الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة بعنوان : من رحم الآلام تولد الآمال

نهاد عبد الستار رشيد

2012 / 3 / 10
الادب والفن


بعد أن انتهيا من اجراءات الجمارك والجوازات في مطار ليوناردو دافنشي – فيوميتشينو ، توجها الى قاعة الأستقبال ، حيث كان رمزي بانتظار ابيه وشقيقه مجدي . ما ان شاهد اباه على كرسي ذي العجلات حتى اسرع اليه وانهال عليه تقبيلا وهو ينشج بالبكاء ، وتجهم وجه ابيه ، فأخرج منديله من جيبه ، وانخرط في بكاء حاد ، ثم التفت رمزي الى شقيقه مجدي ، عانقه وسأله ، وهو يكاد ينشج بالبكاء ، قائلا :
_" وين امي ، واخوتي ، واختي مها ؟! ماتوا كلهم ؟! اللعنة عليك يا بوش ! "
_" الطائرات الأمريكية كعادتها قصفت البيوت السكنية ، دون شفقة أو رحمة ، ودون وازع من ضمير . "
فسأل رمزي ، وهو يغالب نفسه كي يتماسك ويتجلد ، قائلا :
_" ليش يقصفون المدنيين ؟! وين المنظمات الدولية ؟ وين مجلس الأمن ؟
وأخذ يشهق بالبكاء دون وعي ، ثم أضاف قائلا ، وقد بلغ التأثر مداه :
" ما أبشع هذه الجرائم البربرية ! " ثم التفت الى ابيه ، وصاح بصوت متهدج ومنفعل :
_" وما الذي أصابك يا أبي ؟ "
فطفق مجدي يسرد على مسامع أخيه ما جرى للعائلة ولأبيه ، وصاح بانفعال بالغ :
_" هكذا هي المصائب لا تأتي فرادا . "
وانحنى رمزي على ابيه وانهال على وحهه تقبيلا ، وأخذ في الشهيق والبكاء ، واستدرج نحيبه نحيب أبيه ، وامتزجت دموعه بدموع أبيه .
بذل أبوه مجهودا كبيرا لأستعادة هدوئه والتحكم في أعصابه ، الا أنه لم يستطع أن يحبس الدموع التي فاضت من عينيه . لقد كانت الصدمة أعنف من أن تطاق . حاول رمزي اخماد نوبة الأنفعال في عجلة بالغة ، ثم شرع يدفع اباه للخروج من مبنى المطار . ركبوا سيارة اجرة لتقلهم الى شقة رمزي المجاورة لساحة اسبانيا في روما .
كان الشفق يتوهج في الأفق حين انطلقت بهم السيارة . أخلد الأب الى الصمت ، بينما كان رمزي متعطشا لسماع المزيد من الأحداث ، فألتفت الى أخيه وسأله فيما اذا تمّ اخراج جميع الجثث من تحت الأنقاض ، فأجابه مجدي متلوعا ، وكان لا يزال في صوته شيء من أثر البكاء ، قائلا :
_" لم نستطع تمييز اي فرد منهم ، لقد تحولت جثثهم الى أوصال متناثرة ملتصقة بكتل الكونكريت التي تراكمت فوقهم . "
فصرخ رمزي بصوت عال ، وهو يضرب رأسه براحتي يديه :
الله اكبر ! الله أكبر ! الويل لكم أيها البرابرة . "
توقف مجدي برهة عن الكلام ، ثم تابع كلامه والشهقات تحبس أنفاسه قائلا : انتزعت أشلاءهم انتزاعا وجمعتها في كفن واحد . "
وخنقته العبرات فكفّ عن الكلام ، بينما استبدت بشقيقه رمزي موجة عارمة من موجات الحزن ، ثم راح يشرح للسائق بالأيطالية ما حدث لأهله . كان الهلع قد جمد الدموع في عيني الأب ، وسحقته الأحزان سحقا ، وشعر بأن حملا ثقيلا ينوء تحت وطأته كل جزء من أجزاء جسمه .
من شقته الواقعة في الطابق الثاني ، اتصل رمزي هاتفيا بالمستشفى التي حجز فيها غرفة لأبيه قبل أيام ، وأبلغهم بوصول أبيه ، وطلب ارسال سيارة اسعاف لنقله .
قام رجال الأسعاف باجراءات نقل الأب حال وصولهم للشقة ، ورافقه رمزي ، بينما ظل مجدي في الشقة لموافقة المسؤول على مرافق واحد فقط .
استلقى رمزي على السرير بعد أن شعر بانهيار شديد ، وعدم قدرته على تحمل هذه المعاناة وثقل هذه الحياة القاسية . شرع يضغط بمنديله على فمه ويشهق بالبكاء ، واستمرت وطأة الدوار الذي كان يعصف برأسه ، بعد أن قلبت الكارثة التي حلت بهم حياته رأسا على عقب ، وضاقت الدنيا على رحبها في عينيه .
لم تكد تمضي ثمة نصف ساعة حتى وصلت السيارة الى المستشفى ، وسرعان ما نقلوه الى غرفته الخاصة ، وحال وصوله شرع الأطباء والممرضات بزيارته للأطلاع على حالته الصحية والقيام بالأختبارات اللازمة التي يتقرر على ضوء نتائجها عملية استئصال الشظية .
في اليوم التالي تمّ نقل الأب الى صالة العمليات ، بينما جلس رمزي في قاعة الأنتظار التابعة لصالة العمليات ، وقد هده الحزن حتى لم يعد بمقدوره الوقوف على قدميه . كان الوقت يمر بطيئا قاسيا ، وفي فروغ صبر راح رمزي يترقب أخبار أبيه من خلال هاتف مديرة القاعة التي هي على اتصال متواصل بصالة العمليات .
بينما كان مجدي يسبح في بحر قاتم من الهموم والذكريات المرعبة ، ويشعر في دخيلة نفسه بيأس قاتل ، راح يناجي نفسه قائلا : " هل بوسعي بعد كل ما حدث أن أشعر بلذة الحياة ؟ ! " وغلبته المرارة بعد اليأس فلم يعد يبالي شيئا .
قبل ان تعلن ساعة الحائط منتصف النهار ، نادت مديرة القاعة :
_" السيد مازن "
نهض رمزي فورا واتجه نحوها ، وبدت على وجهه علامات التشنج .
_" راجع استعلامات صالة العمليات . " قالت المديرة .
_" وهل حدث مكروه لأبي ؟ " سأل رمزي وهو يرتجف .
_" كلا ، أبدا . لقد انتهت العملية . " أجابت مديرة القاعة .
ما أن وصل رمزي الى استعلامات صالة العمليات حتى وجد الطبيب الجراح في انتظاره بملابسه الخضراء ، وهو يخلع قفازيه ، فأبتسم له ، وبشره بنجاح العملية ، وطلب منه العودة الى غرفته لأستقبال أبيه ، فتنفس رمزي الصعداء ، وكانت هذه أول بارقة أمل من شأنها أن تخفف العبء على نفسه .
في اليوم التالي أوصى الطبيب باخراجه ، بعد أن وصف له بعض الأدوية ، وأوعز لأحدى الممرضات ممن تتكلم الأنكليزية بمرافقة المريض الى شقته ومواصلة علاجه هناك .
كان ألأب يتألم باباء وشمم في كثير من الصمت والهدوء ، اذ على الرغم من آلام العملية الجراحية فقد ترك الحادث المروع في نفسه لوعة وحسرة لا حد لهما . وواصلت الممرضة عملها بتقديم العلاج للأب ، وتدريس الأيطالية لأبنه مجدي بناء على طلبه .
كان الأصيل يحتضر غارقا في سحب حمراء عندما باشرت الممرضة في تقديم درسها الأول الى مجدي في غرفته الخاصة ، ثم جلسا ، بعد ذلك ، الى مائدة صغيرة الواحد قبالة الآخر ، وأخذ مجدي يرتشف النبيذ الأحمر ( الفينو ) في رشفات كبيرة ، بينما لم تكمل الممرضة كأسها الأولى . تنهد مجدي نهدة طويلة ، وأغرورقت عيناه بالدموع ، وقال في شيء من المرارة والحزن :
_" لعلي أجد فيك ما يريح أفكاري ويفرج من كربتي . "
فأجابت الممرضة ، وهي تبتسم :
_" اريدك يا مجدي أن تبتسم برغم ما حصل لكم ، فما زلت في ريعان الشباب . "
وهنا قال لها مجدي ، وهو يتطلع اليها ويحدق في وجهها المستدير :
_" هل أنت متزوجة ؟ "
_ " كلا . لكني لا أرى جدوى من تضحيتي بشبابي ومن الظلم أن أبقى على هذه الحالة . " أجابت الممرضة ، ثم نهضت وجلست بجوار مجدي .
بدا لمجدي أنه فهم ما ترمي اليه . فأنسرى همه ، وراح يرمقها باهتمام عاطفي . وضع ذراعه حول كتفيها ، فشعرت الممرضة باسترخاء أوصالها ، واسترسلت في دلاعتها ما طاب لها الأسترسال . أشعلت في دم مجدي الرغبة لمداعبتها . كان جسدها طريا ، يبدو مستسلما كلما لمسه ، فأنزلت في قلبه السكينة ، وأعادت الى نفسه الثقة . أذعنت للعناق ، وأخذ كل واحد منهما يلثم فم الآخر ، لكن مجدي سرعان ما كبح جماح رغبته الشديدة المستعرة ، فتابعت الممرضة قولها وهي تربت على ظهره متوددة متحببة :
_ " لا ينبغي أن تسلم أمرك الى اليأس . "
أرى أن ثمة سبيلا واحدة لا غير . " أجاب مجدي ، وكانت ثقته بالمستقبل تزداد ساعة بعد اخرى .
بعد صمت قصير ، سألته الممرضة قائلة :
_ " وما هي ؟ "
ان شغلي الشاغل الآن هو الحصول على عنوان صديقتي الأسترالية مارغريت هيتشسون بعد أن أحرقته الطائرات الأمريكية . " أجاب ، وقد بدت على وجهه امارات الحيرة .
_ " هل تحبها ؟ " سألت الممرضة .
_ " لقد ماحض الواحد منا الآخر الود وتعاهدنا أخيرا على الزواج . "
_ " كيف ستتصل بها بعد أن فقدت عنوانها ؟ "
_ " اتصلت بالسفارة الأسترالية هاتفيا ونصحوني بالسفر الى مدينتها ، والحصول على عنوانها من دائرة البريد أو من دليل الهاتف . ثم انها شاعرة معروفة ، نشرت مجاميع شعرية ولدى دار النشر عنوانها الكامل . وقد أجد عناوين الشعراء الأستراليين من أصل بريطاني في متحف دار الشاعر البريطاني جون كيتس المجاور . "
تناول مجدي ما تبقى من الشراب ، ثم أضاف قائلا :
_ " غالبا ما كانت هيتشسون تمر بايطاليا قادمة من استراليا في طريقها لزيارة أبويها في بريطانيا . "
بعد أن أوغل الليل في التقدم ، نهضت الممرضة وغادرت الشقة .
في صبيحة اليوم التالي ، نهض مجدي مبكرا ، وثارت كوامن شوقه وحنينه لحبيبته هيتشسون . اطمأن على صحة أبيه . تناولا الفطور سوية ، ثم رنا الى أبيه بلحظ مغرورق بالدموع ، وقال بعد أن انتابه شيء كثير من الحزن والكآبة :
_ " أنا ضحية قدر قاس لا يمكن التغلب عليه . أفقدني أهلي وحبيبتي هيتشسون . أجد نفسي الآن ضائعا بلا أهل ولا أمل . "
استجمع أبوه ما تبقى لديه من قوة ، وقال :
_ " ابني ، الفراق سنة ، ولابد أن نروض أنفسنا ومشاعرنا عليه . " ثم أضاف بعد برهة صمت أليمة :
_ " بامكانك الزواج من فتاة ايطالية تملي علينا البيت أطفالا وبهجة . "
فأجاب مجدي فيما يشبه التحدي :
_ " ان لم أعثر على هيتشسون فلن أتزوج غيرها أبدا . "
بعد أن تناولا الشاي بساعة أو نحوها ، قال مجدي مخاطبا اباه :
_ " أبي ، سأذهب الى دار الشاعر كيتس كما أبلغتك سابقا ، عسى أن أحصل هناك على ما يرشدني لعنوانها .
كانت مدرجات ساحة اسبانيا تكتظ بالسياح ألأجانب والباعة المغاربة الذين يعرضون تحفهم اليدوية على السلالم . . . وقف مجدي يتأمل المبنى الوردي الذي يضم الشقة رقم ( 26 ) التي كان يقيم فيها الشاعر الرومانسي الأنكليزي جون كيتس . كان صباحا تموزيا عليل النسيم ، وكانت الشمس تشق سبيلها في سماء روما الزرقاء ، وأخذت الظلال الطويلة تتقاصر عندما شرع مجدي بدخول المبنى ، وما أن تقدم باتجاه شقة كيتس حتى انبثقت في أعماقه نوعا من الهواجس ، فراح يغذي الخطى نحو المكتبة . لمح على مقربة من القسم الخاص بذكريات الشعراء الرومانسيين امرأة شقراء مستغرقة في قراءة كتاب لأعمال الشعراء الرومانسيين . كان الهواء النافذ يحرك خصلة شعر تدلت فوق جبينها . لم تكف عن القراءة عند اقتراب مجدي منها . ألقى عليها تحية الصباح بصوت مهموس ، فقطع عليها خيط تأملاتها . استدارت نحو مصدر الصوت ، حدقت في وجهه بعينين كأنهما قطعتان من الزمرد الأخضر . سألها ان كانت من استراليا ، فأجابت قائلة :
_ " كلا ، كانت مجموعة من الشعراء الأستراليين هنا وغادروا توا . "
شعر مجدي بصدمة كبيرة ، وقرر اللحاق بهم .
في طريقه لمغادرة المبنى وجد كيسا مرميا على الأرض كتب عليه ( غرب استراليا ) رفعه ووجد بداخله جواز سفر حبيبته هيتشسون ، فتضرج وجهه بهجة وسرورا ، وأحس برعشة تسري في كيانه ، وأخذ ألمه يفقد حدته رويدا رويدا . هبط درجات السلم مسرعا الى الخارج . وقف يتطلع في وجوه المارة . أجال طرفه فيما حوله بحثا عن المجموعة الأسترالية . مضت بضع دقائق كانت في طولها كالدهر . وبدأ يغمره احساس بالضيق والضجر واليأس . كان اضطرابه مزيجا من نفاد الصبر والغضب . ما كاد يهمّ بمبارحة المكان حتى شاهد امرأة مضطربة تسرع باتجاه المبنى . حدق في وجهها بامعان واذا بها حبيبته . أوقفها ملوحا بكيس جوازها ، وصاح ، وهو يتجه نحوها :
_ " حبيبتي هيتشسون ! "
احمر وجهها حياء وخجلا ، وسرت الأبتسامة الوادعة مسراها في أسارير وجهها ، ثم ندت عنها ضحكة مترعة بالعافية وهي تشاهد حبيبها.
_ " حبيبي مجدي ! " صاحت ، وكانت تفيض انوثة ورقة . تفحصت جوازها ، وأنهالت على مجدي عناقا وتقبيلا ، وأخذت تقفز من فرط سرورها وقالت :
_ " كم أنا محضوضة . عثرت على حبيبي وجوازي . "
كان مجدي يتوق لأن يضمها الى صدره ويلتهمها التهاما ، وشعر بأنها ستبث في حياته التي ركدت فجأة شيئا كثيرا من المذاق والحيوية .
ترددت ذكريات حبهما الواحدة تلو الأخرى على شفتيها ، وراحت تنطق بها بصوت مهموس . قالت هيتشسون وقد غمرتها النشوة :
_ " الآن سنقطع تذكرة سفر لكلينا الى استراليا . "
فأومأ مجدي برأسه موافقا .

نهاد عبد الستار رشيد
العراق / 1998








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح