الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المستبعد واللامقول في رواية - وردية ليل - لإبراهيم أصلان

هويدا صالح

2012 / 3 / 6
الادب والفن


"ولقد أحسست أن هذا المثّال يقدم حلا لما أراه في الأدب لأنه قائم على مبدأ الاستبعاد، فهو يستبعد ما يمكن استبعاده والباقي قادر على جلب المستبعد، فالمستبعد أكثر حضورا من الباقي، وهذا مبدأ أساسي في عملي فأنا أكتب القليل الذي يحمل وراءه الكثير من غير أن أقوله لكنه حاضر أيضا في هذا القليل، ومعنى هذا أنني أتصور أن الفنان لا يعبّر عن تجربته ولكن يعبّر بتجربته". هكذا تحدث إبراهيم أصلان عن رؤيته لسؤال الكتاب من خلال تمثُّل تجربة أبرز نحاتي القرن العشرين ألبيرتو جياكومتي ، فالكتابة عند أصلان تقوم على مبدأ الاستبعاد والحذف أكثر من كونها تنهض على الفيض والإضافة . لقد راهن إبراهيم أصلان منذ البدء ، منذ أول مجموعة قصصية له في بداية السبعينيات على لغة مكثفة ودالة ، ومكتنزة بالدلالات واللامقول ، لغة لها مستويان ، المستوى القريب والسطحي هو من يتلقاه القارئ العادي ، ثم المستوى الآخر الثاوي في فراغات النصوص أو اللامقول والمتمثل في مساحات بياض يتركها الكاتب متعمدا لقارئه لكي يصبح شريكا فاعلا في إنتاج دلالات نصوص إبراهيم أصلان . وهذا التقطير ، وهذا الاختزال الشديد أعاده بعض النقاد إلى عمله القديم كعامل تلغراف ، استطاع أن يستفيد من بلاغة الكتابة التلغرافية في السرد الروائي ، حيث الاختزال والتكثيف ، والحذف والاقتصاد في اللغة .
ولست بصدد الحديث عن المشروع السردي لإبراهيم أصلان ككل ، فهذا مما يضيق عنه مقال وحيد محدود المساحة ، لكنني اخترت عملا لافتا ودالا ويشير بامتياز على المشروع الأصلاني كله وهو رواية " وردية ليل " التي صدرت عن دار شرقيات عام 1992 . أهدى أصلان هذه الرواية إلى شريكي النضال والكفاح أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله ، وافتتحها بنص ليحيى الطاهر عبد الله نراه مفتتحا موفقا لعالم يفيض بالشجن والشجو على هؤلاء المهمشين الذين يحتاجون للصبر كي يعبروا أزماتهم فـ " جبال الكحل..تفنيها المراود" هكذا كانت تقول ولم لا ؟ وهى التى امتلكت مكحلة مدورة من زجاج داخل مخدة صغيرة مكسوة بالساتان الوردى الباهت ومشغولة بالخرز الدقيق ،لها فوهة ،وسدادة مثل حلمة طرية ،معقودة بخيط من حرير ، مع مرود نحيل من العاج ، فلم لا ؟ رحم الله أمنا رأفة ماتت . وضاعت المكحلة ، ولم يعد باقيا الا القليل وظل المثل سائراً، كلما ضاقت أو ثقلت الاحزان : "جبال الكحل..تفنيها المراود"
رواية " وردية ليل " أفاد فيها أصلان من تقنيات السيرذاتي ، فالسيرة ذاتية حين يتم الإفادة منها في السرد التخييلي تساعد الروائي على أن يفتح الأفق الروائي ، وتساعده كذلك على أن يجعل من ذاته مراقبا للأحداث ، ويمزج بين تاريخ الشخصية التي يقدمها الروائي في سرده بتاريخه الشخصي ، ويصير هذا التاريخ أكثر عرضة للاكتناز والأسطرة والتخييل، والحنين إلى الذكرى، خاصة حين يسجل الروائي تاريخه عبر عمل فني لينأى بنفسه عن المساءلة الاجتماعية أو السياسية أو الدينية، فهو يقدم لقارئه عملاً فنياً مستفيدا بطرائق السرد الروائي ، ومستعينا بجمالياته ، وهذا أكثر فنية وجمالية من السيرة الذاتية الصريحة ، ولكنه أقل صدقا، وأكثر جرأة، لأن الكاتب فيه سيكون رهينا لجماليات الكتابة ، وليس لمنطق الصدق الواقعي .
