الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خمرة مهدي

عبدالكريم كاصد

2012 / 3 / 9
الادب والفن



(في رحيل الشاعر مهدي محمّد علي)


لا يمكنني حتى هذه اللحظة أن أتخيّل مهدي غائباً، وقد أحتاج إلى زمنٍ لأقتنع أن رحلة مهدي هذه هي الرحلة الأخيرة.
قبل أسبوع فقط من رحيله اتصلتُ به فكلّمني دون أن يبدو عليه أبداً أنه سيشرع برحلة على الأرض أوفي السماء فلا صوته نمّ ولا ألفاظه أنه سيغادرني إلى الأبد.
بضعة أيام هي ويدخل مهدي الأبدية.. تلك الأبدية التي كان يمرّ بها في شعره فيمسها مسّاً رفيقاً وهو يبتسم أو يضحك .. مهدي الذي يخشى المغامرة ويدخلها مغامراً لا يفارقه الهدوء أبداً.
في الصحراء في رحلتنا على الجمل لم ينقطع مهدي عن طرائفه .. ما أكثرها!
طرائفهُ هذه لم تغادره حتى وهو في أصعب المواقف ولعلّها هي ما يجعلني شديد الانتباه لجِدِّهِ أيضاً.
مرّة في زيارتي الأولى لدمشق بعد رحيلي عنها كنّا في سهرة وكان مهدي مبتهجاً، يتحسس كأسه بين آونةٍ وأخرى منتشياً، دون أن يمزج خمرته بالماء، عملاً ربما بقول أبي نواس الذي أحببناه معاً:
لا تجعل الماء لها قاهراً ولا تسلّطها على مائها
غير أن بعض الجالسين لم يستسغ ذلك، فهمس في أذني مستغرباً رغم أن مهدي لم يبدُ عليه ما هو غير مألوف في جلسته ولا في حديثه: يظهر أنّ صاحبك .... إلخ؟
في اليوم التالي قلتُ له، هو الذي أوثره على نفسي :
يا مهدي ألا تريد أن تستمع بشربك ؟
قال: طبعاً.
قلتُ له: لماذا تجعل الآخرين يتطلعون إليك فيفسدون متعتك بعرقك الحبيب. قطرة ماء ويستحيل شرابك أبيض فتشربه هانئاً بلا رقيب
قال لي: ما قلته صحيح
وضحك
وحين التقيتهُ في حلب للمرة الثانية قبل سنتين أخذني إلى مطعمٍ وطلبنا مع الطعام شراباً فقلت له: ما رأيك هل نطلب عرقاً؟
قال لي: لا.. لقد تركت العرق
فكان ذلك مدعاة لفرحي.
قلت له مازحاً: يا مهدي هذه خطوة تستحق أن نشرب من أجلها العرق
لكنه أضاف : لقد استبدلته بالجنّ
فضحكتُ وقلتُ له وأنا الأنسيّ سأشرب معك الجنّ .
ورغم أخوتنا الطويلة لم اسأله حين التقينا عن هذه اللحية التي تزيده عمراً وتحجب أجمل ما في وجهه من ملامح طفوليةٍ رقيقةٍ لا تخفيها حتى الشيخوخة .. ملامح طالما أحببتها وقد لا يراها غيري، ولكن ثمة حذر يوقفني عما ينبغي أن أفضي به حتى لأحبائي، لا سيما إنني أسرفت في عتابي له لعدم تواصله مع النشر، أولعدم استخدامه الإنترنت أو لعزلته أو.... وغيرذلك من أمور كم تبدو صغيرة الآن أمام هول الموت.
مع ذلك كنت أُكبر في مهدي صفاءَ روحه وحصافته التي لم تغادره يوماً حتى وهو في أشدّ ظروفه تعاسة، أو في أشدّ مقاماته انتشاءً، بل وألفيتني أستأنس بعاداته وطقوسه التي تتوسطها دوماً كأسه البيضاء ،عندما كنا جارين في دمشق، وكأنّ كأسه هذه الفنار الذي يرشد سفنه المبحرة، وهو يقرأ أو يكتب. ولا أخفي القارئ أنني وودتُ لو أنني شعرتُ بجزء صغير من متعة طقوسه، فلياليّ ولياليه تخلو من المتعة تماماً نقضيها في الترجمة والكتابة، والعمل المأجور، ولعلّ ساعاته كانت أكثر جفافاً فهو يبيع ما يكتب بالقطعة ليعيش، وما أكثر المقالات التي نشرت له بدون اسمه والمقاولون الذين باعوا مقالاته للصحف كثر وهم بارعون في تسويق بضائعهم أوفضائلهم، ويساريّون أيضاً.
لن أتحدث عن الكتب التي ظهرتْ باسماء أخرى.
لا أدري كيف يمكن الإبجار في مستنقع كبير كهذا بدون أشرعة لا تمنحها غيرُهذه الكأس. يشربها البعض لينسى ولكن مهدي يشربها ليستيقظ .. ليتذكر .. أو ليحتال على فكره المشاع. وهذا ما كنت افتقده لذلك تيدو لياليّ أشدّ جفافا ومقتاً (من منّا تُرى لياليه أشدّ جفافا؟). وحين يلتقي السكران والصاحي، عند منتصف الليل، وقد احدودب ظهراهما لا تميز أحدهما عن الآخر. فأنا سكران أيضاً من همّ الكتابة، وبؤس الترجمة. ومع ذلك فما أشقى الأيام التي عشناها في دمشق. وما أقسى المقاولين الذين كثيراً ما يتعمدون الخطأ في عدّ الصفحات ليقلّ الدفع وحين نذكّرهم بأرقّ الألفاظ أنّ ثمة خطأ في العد يعدّون الصفحات مسرعين لينشطر الخطأ نصفين: جنيّ ويابس – ما أجملك يا أيا نواس- وهكذا يرضى الطرفان: المعوز والمقاول اليساريّ المتخم صاحب المؤسسة الكبيرة الممتدة الأطراف إلى أصغر جريدة خليجية أو مؤسسة مشراة.
إنّه الجليس بحق، النديم بحق، والشاعر بحق وما يهمني الآن لا الحديث عنه جليساً أو نديماً، حتى ولا صديقاً حميماً، وقد عشتُ معه جلّ سنوات حياتي في البصرة وعدن ودمشق ، وكتبت عنه صفحات عديدة من قبل، وسأكتب عنه ربما صفحات عديدة، وإنما عن شعره إن كان ثمة مسافة بينه وبين شعره، وهذا محال.
كم يبدو شعره بسيطاً ولكن ثمة صنعة خفية.. صنعة ماهرة لم تفارقه قطّ حتى في آخر دواوينه بل إنها أضحتْ أشدّ إحكاماً في بعض قصائده الأخيرة ولا سيما القصيرة منها. ولكي لا يبدو هذا الرأي وكأنه رأيٌ أملاه الموت، فإنني سأورد مقالة كتبتها عن شعره قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً ليتضح للقارئ أنه أمام شاعر هو من بين أجمل شعرائنا. لم يستطع نقدنا القاصر اكتشاف عالمه الغنيّ لانشغاله بما هو خارج الشعر، لكننني قبل أن أورد مقالتي هذه سأشير إلى بعض قصائده الأخيرة التي غفل عنها هذا النقد، مثلما غفل عن غيرها من قصائد جيدة ليلغو بما هو من سَقَط الشعر.
خذوا هذا المقطع الذي لا يمكن أن يكتبه إلا من خبر اللغة والشعر طويلا لما فيه من حركة وإيجاز ودقة في اللفظ ومهارة في اللغة ولما فيه أيضاً من بساطة وشعبية نادرتين!


جيدها الضوء
وجنتها جمرة
شعرها
ظلّها
ها.. هها
ها..هها
ها..هها
خطوها
مايزال!

قصيدة (عابرة)


أو هذا المقطع الجرئ النابض بالحياة:


أيّذاك الغلام البهيج
أيّتلك العيون الضحوكة
باللمعان
أّيّتلك الخدود
أيّذاك الأنَيْف الوسيم
أيّذاك الحُنَيكْ
أيّذاك الغلام
كما درّةٍ
في ثيابٍ معفّرةٍ
كيف تمضي خطاك إليكْ؟!

قصيدة (نرسيس المايكروباص)


أو هذه القصيدة الذكية بالتقاطاتها،وتفاصيلها المشبعة بحب الناس:


عائدون إلى البيت
عند الغروب
قبيل الفطور:
مشوقٌ إلى الله يمشي الهوينى
وشيخٌ يعود بباقة فجلٍ على عجلٍ
ثم سيّدةٌ أوصلت بعضَ فطرتها للذي يستحقّ
وآخر يلهث، وهو يقودُ
- على حرّ تموز-
درّاجة
حملتهُ، وثلجاً على ردفها
وصغيراً تشبّث
وهو يتابع أنفاسَ والدهِ
يترقّب أن يسمع الطوب
يرفع صوتَ المدينة
ثم المآذن ترفع صوت الأذان
الملاعق تسمع رنّتها
يفطر الصائمون
يغيبون في خدرٍ
ثمّ ينتظرون، على النار،
وسوسة الشاي بعد الفطور
تصحصحهم للتراويح
بعد صلاة العشاء!
قصيدة (لحظة رمضان2)



المقالة التي كتبتها قبل ما يقرب من ثلاثين عاما هي فصل من كتاب معدّ للطبع بعنوان (متنٌ أم هامش؟):


طوفان المشاعر وبوصة الورق
(قراءة في ديوان رحيل عام 1978)


حين نشر الشاعر مهدي محمد علي قصيدته (لقطات من مدينة تعانق ماء النهر) أولّ مرة في عام 1972، كتب الدكتور أنور الغساني – وكان في ألمانيا آنذاك- معتبراً إياها انعطافة في الشعر العراقي. ولا يحضرني ما أورده لتعليل ذلك، وقد اختلف معه في كون هذه القصيدة انعطافة لم تسبقها محاولات شبيهة في الشعر العراقي. ولكنني أجد انتباهة الغساني بحدّ ذاتها حصافة في الإشارة إلى ما يستحق التقييم في شعرنا الذي يتطلب الفحص الدائم لاكتشاف ما يكمن خلف شكله الظاهري البسيط من حرارة في التجربة، ومهارة في التشكيل، تقرب أحيانا من الطبع.
ولعلّ هذه الانتباهة نبعتْ من قدرة القصيدة على التقاط المشهد اليومي العابر واكتناه مدلولاته الإنسانية لتجعله جزءاً من تحسسنا الجمالي لواقع أليف استحال في القصيدة الى واقع أكثر ألفة ولكن عبر منظور استطاع تجاوز عادية الحدث ليكتشف ما كان مخبوءاً فيه، لا من أجل غرابة يضفيها على مشهدٍ له جماله وحقيقته اللذان أزاحت القصيدة عنهما غبار المألوف، فكأن المشهد يحمل سطوعه الباهر فيه فلا يحتاج إلا الى لمسة بسيطة لإضاءته.. لمسة لا توحي بصنعة الشاعر التي أخفتها ممارسته الشعرية الطويلة ومنظوره الشعري المرهف في التعامل مع معطيات الواقع وجوانبه المتعددة، عبر الاستخلاص الفني للموضوع الذي يقود القاريء الى ما يريد ه الشعر لا بما يضيفه من أوهام تطمس موضوعه، وانما من خلال ما يفرزه الموضوع نفسه من دلالة، وما يحتويه من غنى هما سبب توجهه وهدفه في التناول ومن ثم في التوصيل.
ولعل هذا التوجه لدى الشاعر مهدي محمد علي يفسر قدرة قصيدته على التوصيل، أي ان التوصيل لم يكن نابعا من رغبة الشاعر في طرح الأفكار، بل من طبيعة الموضوع ذاته الذي لم يعد مهارة ولا مشجبا لأفكار ولا فسحة شعرية تتسكع فيها القصيدة بلا اتجاه، وانما أصبح نابعاً من براعة الشاعر في تشكيل موضوعه قبل أيّ شيء، وذلك لا يتأتى الا لشاعر ذي مقدرة فنية واسعة تختفي وراء الموضوع وليس فيه.. اذ كثيرا ما تفاجئنا القصائد بالمهارات الشعرية في موضوعات لا تدل عليها، فكأن الشاعر معني بإظهار مقدرته على النظم وليس معنيّاً بالقصيدة التي تستوعب موضوعها فنياً.
وتشكل قصيدتا ( البئر) و(السياج) في المجموعة نموذجين يدلان على ما أردنا أن نقوله، ففي قصيدة( البئر) يتذكر الشاعر صندوقاً كبيراً كان يكنز فيه مئات الصحف وقصاصات الأوراق والأشياءالاخرى، ويتدلى فيه كما يتدلى في بئر بحثاً عن صحيفة قديمة أو قصاصة ورق أو أجزاء لعبة محطمة تلبية لرغبة طفل، ولكن الصندوق سرعان ما يستحيل وطنا في نهاية القصيدة.. وطنا بعيدا يتدلى نحوه كما يتدلى في الصندوق مستخدماً التشبيه السابق ذاته ( كما أتدلى في بئر) مضيفاً نعتين جديدين إلى التشبيه هما (أليف وموحش).

أتذكر صندوقاً كبيرا
كنت أكنز فيه مئات الصحف
وقصصات الاوراق
وأشياء اخرى
أتدلى فيه كما أتدلى في بئر
بحثا عن صحيفة قديمة
أوقصاصة ورق
أو تلبية لرغبة طفل
بحثاً عن أجزاء لعبة محطمة
لقد ابتعد الصندوق
ابتعدت غرفتي
وابتعد الوطن
وأنا الان أتدلى نحو وطني
كما أتدلى نحو بئر أليف موحش!


إننا اذاً إزاء قصيدة تبدو للوهلة الاولى بسيطة بساطة متناهية بأشيائها ولكنّها تُخفي في الحقيقة طوفاناً من المشاعر المركبة والأزمنة التي ينفتح بعضها على بعض، فكأنما هي عالم بحدّ ذاته له مدلولاته العديدة وزواياه التي تتعدّد بتعدّد الرؤية الواحدة، فالصندوق الكبير الذي يعدد الشاعر أشياءه القديمة والذي يشبه البئر انما هو صندوقه الحقيقي فعلا ولكنه في نفس الوقت صندوق ذاته الخفية المضطربة المنفتحة على الزمن الماضي والطفولة التي أصبحت استدعاء لزمن غابر يستدعي بالضرورة الوطن أيضاً، فكأنّنا هنا لسنا إزاء صندوق حقيقي، بل إزاء لا شعورشبه غائم مظلم كهذا الذي يطالعنا في دراسات علم النفس التحليلي وإن كان من طبيعة أخرى، ولكن الشاعر سرعان ما يدرك ابتعاده عن زمن كهذا ليتأمل زمنه الحاضر الذي يستحيل فيه الصندوق إلى وطنٍ يتدلى نحوه كما يتدلى نحو بئر لم يفقد ألفته ولكن بات موحشاً، ولعلّ في اقتران الصندوق بالوطن، والماضي بالحاضر، والطفولة بالنفي، ما يولد هذا الشعور الذي يتسم بتناقضه ووحدته معا، والذي هو عالم من المشاعر المتضاربة إزاء الطفولة والأشياء والوطن.. تتبادل مواقعها وتأثيراتها عبر الأزمنة المختلفة ما يحدونا الى القول مع زميلنا الشاعر والناقد محمد الاسعد الذي تناول الديوان بدقة فائقة إنّ مهدي هنا ( يصبّ طوفاناً من المشاعر على بوصة من الورق)، مستعيراً تعبير الشاعر الصيني القديم في وصفه للشعر.
وفي هذا العالم الشعري يلعب البئر، الذي استعارته القصيدة عنوانا لها، دور الاشياء التي تصادفنا في الأحلام حيث الأشياء لا تتبادل أدوارها من خلال منطق الشاعر الذهني الذي يحل شيئا محل شيء آخر، بل من خلال القصيدة التي تستحيل حلماً بذاتها وواقعاً مراً في آن واحد تضيء فيه الأشياء بعضها بعضا.
إن هذه القصيدة في رأيي تقف مثالاً فنياً رفيعاً على قدرة الشعر على تحويل أشد المفاهيم تجريداً إلى واقع حيّ انطلاقاً من التجربة الملموسة والجزئيات الصغيرة التي لا تُستنفد بالتحليل والتي تكتسب من خلالها المفاهيم تجسيدها الشعري بعيدا عن الاستعمال الشائع لها في الواقع أو في هذا الشعر الذي يطل علينا كل يوم بتداعياته المملة التي يصورها لنا النقد الصحفي أنها الشعر.
ومثلما اتخذ عالم القصيدة المكتظّ شكله الظاهري البسيط كذلك اتخذ الايقاع شكله الهاديء الاليف عبر ألفاظه وجمله الموحية التي تتغير أزمنتها تغيراً غير ملحوظ للوهلة الأولى، مخفية المشاعر الحادة المتناقضة عبر تحولاتها العديدة التي تأتي الأخيرة حدّاً لها وتفجيراً في آن واحد.
أما في قصيدة ( السياج) فإنّ الشاعر المتعب الحانق يأمر أطفال الجيران أن يكفّوا عن امتطاء السياج كالحصان، وحين لم يستجيبوا وظلوا محدقين يكتشف فجأة عيونهم الجميلة الملونة.. ثم تنتهي القصيد هكذا:


وحين كفوا
صار السياج بينا فاصلا
واختفى ذلك النبات البشري المتسلق
وأزهاره الجميلة الملونة


ولا يخفى ما في هذا المقطع من عذوبة ومفارقة، فالذي كفّ هو الشاعر وليس الأطفال الذين سيواصلون حركتهم في مكان آخر والذين لم يستأنس الشاعر لمغادرتهم بعد اكتشافه عيونهم الملوّنة، كما ان الحركة التي تطالعنا في المقطع الاول سرعان ما تخفت مع اختفاء الاطفال لتبدأ ثانية في ذات الشاعر من خلال وصفه بالنبات البشري المتسلق..هذا الوصف الذي يعبر عن فقدان لحظة ملونة مشبعة بحالة انسانية نادرة.
لقد استطاع الشاعر من خلال هذه الاستعارة الفائقة بجمالها وبساطتها وجدّتها أن يدلّلّ على قدرة حية حسية مدهشة في التشكيل، إذ من الصعب تصنيف هذه الاستعارة ضمن ما هو مألوف في البلاغة القديمة.. انها استعارة من نوع جديد تتضمن نوعيها التصريحي والمكني في آنٍ واحد.
هذا التناول الاليف لأشياء الواقع وتفصيلاته هو الذي جعل شعر الشاعر حافلاً بالحيوات الصغيرة التي تشكل عالماً مزدحماً بناسهِ الأليفين ولعلّ قصيدة ( قيلولة) تلخيص لطريقته الشعرية في التناول:


في البيت المزدحم بالمهجرين
أجلس على جذع شجرة قديمة
أضفر خوص النخيل
واتأمل الأرض المغطاة بأوراق السنة الماضية
أفكر بهؤلاء
الذين تزدحم بهم
السلالم والمنعطفات
هؤلاء
الذين ستزدحم بهم قصائدي


فهذه القصيدة التي تذكرنا بمقطوعات الشعر الصيني لا تفصح عن طريقة الشاعر فقط وإنما تفصح عن إنسانيته التي لا يلوّح بها كالراية وانما يبوح بها بهدوء الشاعر الذي يكتظّ بهؤلاء الذين تزدحم بهم السلالم والمنعطفات، في وحدته وهو ينتبذ ركنه المنعزل جالساً على جذع شجرة قديمة في البيت الذي يضمه مع هؤلاء المنفيين.


أضفر خوص النخيل
وأتأمل الارض المغطاة بأوراق السنة الماضية


انني أجد في هذيين البيتين على شدة بساطتهما جمالا يعود إلى موقعهما في القصيدة وإلى ما فيهما من حياة وموت، من اصفرار أوراق وخضرة خوص، من سكون وحركة، وهذا الفعل الانساني( أضفر خوص النخيل) ذو المدلول الشعبي الذي يذكرنا لشعيبته بهذا المقطع للشاعر الياباني ( بوسون):


يا لبهجة عبور النهر في الصيف
على عبّارة
والخفان في اليد


لقد بحث الشاعر في وطنه ومنفاه مثلما بحث في صندوقه عن تفاصيل معذبة وأناس مهمومين يتجسد فيهم الوطن أكثر مما يتجسد في افكار غائمة وانفعالات صاخبة تخص الشاعر وحده.
إن أناس الشاعر وتفاصيله هم أناس وتفاصيل واقع بعينه:

أتذكرك يا أمي
واتأمل القصيده
فأرسم سجادة للصلاة
وقارورة للدواء
أتذكرك ناحلة مهمومة يا أختي
وأتأمل القصيدة
فأضيف صفصافة
وجدولا
وطحالب
أتذكرك يا نفسي
فأضيف أفقا داميا
يؤطرهُ الدخان
وجرة مكسورة!

من قصيدة ( بالازميل)

إننا لا ننفي بقولنا هذا اغتناء الشاعربالأفكار الخاصة به ولكننا ننفي كون هذه الافكار وليدة ذهن الشاعر وليست وليدة الواقع بكلّ فجائعه وتناقضاته. إنّ الشاعر هنا لا يدلّل على فكرته وانما يدلّل على قصيدته بما تصوره من واقع يتشكل فيها ومن أفكارهي محصلة لهذا الواقع وليست نتيجة مفترضة تتحمل الصدق أو الكذب، فالشاعر حين يصوّر هؤلاء الذين تسببوا في نكبة شعبنا يستعير لهم الاواني المستطرقة ليجسد ما حصل بالفعل لدى تلك المخلوقات المتشابهة في حقدها، المتنقلة بفعلها من ترديد الأفكار الميتة بشكل ببغاوي إلى الممارسة الهمجية في سحق ألوف الناس.
وهذه الاستعارة تصبح لدى الشاعر صورة للقصيدة بكاملها تتحد فيها الآلية والحركة، الفاجعة والكاركتير..


هبّوا مثل الجوقة المذعورين
ضد ألوف الناس:
.. أبداً ...أبداً
لايمكن هذا....!!
فرأينا كيف ارتفع الماء الأسن
في آنية بشرية
بين نحيف وبدين!

قصيدة (الاواني المستطرقة)


هذا الاخلاص الشديد للشعر هو الذي جعل شاعراً ذا أفكار كمهدي يتعامل مع واقع فعليّ وليس مع تجريدات مفارقة لهذا الواقع: لان الشاعر في قصائده لا يتعامل مع نماذج مسبقة في ذهنه، بل مع واقع هو حاضر أبدا للتقييم حتى ولو كان ماضياً تصوره القصيدة، لان هذا الماضي يحضر من خلال تقييمه المتجدد بعيداً عما يفترضه الشاعر, فالأم لديه:

لم تحب سوى ابنائها الذن يغادرونها
واحدا بعد الآخر
ولم تعرف غير الصلاة والمرض!

قصيدة( أمي)

إن ديوان (رحيل عام 78) وما أعقبه من قصائد للشاعر شهادة فنية لأدنى تفصيلاتنا وأحاسيسنا في الوطن والمنفى مكذبة دعوى الذين ينعون على شعرنا لا مبالاته وعزلته وقصوره الفنيّ:

يا لللهوة التي حدثت بيني وبين أمي
ذلك الفراق الذي تم دون وداع
كما لو كنت ماضيا لشرب الماء
او لتجفيف اليدين!


هكذا ودع الكثيرون منا وطنهم. إن عنوان هذه القصيدة (تغريب) يشكل عنصراً أساسياً في القصيدة، فأي تغريب أشد من هذا حين نودع الوطن الذي لازمنا ولازمناه، عابرين.
إنّ هذه الشهادة لا نلمسها فقط حين ينحني الشاعر على بئر وطنه وانما تتجلى أيضاً بالطريقة ذاتها في تعامله مع تفاصيل المنفى، ففي قصيدة ( حقول أبين) نحن إزاء واقع يشكّل مستويات عديدة دون أن يفقد الخيط الذي يجعل تشكيل القصيدة ذا دلالة انسانية قادرة على التوصيل عبر الوصف الذي يمزج الحدث والفعل الإنسانيين، ليصبح ديكور القصيدة وحدثها في آن واحد، مذكرة ايانا بنبرة الشعراء الانسانيين وحكمتها الموجزة التي لا تفقد عذوبتها وفنيتها في أشدّ أشكالها بساطة وتوجها:


حتى أنت أيتها الصغيرة
جئت الى بئر الطاحونة
بدلوك الصغير!
افسحوا لها المكان
دهوها تتسلل من بين الأرجل
دون انتظار الطابور
انها صغيرة وهادئه
انها لاتقول شيئا
افسحوا لها المكان!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض


.. تقنيات الرواية- العتبات




.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05


.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي




.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من