الإسرائيلي في قفص الفلسطينيين 3

فايز صلاح أبو شمالة

2005 / 1 / 14
القضية الفلسطينية


كنت مختطفاً لليوم الثالث مع أفراد أسرتي مساء يوم الجمعة الموافق نهاية عام 2004، في نفس اللحظة التي كان فيها التلفاز الفلسطيني يذيع لقاء مسجلاً معي حول موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين، لم أتمكن من مشاهدة اللقاء، فقد حظر علينا خاطفنا الإسرائيلي الاتصال التلفوني، وحظر مشاهدة التلفاز، وكم تمنيت أن يؤجل بث اللقاء المسجل لئلا يوقعني أمام الناس الذين يعرفونني في تناقض بين موقعين يستحيل أن يتواجد فيهما شخص واحد، فهل أنا محاصر ومختطف كما جاء في إذاعة الأقصى وإذاعة الشباب، وكما هو الواقع الذي يدركه كل من يعرف بيتي في خان يونس، أم أنني في مبنى التلفزيون الفلسطيني في غزة، ويدور معي حديث موسع عن الشعر العبري؟
جاءتني أخبار اللقاء التلفزيوني عبر رسالة (مسج)، فقد نجحنا في إخفاء جهاز اتصال محمول، ونجحت ابنتاي إبتسام ماجستير علوم سياسية، وميساء سنة رابعة في كلية الحقوق، نجحتا في ترتيب جملة من الاتصالات الصامته، (رسائل) إلى كل من يهمه الأمر، وكانتا تشيران إلى عند البدء بكل رسالة؛ كي أشاغل الحراس بالحوار والحديث المتعدد الإغراض، وكانت أحداهما تغطي على الأخرى من أعين الحرس، إلى أن تنتهي الرسالة ليعود كل شيء إلى طبيعته، وأستريح أنا على شاطئ الهدوء بعد انحسار موج الانفعال، لأغرق في نفق الماضي البعيد المترابط مع الحاضر، أتلمس خيط الذكرى يوم كنت مسجوناً في سجن نفحة الصحراوي في إسرائيل، يومها كان لإبتسام ثمانية أعوام فقط، وكنت أحاول إخراج عدد من الرسائل السرية إلى خارج المعتقل، وبعد أن نجحت بخفة حركة في تهريب الرسالة الأولى لأم إبتسام، لم أنجح في تهريب باقي الرسائل، فقد خافت زوجتي من أخذ باقي الرسائل، وتراجعت للخلف مبتعدة عن الشبك شاكية باكية حال أولادها وبناتها لو شاهدها الحراس، وأخذوها إلى السجن، لم أنجح في إقناعها، وحارت بي السبل في كيفية إخراج باقي الرسائل، وفجأة، مدت الطفلة إبتسام يدها الصغيرة من خلف الشبك، وقالت: هات يا أبي!! أنا أخفي الرسائل عن أعين الحراس، في ذلك اليوم نفذت الطفلة إبتسام ابنه ثماني سنوات أول عملية فدائية _ كما ظننت _ ضد الإسرائيليين.
كنت أتابع ونحن مختطفون، حركة بناتي وما يقمن به من اتصال بخوف شديد، ويجول في خاطري ردة فعلي فيما لو وسوس شيطان أحد الجنود الإسرائيليين له بالاعتداء عليهن، ماذا كنت سأفعل لو سولت لبعضهم نفسه بالجرم؟ عبثاً أحاول طرد مثل هذا الهاجس، وتهدئة النفس وطمأنتها، ما أوحش التفكير السيئ في الضائقة! حبل مشنقة يلتف حول العنق، وأنا في وضع لا يسمح بغير التفكير المتفائل، فأي ضعف وتهاون، أو أي انفعال قد ينعكس على سلوك الذكور من الأولاد، وردة فعلهم التي لا تنتظر تروي الشيخوخة، لذا تصنعت الثقة أمام أولادي بسلوك الجنود، وحرصت على فرد بساط من الهدوء، والتأكيد للجميع بأن الجنود ملزمون بسلوك متحضر، لاسيما أن أمر اختطافنا بات معروفاً للصليب الأحمر، وسقت مثلاً على إنسانية الضابط الذي أحضر مصاغ إحدى البنات من الطابق العلوي دون أن يفتح العلبة، وكيف طلب منا في البداية جمع كل ثمين كي لا يقع في يد الجنود، ومع ذلك سرق أحد الجنود الإسرائيليين مذياعاً صغيراً من الطابق العلوي؟
لا أنكر ما أظهره الجنود الإسرائيليون من درجة عالية للانضباط، وتقديم التقارير الأمنية عن كل صغيرة، فمثلاً؛ عندما يغادر حارس للنوم في الغرفة المقابلة لنا، يخبر زميلة الذي تسلم منه الحراسة بما تم في غيابة، يقول له: طلب صاحب البيت أن أفتح الباب قليلاً لتغيير الهواء، ولكنني فتحت الشباك أكثر أمناً، وتمت تهوية المكان، وقاموا بعمل براد شاي وشربوا سوياً دون مشاكل، هكذا كانت المراقبة تقتضي، ولا يهم الجنود المكلفين بحراستنا ما يجرى من خلف السور، فعندما اقتربت الجرافة الإسرائيلية في اليوم الثاني من الغرفة التي نقيم فيها، وراحت تهدم ما خلفنا، صرخت على الضابط من خطر انهيار المكان على رؤؤسنا، فقال بكل ثقة: لا تخف؛ هم يعرفون أننا هنا بينكم؛ لا تقلق!
وعندما اشتد القصف المدفعي من حولنا، وتعالى هدير الدبابات، سألت أحد الجنود أن يستوضح الأمر لئلا نؤخذ على حين غرة، فقال: لا يعنيني ما يجري خارج هذا المكان، أنا هنا مكلف فقط بالحراسة عليكم، أي شيء أخر ليس من عملي ولا من تخصصي، لقد أعادني هذا الحديث إلى سلوك بعض جنود سلطتنا الفلسطينية الذين يتركون سلاحهم يتأرجح على أكتافهم ويقومون بمهمة الإسعاف ونقل الجرحى، ليزاحم الممرض في عمله، وبعد ذلك يصير الطبيب المعالج ناطق إعلامي، ومن ثم يصير ابن الشارع محلل سياسي، هذا الخطل والخلط في المهمات يقتل التخصص، ويضيق خانة الإبداع والتفوق، ويسمح للجميع بالفتوى في كل مواضيع الحياة، دون وازع من تفكير، أو تروي، أو مراجعة حساب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: ما مبرّرات تكوين ائتلاف لمناهضة التعذيب؟


.. ليبيا: ما سبب إجلاء 119 طالب لجوء إلى إيطاليا؟ • فرانس 24




.. بريطانيا: ما حقيقة احتمال ترحيل مهاجرين جزائريين إلى رواندا؟


.. تونس: ما سبب توقيف شريفة الرياحي رئيسة جمعية -تونس أرض اللجو




.. هل استخدمت الشرطة الرصاص المطاطي لفض اعتصامات الطلاب الداعمة