الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عفت عبدالكريم والرسائل الملتبسة في مسرحية مدرسة المشاعبين

عائشة خليل

2012 / 3 / 8
ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة


بمناسبة شهر تأريخ المرأة رأيت أن أنظر في أحد أهم الأدوار المسرحية التي تأثر بها جيل ترعرع بين حقوق "مكتسبة" للمرأة وواقع اجتماعي قاهر لها. ونقرأ من خلال المسرحية الشهيرة ما تلقيناه من رسائل مختلطة عن الممكنات لنساء جيل فشل في صنع الثورة، فتجاوزه التاريخ للجيل الذي يليه.
من منا لم يشاهد مدرسة المشاغبين؟ من منا لم يحفظ منها مقاطع؟ من منا لم يسجلها على الكاسيت لإعادة سماعها مرات ومرات؟ ومن منا لم يشاهدها مرات ومرات؟ ومن منا لم يحتفظ بنسخة منها على جهاز الحاسب الآلي لديه؟ من منا لم يشاهدها مع أبنائه وبناته؟ نحن جيل مدرسة المشاغبين .. أليس كذلك؟
أصبحت المسرحية الشهيرة نقطة انطلاق لكل الفنانين (والفنانة) الذين مثلوا فيها فتأكدت أسماؤهم على الساحة الفنية وانطلقوا مما كانوا يلعبونه من أدوار ثانوية إلى أدوار البطولة المطلقة ومن ثَمَّ ترسخت مكانتهم على الشاشة الفضية. فعادل إمام الفتى اليافع ذي الأدوار الثانوية في مسرحيات فؤاد المهندس منذ الستينيات، أصبح ذا اسم يفوق أستاذه منذ أن لعب دور "بهجت الأباصيري" الطالب الفاشل المشاغب والزعيم "الفكري" في مدرسة المشاغبين. و"مرسي الزناتي" صارت له حياته خارج إطار المسرحية وكأنما تلبس سعيد صالح الذي حاول تكرار الدور في مسرحية العيال كبرت وإن كان بنجاح أقل. كما انطلق أحمد زكي الفهد الأسمر للشاشة المصرية في الثمانينيات والتسعينيات ليهدينا أجمل ما أنتجته السينما المصرية.
بل وأصبحت بعض جمل المسرحية لوازم متكررة لدينا في تعاملاتنا اليومية. فلا ننسى أن نضيف "إنجليزي ده يا مرسي؟" عندما يخطئ أحد أولادنا فيما نلقنه من معلومات. أو نقول "العلم لا يكيل بالبذنجان" عندما يستخف أحد بالعلم والمتعلمين، أو "بتجيبوا الكلام لنفسيكم" أو "جل من لا يسهو" وغيرها
وربما قيست المسرحية المؤثرة من جوانب عدة ولكننا لم ننتبه إلى دور "عفت عبد الكريم" والتي تقدم نفسها بأنها "واحدة ست وماجستير فلسفة" فما الذي لقنته لنا شخصية "عفت" لبنات جيلي؟ عفت فتاة في العشرينيات من عمرها درست الفلسفة وجاءت إلى مدرسة "الأخلاق الحميدة" لتدرس لهذا الفصل المشاغب الذي انسحب اسمه على المدرسة فأصبحت مدرسة المشاغبين. ومع صعوبة الدور الذي تضطلع به، إلا أنها تصدت له وهي واثقة من نفسها، ومن نجاحها في المهمة الموكلة إليها. فدعونا ننظر عن قرب إلى مفردات تلك الشخصية: الاسم/النوع الاجتماعي، والدراسة، والحالة الاجتماعية، والمهمة. ثم ننظر إلى الرسائل الملتبسة التي تلقاها جيل بأكمله.
تهل علينا عفت منذ الفصل الأول للمسرحية وهي ذات الاسم الملتبس فيظنها ناظر المدرسة رجلاً فيرحب بمحاولات الوزارة الجادة لحل مشاكله مع الفصل المشاغب. ولكن عندما يكتشف أنها أنثى يرفض تعينها خوفًا عليها. وهكذا يظهر التمييز بين النوع الاجتماعي لتولي مهام وظيفة معينة. وينصحها بأن تذهب للزواج والولادة وتربية أولادها. (ونتنبه هنا للأدوار الاجتماعية المرسومة للنساء في مجتمعاتنا، فمهما علا تحصيلها العلمي "فمصيرها للزواج"!) ولكنها ترفض وتضغط عليه بالحيلة الاقتصادية المعهودة - قطع الدعم عن المدرسة - فيذعن على مضض، وهو واثق من فشل مهمتها, لأنه يعرف مشاغبات هذا الفصل الذي تسبب في الاختلال العقلي للأستاذ … والذي كان يعرف في الوزارة بـ "العقل الالكتروني .. شوفي دلوقتي عقله بقى حلزوني" وهكذا تسربت إلينا منذ الفضل الأول وجهة نظر الناظر والتي تمثل وجهة النظر المجتمعية في أن الرجال أكثر مقدرة وكفاءة من النساء.
درست عفت الفلسفة وحصلت فيه على ماجستير. وهي درجة علمية لم يسمع بها طلابها من قبل، فيسأل أحدهم الآخر :"الماجستير ده قبل الإعدادية ولا بعد الإعدادية؟" ويرد الآخر قائلاً: "لا ده قبل محطة البنزين على طول" والفلسفة ليست بالتخصص السهل فهي أم كل العلوم الإنسانية، وأطلق لقب فيلسوف على قلة في مقابل إطلاق "مثقف" و "مفكر" و"كاتب" على أعداد غفيرة، فبينما نستخدم الألقاب الأخيرة بسخاء نحتفظ بلقب فيلسوف لقلة ممن حازوا من العلم أشمله. واختيار التخصص لشخصية المدرسة لم يأت اعتباطًا في رأيي، فكان من الممكن أن ينسب لها المؤلف ماجستير في التربية مثلاً ولكنه أتى بهذا التخصص للمدرسة ليشير إلى إمكانية أن تحوز الإناث مواقع علمية متقدمة لأصعب وأدق التخصصات. وذلك بالرغم من التحيز الاجتماعي والمجتمعي ضدهن ويتمثل أولاً فيما عابه المدير عليها من كونها أكثر منه علمًا مع أنها مرؤوسته "مش عيب يا بنتي الوزارة تبعتي مدرسة معاها ماجستير وأنا ناظر ومعايا ابتدائية؟" وثانيا في كونها أنثى
"الوزارة مقدرة ظروفي تماما وبعتالي واحدة ست!"
"آنسة يا فندم"
"وكمان آنسة !! ياخرابي على اللي حيجرى لي يا خرابي."
يبدو أن عفت تراكم لدى مدير المدرسة الخيبات، فهي ليست فقط أنثى ولكنها أيضًا آنسة. فبالإضافة إلى أنها إنسان غير كامل لكونها أنثى فإنها بمفردها فهي لم تتزوج، ولا يوجد من يدافع عنها ولذا تؤول مسؤولية حمايتها إلى مدير المدرسة. الذي يعلن معرفته بالمصير الأسود الذي يتربص به. فلفظة "يا خرابي" في العامية المصرية لا تطلق إلا على الدمار الشامل، فالخراب في المعجم الوجيز هو تعطل الشيء عن أن يؤتي منفعته، وإلحاقه بالنفس في العامية المصرية يعطي دلالة على مدى شمولية الدمار المتوقع إلحاقه بمدير المدرسة.
ولكن كون عفت آنسة لا يعني أنها غير مرتبطة ففي مشهد قصير يلمح المؤلف أنها ربما تكون مرتبطة بفارس أحلامها: "الراجل اللي على الحصان." فاكتمال أنوثة وجمال وذكاء وعلم الفتاة لا يتأتى إلا بمن ترتبط به. فعفت بالرغم من إنجازاتها الحالية تبقى ناقصة إلى أن ترتبط بأحدهم!
ولكن، بسبب واقعها الملتبس ومن ثَم تصبح عفت الآنسة هدفًا للتحرشات غير المرغوب فيها من قبل مديرها وتلاميذها. فيحاول مدير المدرسة التحرش بها وتردعه فيرتدع. (ولنا أن نتخيل ما قد ترسب في عقل فتيات ذلك الجيل من أن الرجال - من المديرين - من الممكن أن يرتدعوا عن التحرش الجنسي بهذه السهولة). بينما تتعرض في مشهد ذي دلالة إلى اعتداء جنسي جماعي من قبل تلاميذها يقوم فيه مرسي الزناتي بالدور الرئيسي. وترد عفت بقوة وحسم وباعتداء مماثل يتمخض عنه كسر ذراعه، يعلن عنه في الإذاعات المحلية والدولية كخبر يستحق الالتفات "مرسي ابن المعلم الزناتي انهزم يا رجالة.. مارشات عسكرية .. وقرآن…" فعفت قادرة على أن ترد عن نفسها الاعتداء، بل وأن تلحق أكبر ضرر بالمعتدي. وهكذا تعلمنا أنه يمكننا أن ندافع عن أنفسنا في مجتمع ذكوري مستعد إلى أن يمضي إلى آخر مدى في إيذائنا. ولنا أن نلاحظ أن مدير المدرسة قد اكتفى بدفاع الآنسة عفت عن نفسها، ولم يقم بأية إجراءات عقابية ضد المعتدين. وهكذا تعلمنا أن المجتمع يهادن الاعتداء على جسد الأنثى وأن عليها أن تقوم بالدفاع عن نفسها.
أما مهمة عفت فهي السيطرة على الفصل المشاغب. وأداتها في ذلك هو عقلها. فلقد استخدم مدير المدرسة كل ما يعرفه من أساليب "سايستهم، حيالتهم،…" وتأتي عفت بسؤال يسفهه مدير المدرسة "حاولت تناقشهم في مشاكلهم؟" فيرد باستهزاء "مشاكل إيه؟ دول صيع." فتجيبه بأن عليه أن يستخدم عقله وأن هذا ما تنوي هي فعله. مما يلفت انتباه طلبتها فيدور حوار بينهما عن معنى استخدام العقل، ولكنهم يتجاوزن ذلك إلى أن يصاب زميلهم في محاولة الاعتداء على المللسة. فيعود أحدهم للتذكير بأنها "نوع مختلف عن الأساتذة" ولكن إشارته تهمل – وبسخرية - من قبل الآخرين. غير أن عفت تنجح بالفعل فيما فشل فيه من أتى قبلها، وتغير من حال تلاميذها إلى أن يصبح طلبتها من الناجحين الذين ينتقلون من التعليم الثانوي إلى التعليم العالي بفضل مجهوداتها وصبرها ودأبها معهم.
ولكن هذا الدور ملتبس بغيره من المفاهيم التي تصلنا برسائل ملتبسة. فالأنثى هنا جسد (تتم مهاجمته) وينظر إليه بدونية (فيشك في قدراته). وكونها عذراء (أي لا تنتمي لأحد) يجعلها متاحة ومباحة من جميع الذكور بمحيطها العملي. ولكن عفت تنجح بمفردها في رد التحرشات (بهدوء على الناظر) ورد الاعتداءات (بقوة على تلميذها) كما تنجح في مهمتها فينقلب وضع مجتمعها المهني رأسًا على عقب من خلال قدراتها الشخصية. وهي مجموعة من الرسائل الملتبسة التي وصلت إلى جيلنا وتغلغلت في ثنايا تفكيره. أضف إلى ذلك أننا ورثنا تعليمًا كان حق لنا، فلم ننظر في كفاح نبوية موسى وغيرها من رائدات النهضة النسوية في مصر. كما ورثنا حقًا في الانتخاب، غفلنا فيه عن الدور الذي قامت به درية شفيق وغيرها. وورثنا حقنا في العمل، وتناسينا كفاحات د. سهير القلماوي في هذا المجال. وفي ذات الوقت صورت لنا المسرحية الحياة على أنها أرض المساواة بين الذكر والأنثى وأنه من الممكن لنا أن نستخدم العقل والقوة معًا لنقهر واقعًا ظلاميًا في ثقافة ذكورية مسيطرة. فأي تضليل هذا ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سنبقى كذلك
ايار العراقي ( 2012 / 3 / 8 - 10:02 )
السيد الكاتب المحترم تحية طيبة
مثلك انا وربما اكثر مشغوفا بهذه المسرحية الرائعة واللتي شغلت العراق بطوله وعرضه من اقصاه الى اقصاه
بداية العمل مقتبس عن فيلم انجليزي بعنوان الى استاذي العزيز مع التحية وهي استمرار لعملية طويلة مورست في المسرح المصري ايام عزه بنقل روائع الاعمال وعرضها باسلوب واقعي وشعبي ومبسط وعندنا في العراق نجحت مسرحية النخلة والجيران وهي على نفس النمط الشعبي البسيط ومن تاليف الراحل غائب طعمة فرمان
على اية حال يبقى تاثير العمل المسرحي واسهامه في خلق عالة وعي مجتمعي اقول تبقى على الدوام ناقصة وذات خطاب ملتبس لان المهمة اكبر من طاقة المسرح او السينما او الادب او الرياضة او العلوم منفردة
توجيه خطاب واضح يعمل على رفع مستوى الانسان عموما تحتاج اول ماتحتاج الى حكومة علمانية مؤمنة بقدرات الشعب وتعمل على دفعه للمضي قدما في طريق الانسانية الطويل بدون هذا الامر يكون من الصعب تحقيق هذا الهدف وتبقى كل الخطابات ملتبسة
ملاحظة اخيرة من مشاهدتي للاعمال الرائعة وهي قلة في الادب والفن العربيين وعلى وجه العموم استنتجت ان صعود اليسار يسهم في خلق حالة تفاعلية اكبر للجمهور والابداع

اخر الافلام

.. بالرغم من مردوده المادي الضئيل... نساء تعتمدن على إعداد الخب


.. وادي الضباب في تعز الهدوء والجمال الطبيعي في زمن الحصار




.. المرأة الريفية صمود ونضال أمام واقعها المهمش


.. المسؤولة الإعلامية في منظمة كفى زينة الأعور




.. جنان الأعور إحدى المشاركات في المحاضرة