وتعد وردية ليل علامة فارقة في تاريخ الرواية العربية ، ليس لذلك التكثيف الشديد في لغتها ، وليس فقط في الاكتناز بالدلالات والمعاني والبعد عن الفضفضة اللغوية ، بل تلك العين الفاحصة والمدققة فيما لا يلفت الانتباه، وما يتجاوزه الآخرون دون أن يستوقفهم، فإبراهيم أصلان يجيد الإنصات لكل ما هو مهمش ومهمل ولا يراه العابرون، يلتقطه هو ليصنع منه مشهدا سرديا مكتنزا بالدلالات، وكاشفا لخصوصية الكتابة الأصلانية .
إن شخوص أصلان في تلك الرواية جاءت من الهامش، هو كاتب المهمشين المنسيين الذين لا يلتفت إليهم المركز، هؤلاء الذين تم نسيانهم وتجاهلهم يحضرون بكثافة في مشروع أصلان السردي بعامة وفي تلك الرواية بصفة خاصة، يأتي بهم ليصنع منهم أصلان أبطال اللحظات الإنسانية والأحلام البسيطة، يأتي بهم ليصنع من خلال وجودهم الكثيف الدهشة والفانتازيا والسخرية أحيانا حتى من أنفسهم .
هي كتابة هامسة تشبه صاحبها ، يحرص فيها على أن يستبعد ما يمكن أن يقال دون كلام ، كتابة قائمة على الاستبعاد والمحو ، لكنها تعبر عن أوجاع الهامش الذي أتى منه بطريقة ما .
من يتأمل وردية ليل لا يجد فيها حكاية كبرى أو قضية ما أو أيديلوجيا واضحة، بل هي كتابة لحظات هؤلاء البسطاء دون حتى تتبع تاريخهم الشخصي، فإدخالهم الفضاء السردي لوردية ليل مرتهن بتفصيلة يمكن أن يضيفوها لهذه الفسيفساء من الشجن المتوزعة ليس على منطقة وسط البلد حيث يتحرك شخوصها بل متوزعة على لحظاتهم الراهنة التي أوجدتهم في الفضاء السردي .
الزمن في وردية ليل هو زمن الحكي ، ليس ثمة رهان على الزمان كإطار عام للأحداث ، لأنه ليس ثمة أحداث ، فقط لحظات متشظية يلتقطها الراوي سليمان ، فربما تكون النوافذ هي البطل في سردية ، وربما يكون كوب الشاي ، وربما يكون الدرج الذي سيسلمه العم بيومي حين يغادر المصلحة لطلوعه على المعاش للعم جرجس ، وربما يكون البطل فستان الدانتيلا لفتاة يلقتيها البطل مصادفة وهو في طريقه للعمل .
إنها رواية تفاصيل هؤلاء البسطاء وأوجاعهم وشجونهم التي تشبه جبال من الكحل ، لكن الصبر وحده والمراود الضعيفة هي القادرة على إفناء تلك الأوجاع ، فجبال الكحل تفنيها المراود كما أخبرنا في مقدمة النص . إنها روح إنسانية تلك التي تنصت للتفاصيل وتلتقطها ، وتغزلها رغم هشاشتها إلا أنها تكون شبكة قوية من العلاقات الإنسانية، ولم لا وخيوط العنكبوت الضعيفة قادرة على أن تشكل بيتا قادرا على أن يحمي ذلك الكائن الضعيف .
فنحن هنا بإزاء رواية يلعب فيها الحذف دورا لا يقل عن دور الإثبات. لأن المحذوف من الرواية والمضمر و المسكوت عنه فيها لا يقل أهمية، بل هو بالقطع أكثر أهمية مما يدور على سطحها من تفاصيل تبدو للوهلة الأولى وكأنها بالغة البساطة والعادية ولا معنى لها.
هذا المنهج الذي أطلق عليه صبري حافظ بكتابة جبل الجليد العائم، تعريفا لكتابة أسماها إرنست هيمنجواي هكذا بالكتابة التلغرافياة ، وبحسب صبري حافظ، فإن همنجواي تعلمه من إرسال قصصه من باريس إلى مجلة (النيو يوركر) بالتليكس والدفع عن كل كلمة. يقول عنه «كان على أن أفكر قبل أخذ القصة لمكتب التليغرافات: هل تستحق هذه الكلمة أن أدفع عليها، هل يمكن حذفها وتوفير ثمنها». فقد كان همنجواي شابا فقيرا يعيش في باريس على الدولارات القليلة التي تأتيه من المجلة، ويحتاج إلى كل قرش توفره له كتابته. لذلك طور هذا المنهج السردي الذي يقول إن الإنسان هو الأهم وليس القضايا الكلية الكبرى ، فقد تكون فتاة صغيرة تقف أمام عامل التلغراف تملي عليه برقية تخبر فيها من كان حبيبها أنها تزوجت وأن عليه ألا يأتي حسب اتفاقهما هي سردية تستحق الحكي ، وقد يكون كوب شاي صغير يذهب عامل التلغراف الساهر في ورديته ليحضره من أعلى وتصوير خطواته وهو يسير ببطء وحرص حتى لا يسكب الشاي الساخن على يديه وتتبع تلك الخطوات والمحاولات الدءوبة التي حرصت على ألا يسكب الشاي ، وربما تكون امرأة عجوز تستلم منه التلغراف ، وترمقه بعيون متسعة على العالم رغم تجاوزها سن التسعين لحظات تستحق التسجيل في لغة مشهدية وبصرية تقترب من لغة كاميرا السينما.
جاءت وردية ليل لتشق طريقا شاقا وجديدا في تاريخ الكتابة الروائية ، فقد ثارت على جماليات الكتابة الكلاسية ، الكتابة التي تعتمد الحكاية والحبكة ، وخطية الزمان ، وصار المكان هو البطل الأبرز .
" وردية ليل " رواية لا تحاكي العالم ، ولا تقدم حكاية محكمة الصنع بقدر ما تقدم أحداث يكون أبطالها شخوص أو أماكن أو أشياء ، تجربة ثرية وهامسة في ذات الوقت تحيل البنية النصية إلى رهان رئيسي بلغة حيادية في سطحها ، لغة تبدو حيادية ، لكنها تقبض على القارئ ولا تفلته ، فتورطه في عمقها وجمالياتها .
سرد تتداخل فيه الأزمنة ولا تلتزم بأي تسلسل للأحداث إلى المعادل الروائي لإيقاع الحياة ، ويرهف قارئها لمنطق السرد ، وليس للمنطق الواقعي للأحداث ، لأن الحدث، والذي يمكن للقارئ أن يعيد خلقه وترتيبه كلما أوغل في قراءة الرواية، يقدمه لنا في ومضات و لحظات سردية تتراكم وتتجاور وتتفاعل ليعكس مسارها نفسه، وعالمها المترع بالشخصيات والتفاصيل، عالما مهمشا ، لكن إبراهيم أصلان يحوله عبر فضاءاته السردية إلى عالم إنساني شفيف مترع بالعواطف البشرية والأحلام والتواريخ والحكايات التي لانهاية لها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأردن يتراجع 6 مراتب في اختبار إتقان اللغة الإنكليزية للعام


.. نابر سعودية وخليجية وعربية كرمت الأمير الشاعر بدر بن عبد الم




.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24


.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً




.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع