الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فليتسيا لانغر..ذكريات خاصة

سلام حمدان

2012 / 3 / 6
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي



أقلام حرة
عرفتها حين كنت طفلة صغيرة في منتصف السبعينيات، عندما كنت أذهب لزيارتها، في مكتبها في القدس الغربية، برفقة أمي وأختي المريضة. ذكرياتي حولها غائمة بعض الشيء، حيث كنت لا اتجاوز الخامسة او السادسة من عمري، بيد اني لا أزال أذكر بوضوح وجهها المرح واللون الزهري الفاقع على شفتيها الذي كان يجذب انتباهي في تناقضه الملفت مع بشرتها الشقراء التي لوّحتها شمس البحر على مهل ومع شعرها العسلي الموّشح بخيوط فضية. كانت فليتسيا لانغر تستّل زهري الشفاه من حقيبتها، وترسم به على شفتّي مداعبة، لتتخلص من تحديقي المفتون بوجهها، بداية، ثم لتصبح عادة وتواطؤ خاص وحميمي بيننا، لاحقا.
حين ضربت اسرائيل الجبهة الوطنية، في منتصف السبعينيات، بيد من حديد، اعتقل والدي من بين المئات وأودع السجن الاداري لستة شهور، وليتم تجديدها دواليك. هكذا ودون أي محاكمات قد يقضي السجين السياسي الفلسطيني سنوات عديدة وطويلة في الانتظار، لا يعرف متى يخرج وان كان سيفعل أبدا! وفي كل مرة يتجشأ الحاكم العسكري فيها كلمة "تمديد"يتلقاها السجين، الذي لا يمتلك حقوق الدفاع، كما لو كانت حكما مؤبدا.
كان والدي يقبع في سجن الخليل، في حين كان خالي يرزح بدوره تحت وطاة السجن الاداري في رام الله. قضى الاول عامين وقضى الثاني أربعة اعوام، مع زمن دائري كمشنقة . وكنا ثلاثتنا: أمي وأنا ، وأختي على كرسي من عجلات، نتنّقل بين السجنيّن، جنوبا وشمالا، واما الوقت ما بينهما فكنا نعّرج به على مكتب فليتسيا في القدس.
فليتسيا كانت تؤّمن لنا زيارات خاصة داخل السجن، نظرا لوضع اختي المتدهور، والتي أوجزت تقارير مستشفى هداسا حالتها بالاحتضار. كان لنا ان نمد ايدينا مباشرة الى وجه والدنا، بعد ان كنا نمد له اصابعنا الصغيرة عبر شبك ثقيل، مجدول بخشونة، ليقبّل أطرافها سريعا. وكان لنا ان نجلس في حجره ونشم رائحته، وقد كان ذلك امتيازا كبيرا وفرّته لنا فليتسيا، زهرية الشفاه والقلب.
في احدى الزيارات الخاصة، حين كنا نجالس أبي براحة، في مكتب مدير السجن في الخليل، راح الأخير ينبش في كيس الصوف، المعتاد، الذي كانت تجلبه امي في كل زيارة، لوالدي ولرفاقه في غرفة السجن، ليجد هذه المرة منشورا للحزب الشيوعي الأردني. انتهت الزيارة على عجل ولوّح الضابط قبضته بغضب في وجه أمي. صرخ بالكثير الذي لم افهمه، مهددا ومتوعدا، ثم هدأ فجاة وقال بما يشبه الهمس "كيف تجازفين بغباء ومعك هذه الطفلة المحتضرة؟"
حين ركبنا سيارة الاجرة طلبت امي من السائق ان يتوّجه مباشرة الى القدس الغربية بدلا من بيتنا. "سنذهب الى فليتسيا وسيكون كل شيء بخير" تمتمت امي. فليتسيا المنقذة. هكذا كنت أراها آنذاك.
بعد ان تداولت فليتسيا مع امي في غرفة مغلقة، ما بدا لي وقتا طويلا جدا، وقد تركتانا بعهدة موشيه (أحد مساعديها) الذي راح يقلد لنا أصوات الحيوانات، ويذهب الى أقصى حدود التهريج حين تنتاب أختي بوادر نوبة ألم، عادت فليتسيا وقرفصت قرب كرسي العجلات وقالت لي ولأختي أن الجنود الذين انتزعوا والدنا قبل عام من فراشه قد يعودون الليلة من أجل أمنا، وكل ما علينا ان نفعله هو ان نتشبث بها ونطالب بالذهاب معها ولا نتركها مهما حصل، واضافت بان علينا ان لا نقلق وانها ستاتي لأجلنا جميعا بالسرعة الممكنة. ولا أعرف لماذا كان يهيأ لي أن أولئك الجنود يخشون فليتسيا فعلا، وانها قادرة على خلق حلول وتهوين الصعاب. لم ننم تلك الليلة بانتظار القرع العنيف على بابنا، في حين كنت اتساءل بعقلي الطفولي "هل سيأخذوننا الى غرفة ابي في الخليل ام الى غرفة خالي في رام الله؟" وكنت اتوق الى كليهما.
لم يات الجنود ولم ينتزعوا امي. حّلت الرحمة في قلب الضابط الذي قبض على منشور الحزب المدسوس في صوف السجناء، ورأى أن ما حلّ بنا من مصائب يكفي.
تدهوّر حال أختي سريعا، وقامت فليتسيا "المنقذة" بجلب خالي، هذه المرة، لزيارتها في البيت، قبل رحيلها بأيام قليلة. بات شارعنا ثكنة عسكرية، وانتشر الجند في كل مكان. وكان على الخال المحب أن يصوغ كلمات خطاب وداعه على عجل، مدركا انه يراها للمرة الأخيرة، ليعود بعد دقائق قليلة الى سجنه الاداري، حيث مشنقة الانتظار الكئيب.
نظمت فليتسيا حملة عالمية، وصلت الى مجلس الشيوخ الامريكي، لاخراج أبي من السجن قبل وفاة اختي بوقت قليل، وتكللت حملتها بالنجاح. خرج والدي من زنزانة الانتظار لتقضي أختي مباشرة بين يديه.
وانتقلت فليتسيا الى قضية أخرى، بل قضايا أخر لسجناء فلسطينيين ينتظرون على حافة الوقت، الى زمن غير معلوم، لا لذنب سوى حب الوطن.
عانت الكثير، كما كانت تشكو لأمي، من مجتمع عنصري حولها ، كان يجدها خائنة تدافع بلا هوادة عن "قبضة من المخربين"! كان جيرانها يرشقون بيتها بالحجارة، ويلقون بنفاياتهم على عتبة بابها. لم تحتمل فليتسيا طويلا، وغادرت البلاد الى المانيا، ليس لما كان يفعله جيرانها العنصريون فقط، بل لأن قلبها الزهري لم يحتمل حلكة سواد العنصرية التي تلّف أرض الميعاد، التي هربت اليها مع ذويها، بعد النجاة من اتون محرقة النازية!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نحو توهج الذاكرة
فيحاء عبد الهادي ( 2012 / 3 / 6 - 13:28 )
المقالة تساهم في التأريخ الاجتماعي لمرحلة هامة من نضال الشعب الفلسطيني، لم بسلط عليها الضوء بشكل كاف. ونتبع أهمية المقالة أنها كشفت نضال المرأة على الصعيد السياسي والإنساني في ذات الوقت، ضمن ظروف بالغة القسوة، بالإضافة إلى نضال الرجل. كما بيَّنت أهمية النضال .على الصعيد القانوني..تحية للكاتبة وللعائلة المناضلة في يوم المرأة العالمي

اخر الافلام

.. تحدي اللهجات.. مقارنة بين الأمثال والأكلات السعودية والسورية


.. أبو عبيدة: قيادة العدو تزج بجنودها في أزقة غزة ليعودوا في نع




.. مسيرة وطنية للتضامن مع فلسطين وضد الحرب الإسرائيلية على غزة


.. تطورات لبنان.. القسام تنعى القائد شرحبيل السيد بعد عملية اغت




.. القسام: ا?طلاق صاروخ ا?رض جو تجاه مروحية الاحتلال في جباليا