الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العام العاشر على الرحيل المفجع للرائد المجدد محمود البريكان!

رزاق عبود

2012 / 3 / 6
الادب والفن


مرت قبل ايام الذكرى المفجعة العاشرة لرحيل(مقتل، اعدام، تصفية؟) شهيد الشعر، والوطن في العراق 28/2/2002. الزبيري النجدي البصري. استاذ اللغة العربية، والشعر الحديث. كان اول الرواد، والمجددين، لكن انعزاله، وتواضعه، وزهده، وبساطته، وادبه الجم، وحيائه الطفولي حجب عنه الاضواء، او هكذا اراد! كان لا يحب النشر، ولا الظهور، ولا الاضواء، ولا ضجيج المناسبات، كأي عظيم، صادق، متواضع. ادبه الجم منعه، حتى من، انصاف نفسه، او الدفاع عن فضله، فسرق السياب، والملائكة، والبياتي، والحيدري الشرف الرفيع من سابقهم، وا ستاذهم، وان كان السياب قد اقر بقدرة البريكان منذ الاربعينات. لكننا لم تقرا، او نسمع هذه الشهادة من الاخرين(الملائكة، والبياتي، الحيدري).لايمكننا الجزم، ولكنا قرأنا شهادات لمعاصريه من امثال الشاعر الكبير سعدي يوسف، ولميعة عباس عمارة، والاديب الكبير، الذي غادرنا مؤخرا محمود عبدالوهاب صديقه، وزميل دراسته، ومتتبع، ومقدر الثروة الادبية للبريكان. قتل مثل المتنبي غدرا، ومثل ابن المقفع بوحشية نادرة. فالحاقدين على الابداع، والمبدعين، والجهلة لهم حضور في كل زمان، ومكان، وقسوتهم متشابهة، ومتقاربة. عزلة قاسية، فرضها على نفسه، لامه عليها الكثيرون دامت نصف قرن انتهت بمقتله. لكنه لم يكن صامتا كان يكتب، ويبدع. كان يعرف جيدا، ان محيطه لا يفهمه، ليس بمستوى نبوغه.اختار العزلة، ورفض الهجرة. كان الخيار مفتوحا امامه لكنه ظل وفيا لعراقه، لبصرته، لبيئته. عزله، لم يفهمها الكثيرون مثل شعره الجديد المتميز. لقد سبق عصره، وتجاوز معاصريه. يقول الشاعر رشيد ياسين:"ان ابداع البريكان يتقدمنا بمائة عام"! النقاد المجايلين(ليس كلهم) لم يفهموه باعتقادي، وهو يعرف ذلك. هو اول المجددين، هو رائد الرواد. الاخرين، الذين يطلق عليهم، الرواد، غيروا شكلا، لكن البريكان غير مضمون، ومفهوم، ودور الشعر. لم يكن يريدها ثورة ناقصة. معروف انه صدم بتعثر ثورة تموز، ولم يكن يريد ان يصدم نفسه بالتوقف عند الشكل. في لقاء مع الشاعر حسين عبداللطيف عام 1969 في مجلة "المثقف العربي" يقول البريكان:"ان الشعر لا يحيا مع الحذلقة، وليس وسيلة لتحقيق اي غرض مباشر، ولا طريقة للتنفيس عن عواطف فجة، ومن ثم فهو لا يخضع للتنظيم الخارجي، وقلما يعكس رغبات الشاعر اليومية، لان منطقته هي منطقة الذات العميقة". ويكتب الشاعر والناقد عبدارحمن طهمازي واصفا ابداع البريكان بدقة، وكانه يتحدث بلسانه:"ان موضوعه ولغته من الغنى بحيث لايدخل عليهما ما يعكرهما، فحذاقته لا تتحول الى حذلقة، ولا اللغة الى هدف شعري، فاللغة ليس هدف شعري عند البريكان، اي الغموض الموغل في الاغراب واستعراض المهارات اللغوية بعيدا عن روح الشعر"!
الاعلام، والصحافة، والنقاد الهواة، لا زالوا يظلمون البريكان، وهم يوردون امثلة من اوربا، والامريكتين، والمهجر، في حين ان اشعار البريكان لا تقل مستوى باي شكل عما يستشهدون به. بل تتعداه في اغلب الاحيان. اتذكر هنا ملاحظة قالها السكرتير السابق لاكاديمية العلوم السويدية التي تمنح جائزة نوبل العالمية للاداب في رد على سؤال صحفي، ما معناه ان النتاج العربي، وغيره سيظل مغبونا، ما دام لا يكتب بلغات مثل الانكليزية، والفرنسية، والاسبانية، والالمانية، اويترجم بحماسة لها. نفس الغبن يناله تراث البريكان في لغته، وبين اهله. البريكان لازال شعره معروف، فقط، عند النخبة، والمهتمين، من العراقين، والعرب. كتاب واحد فقط كتب عنه، وكراس، وبضع مقالات. في حين كتبت مئات الكتب عن شاعر عظيم اخر هو الجواهري لانه شاعر كلاسيكي، مدح، وذم، وهجى. وكتب اكثر منها عن السياب، ونازك، والبياتي. اما البريكان الذي يرفض استخدام كلمة "قلب" في الشعر، فلا يجري الحديث في الاعلام، الا عن سر عزلته، او لغز مقتله. في حين انه اللغز الاكبر في الابداع الشعري العراقي، والعربي في القرن العشرين."كنت اقرأ له احدي قصائدي الجديدة، واظنني اوردت فيها كلمة"قلب". استمع الرجل الى قصيدتي، وربما اثنى على شئ منها، ونسينا الامر، ونحن في مقهى بالبصرة نتداول الحديث حرا كالماء في شط العرب، واذا بمحمود يقول لي، ضاحكا، ساترا بيده اليمنى زاوية فمه: اتعرف؟ كلمات مثل كبدـ فؤادـ رئةـ قلب ـ ضلع ... هي قاموس بائع المشاوي(الفشافيش بتعبيره) وليست قاموس الشاعر." سعدي يوسف ، الثقافة الجديدة،306 /2002.
محمود البريكان، رغم الحاسدين، والمغرضين، شاعر سبق زمانه، سبق الريادة، ان صح التعبير. البريكان الانسان، المثقف، الموسيقي، متذوق السينما، الشاعر، الاديب صفاته كثيرة، وامكانياته جبارة. لم ننصفه، ولن ننصفه. غيبه زمن الحروب، ويغيبه زمن السقوط المروع لقيم الاخلاق، والابداع، والتسامح في عراق الطائفية، والتمزق. يحضرني مشهد لن انساه ابدا. كان البريكان يجلس على اريكة في غرفة اخي يشاركه فيها الشاعر عبدالكريم كاصد.الشاعر الراحل مهدي محمد علي بجسمه النحيل يجلس على الارض، وكانه يعلن استاذية الرجل ينصت بعمق، ويحاول استنطاق استاذه بكل احترام. سالت اخي:
ـ من هذا الرجل الذي يضع كفه على طرف فمه عندما يتحدث:
ـ انه المتنبي المجدد.
ـ لكنك سبق، ووصفت الجواهري بالمتنبي الجديد
ـ نعم الجواهري متنبي جديد، لكن هذا متنبي مجدد. واضاف بالعامية: يسوه ابو الجواهري بالشعر الحر!
طبعا كان ذاك تقييم حماسي لرجل غير مختص. لكنه يعكس سحر شخصية البريكان، وتاثيره.
البريكان، والسياب دفنا في مقبرة الحسن البصري في الزبير. الاول مات مقتولا والثاني مات معلولا. لكن السياب حظي في الاقل باسم يردد في الاجواء، والافاق، والمناسبات، والمحافل العربية. تمثاله ينتصب شامخا على ضفاف شط العرب. اما البريكان، فلا تمثال، ولا جائزة باسمه. كتاب يتيم للشاعر، والناقد عبدالرحمن طهمازي، يتحدث عن قيمته الفنية رغم غزارة، ونوعية، وخصوصية، وتفرد ابداعه، وانتاجه. شاعر له رؤيته الخاصة لدور الشعر، والقصيدة، ونظرته للحياة. فلكل قصيدة من شعره، منحى مختلف، وصيرورة مختلفة. شاعر مثقف من طراز مرموق رفيع حضوره الشخصي مميز يبعث الرهبة، والوقار بصوته الهادئ، وحديثه البطيئ، وكانه يحدث نفسه. ثقافة موسوعية شملت عمق المعرفة الانسانية. صدره كان وطنا لثقافات العالم. راهبا، صوفيا، متأملا، فيلسوفا، سمه ما شئت. اختار حريته بعزلته، واعتزل بحرية. اختار الصمت، واختار الاخرين الادعاء. قال عنه السياب عام 1957:"شاعر عظيم لكنه مغمور!!بسبب نفوره من النشر، وساحاول بذل كل جهد لاخراجه من صمته ليتبوء مكانته اللائقه به"! لكن السياب فشل، او لم يبذل الجهد الموعود. من يعرف؟! لكن كل معاصريه، ومعارفه، وزملائه خرجوا من تحت عباءة صمت البريكان. اختار حريته بشجاعة، ربما كان يعرف او يحس، ان شهرته تسلبه حريته. والحرية اهم قضاياه، وجوهر شعره، وشاعريته، ومعنى حياته. انتبه الى حدود حريته فاختار عزلته(ليس صمته) والا من يتحمل من يصرح:"ان كل كلمة لا يعنيها الشاعر تعني تفككا في الكيان، وان عبارة لا تستقطب شيئا هي خيانه". نطق الحلاج قبله بالحقيقة، فصلب، وصرح بها ابن المقفع فقطع اوصالا. سافرطويلا، وعميقا بين الحقيقة، والخيال، والتخيل، خطوط، وضلال، وصور، ومسارت لم يرها، او يلمسها احد سواه. لقد حار "الربع" حتى اقربهم، الى اخر لحظة في تفسير الظاهرة اهي انطوائية، ام اعتزالا، ام ترفعا، ام نخبوية، ام تقوقعا، ام حذرا، ام اختيار خلوة مع النفس، والابداع. لقد حاور الصمت، وهذا ما لا يفهمه المغرمون بالصخب. كان منعزلا منذ صغره، وصباه، وايام مدرسته الابتدائه. هذه سمة النبوغ، والتفرد. كان متفردا منذ صغره. ابوه الشيخ داود البريكان فتح اول مدرسة للبنات في الزبير، في العراق كله، واخته اول معلمة في القضاء. اختاره معلم العربية من بين كل الصف ليقرا ما كتبه في مادة الانشاء. منذ ذلك اليوم، وحتى مقتله ظل البريكان، وعبدالوهاب صديقان لا ينفصلان. درس الحقوق، ولم يمارس المحاماة. امتهن التدريس وكأن مصيره تعليم الاخرين. لا اجد فرقا بين ما كتبه البريكان، وما كتبه اي شاعر عظيم غربي. الفرق الوحيد انه زبيري نجدي بصري عصامي، ويكتب العربية. الفرق الثاني انك كلما تعيد قرائته، مع ندرة ما يتوفر لديك من نصوص تكتشف جديدا مع كل قراءة، وكأن هذا الرجل مستمر في الجدة، والتجديد حتى بعد حياته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - محمود البريكان حاضر مهما طال الغياب
من البصرة ( 2012 / 8 / 27 - 04:57 )
محمود البريكان يا استاذي و معلمي ,انت الرائد وان سلبوك الريادة وانت الخالد وان نازعوك مجد الشعر .هل كنت تعلم يوم كتبت كلمتك (خواطر عن محنة الشعراء) انك ستكون اشد الشعراء محنة ؟! يا محمود انك سبقت زمنك و من فيه ,فكيف لهم ان يدركوا اي جوهرة خسرنا يوم ذبحك ؟انت حاضر في الشعر وهم الغائبون .انت حاضر في قلبي مهما طال الغياب .

اخر الافلام

.. حريق في شقة الفنانة سمية الا?لفي بـ الجيزة وتعرضها للاختناق


.. منصة بحرينية عالمية لتعليم تلاوة القرآن الكريم واللغة العربي




.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات


.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة




.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها