الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشعر .. انتهاك للعرف اللغوي السائد

عادل بشير الصاري

2012 / 3 / 10
الادب والفن


من المعروف أن كلمات اللغة ترتبط بصور ثابتة في الذهن ، تجمعت عبر موروث لغوي قديم ، فعندما تسمع كلمة قمر مثلا يستدعي عقلك على الفور كلمة أو تركيبا يتناسب مع ما تجمع في ذهنك من أفكار وتصورات حول القمر ، وتتوقع أن تكون الكلمة المناسبة المكملة له من مثل : مضيء ، غطاه السحاب ، خالٍ من الحياة ... إلخ.
كذلك حين تسمع كلمة ( شمس ) فلا بد أن تتبادر إلى ذهنك مجموعة من الكلمات مثل : دافئة ، الأصيل ، النهار ، إلخ ، ولكن إذا قال المتكلم : قمر أسود ، وقال شمس الليل ، فإن هذا يعني أن المتكلم أعاد ترتيب الكلمات وصورها الحاصلة في الذهن بشكل غير مألوف مع ما اكتسبته من خبرة لغوية سابقة ، وأنه قصد من هذا لفت انتباهك إلى معنى جديد أو إيحاء خاص .
والشاعر المبدع لا يخرج عمله عن هذا الإطار ، فهو يعيد ترتيب كلمات اللغة في نظام متميز عن وضعها العادي ، بحيث تبدو العلاقة بين الكلمات وصورها المختزنة في الذهن جديدة ومفاجئة لك .
ويتفاوت الشعراء في صياغة هذه العلاقة ، فمنهم مقتصد يبقي على كثير من الأواصر بين الدوال والمدلولات ، ومنهم مغالٍ حريص على قطع هذه الأواصر وصدْم المتلقي بعلاقات غريبة شاذة .
لقد أخذ شعراء هذا العصر يطورون العلاقات والأساليب اللغوية التي استحدثها شعراء الرمزية من قبلهم ، وبدأت الكلمات تتجاور في قصائدهم تجاوراً غريباً أفقدها ألفتها ، وأبعدها كثيرا من الميراث اللغوي والذاكرة الشعرية ، وكان غرضهم من هذا هو التطلع إلى جملة شعرية تأتلف فيها الكلمات حسب الانفعال والتجربة لا حسب العلاقة اللغوية الموروثة .
لقد دأب هؤلاء الشعراء على وصف الأشياء المادية المحسوسة بصفات معنوية ، فقد ( جسَّدوا المعنوي غير المحسوس فخلعوا عليه صفات مجسَّدة ملموسة ، وصار ما نحسه بالعين نسمعه بالأذن ، وأصبح للألوان عطور، وللعطور ضياء ، وجمعوا بين المتناقضات ، فالربيع أسود ، والفرح خريفي ، والحزن أبيض ... وذابت الفوارق ، وأصبح غير الممكن ممكناً ) .
وهذه مجموعة من التراكيب والعلاقات اللغوية الجديدة انتقيناها من قصائد ودواوين مختلفة لستة شعراء معاصرين هم : نازك الملائكة ، بدر شاكر السياب ، عبد الوهاب البياتي ، أدونيس ، خليل حاوي ، نزار قباني :
عطر الضياء المذاب ـ نام الزمان على الزمان ـ عطور الثلج ـ الدموع الخُرس ـ جواد النار ـ غابات من النعاس ـ نعمة الخيانة ـ فخدان من صلاة ـ مطر الأرض ـ النار في الدخان ـ السعال المدوَّر ـ لابساً قامة الهواء ـ القبر السفيه ـ الزمن المعجون ـ صوتها الشفقي ـ الضوء الطري ـ جبهة الرعد ـ لحماً حزيناً ـ صدى الرغوة ـ فمي يفتش عن فمي ـ تعبتُ من استدارة فمي ـ يمشي إلى الوراء الوراء ـ أنهض نحوك يا أبعادي أرضاً ـ عرس يدور تحت سراويل الموت .
هذا غيض من فيض ، فأكثر قصائد شعراء العصر تمتلئ بهذه المصاحبات اللغوية التي تصدم المتلقي بغرابتها وتناقضها واستحالة تصورها عقلا .
لا شك أن كل تركيب من هذه التراكيب اللغوية يعد خروجاً عن العرف اللغوي المتوارث ، وتهشيماً لبنية الجملة العربية التي عرفت على مدى آماد وأحقاب زمنية طويلة بأن العلاقة بين مفرداتها تؤسس وفق العقل والمنطق ، لكن شعراء العصر أدركوا بحسهم الجمالي أن عليهم مهمة تطوير لغة القصيدة ، لذلك شرعوا في تفكيك هذه الروابط العقلية والمنطقية وإحلال نمط آخر محلها صادر من دهاليز الذات وأغوار النفس وتلافيف المخيلة .
إن الدواعي التي حتَّمتْ على شعراء العصر تفكيك التركيب اللغوي القديم وإعادة صياغته من جديد ، أو إنشاء علاقة لغوية جديدة بين كلمتين أو أكثر هي في الواقع دواعٍ فنية تعود إلى رؤية كل منهم للأشياء ، وهي رؤية بالطبع لن تكون على الدوام متماهية مع رؤية المجموع أو الموروث ، فالشاعر لا بد أن تكون حواسه متميزة عن حواس غيره ، لكي يصوِّر ما لم يُصوَّر من قبل ، وليقول ما لم يقله غيره ، وذلك لأجل أن يثير في متلقيه الدهشة الممتعة ويحفِّزه على التفاعل مع تجربته ، لذلك جعل العطر مضيئا ، والصوت ملونا ، واللحم حزينا ، والخيانة نعمة ، والأفخاد جزء من الصلاة ، والقبر سفيها ... إلخ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع