الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في؛ مدينة الصور

سعد محمد رحيم

2012 / 3 / 11
الادب والفن


أزعم أن الدخول إلى متن رواية لؤي حمزة عباس ( مدينة الصور ـ الدار العربية للعلوم ناشرون/ بيروت، ودار أزمنة/ عمان 2011 ) تبدأ من صورة الغلاف.. فشخصياً أشعر بأني حالما أفتح الصفحة الأولى من الكتاب فإن الأشخاص الأربعة الظاهرين في الصورة سيستديرون ليرافقوني في الرحلة الممتعة التي تؤسس عالم السرد الروائي في الرواية هذه.. الصورة قديمة تآكل جزء من حوافها، وفقدت بريقها وعبثت بها يد غريبة، لكنها ما تزال قادرة على بث دلالاتها بقوة. أو إنها أصبحت بسبب عوامل التعرية هذه أكثر قدرة على محادثتي، أنا الرائي الفضولي الذي وازعه القراءة والمعرفة.
ما يجذب انتباهي أولاً هو نظرة الولد الأقصر الوجلة والخجول.. وقفته التي لا تخلو من تكلف طفولي، أمام عين الكاميرا. ومن ثم قدماه الحافيتان اللتان تشيران إلى فضائين متداخلين، ومتناظرين؛ فضاء الفقر وفضاء اللعب الحر، فيما الولد الآخر، الأطول، يقف إلى جانبه، باسترخاء وثقة أكبر. وخلفهما يمد الثالث الجالس على دراجته الهوائية رأسه لضمان أن يكون في الكادر، ليشارك في التشكيل السردي، الذي تصنعه الصورة، وقد توقف في جزء من اللحظة؛ اللحظة وقد ذابت في الأبدية. أما الولد الرابع الآخذ بالاقتراب، ولأنه يدرك بأنه لن يظهر من ملامحه شيء واضح فيرسم تلويحة بكلتا يديه.. إن الحاضرين في داخل المشهد الثابت والمؤطر، وعلى الرغم من صغر سنِّهم، يتلبسهم وعي الزمان؛ وعي الوجود وهو يتحول، والوعي بالأشياء المهدَّدة بالاندثار والتبدد.. فالإنسان هو الكائن الوحيد في العالم الذي يرغب في أن لا يُنسى.
ونحن نحدق في الصورة ـ أية صورة ـ لا نكتفي بإعادة إنشاء قبسات سردية من الماضي تحت وطأة دوافع نوستاليجية فحسب، بل نؤسس أيضاً لحلم.. ينحني الواقع التاريخي أمام اندفاعات الخيال وقوانينه ونزقه ليغيّر من طبيعته، وليتكيف مع مقتضيات الفن.. هنا تغدو الحدود مموهة، مضببة ومتنافذة، بين السيرة والتاريخ من جهة وبين الخيال والبناء الروائي من جهة ثانية.
يلملم لؤي ذكرياته.. يلتقطها من بين شظايا الماضي، ويقدِّمها لنا في شكل صور، وإن كانت مرسومة بالكلمات.. لا فرق في ما يؤسس بين صور ممنوعة يخبئها في مكان سري، وأخرى يقتطعها من جريدة ويلصقها في دفتر خاص، وثالثة يكوِّنها من مشهد يراه ويخبره، ورابعة مما يسمع، وخامسة يتخيلها.. تستوي عنده الصور بوصفها مصبَّ حنين وشَرَك هَوَس وموضوع متعٍ وأفق معنى. وقبل هذا وذاك وعودَ حكايات.
"كانت الصور تعيش في رأسي حيةً، نضرةً. لها رائحة وطعم. لها ملمس دافئ غريب". وتلك هي الصور التي تكذب، لا لشيء إلاّ من أجل تأكيد الحكاية.. بهذا يصنع الروائي مفارقاته.. يُخرج، كما الحاوي، من تحت قبعة الصور، لا الشخصيات وحدها، وإنما مراياها أيضاً. وكأننا إزاء حيوات لا تستمر إلا بنفي نفسها في لحظة خاطفة، لضمان أن تحضر أبداً. من هنا ليس غريباً أن تتجلى في صور لؤي حمزة عباس فكرة الموت، ويحضر الموت؛ عبد الحليم حافظ على سرير المرض في أيامه الأخيرة، عبد الكريم قاسم بعد لحظات من إعدامه، سعود وهو يتحول، بفعل أول قذيفة إيرانية تسقط في المعقل، إلى لطخة دامية على الحائط في صورة منشورة على الصفحة الأولى من جريدة الثورة. لكن أكثر الصور التي توحي بالموت وتثير الأسى هي تلك التي يرسمها لؤي، مراراً، للطفل المريض صفاء؛ "كانت عينا صفاء تحدقان. عينان مريضتان مفتوحتان على سعتهما وقد ارتسمت حولهما حلقتان داكنتان. كان يحدّق نحو كيكي ( كلب ) بكل ما في جسده من قوة. بكل ما في روحه من نهم".. تلك النظرة المملوءة بالوداعة والحزن والألم والاستسلام ستصيب الكلب بالخَرَس.. سيرى الكلب، بوساطة طاقة حدسه الحيواني، ملاك الموت يحوم حول الطفل. لذا "ظلّ مأخوذاً بالعين التي تنظر. بالروح التي تنادي". أما أنا، القارئ، فسأبقى أتذكر، ما حييت، عيني صفاء الذابلتين وهما تطلان من النافذة، تنظران برجاء صامت إلى نهر الحياة المتدفق من غير اكتراث، في الخارج.
يجترح الراوي من حشد صور الموت المتناثرة سؤالاً وجودياً مقلقاً.. لا يطرح السؤال على نفسه وإنما يتهيأ له، وهو يتفرج على التلفزيون، ضاغطاً على ذهن الضابط الجالس، متهيباً، خائفاً، في حضرة رئيسه؛ "لكثرة ما رأيت الآخرين يموتون. ولقرب الموت الذي جعلني أتنفس رائحته سألت نفسي: هل سأموت أنا الآخر؟". ولكن البشر يموتون، في نهاية المطاف.. ها هو سعود في حكاية موته، يغيب فيحضر الإمام الخميني مثل طيف صامت؛ "حضور الإمام في الحكاية يفصل بين ميتتين يموتهما سعود. واحدة تؤكدها الصورة. الصورة التي تكذب. وأخرى تنفيها الحكاية. الحكاية التي يتسلل سعود فيها على دراجته من دفتر الصور".
يُبنى النسق السردي بمادة الزمان.. كيفية التعامل مع عنصر الزمن في عملية السرد/ الحكي تقرر إلى حد بعيد شكل السرد ونسقه، فيما إذا كان قائماً على التوازي أو التتابع أو التداخل.. هذه النظرية حاول الروائيون الفرنسيون تجاوزها ففكروا بأن يحلّوا مادة المكان بدلاً عن مادة الزمان، وقد تكلم آلن روب غرييه عن التجاور المكاني في بناء النص السردي. الآن، للؤي حمزة عباس اقتراح آخر؛ يمكن تشييد النسق السردي بالصور؛ الصور التي تحوي في إهابها مادتي الزمان والمكان، في آن معاً، سواءً كان ذلك بتعاقب الصور الواحدة تلو الأخرى، أو بتداخلها بعمليات منتجة، وإعادة تشكيلها، أو بأية طريقة أخرى.. إن الروائي يؤرخ لعالمه السردي في ( مدينة الصور ) بالصور، إذا ما افترضنا أن بناء أي نص سردي هو ( تأريخ ) في وجه من وجوهه.
بهذا المزاج، وبهذا الوازع، يسعى الراوي وصحبه إلى الحصول على الصور.. هناك أولاً صور النساء العاريات في المجلات التي يستأجرونها من يوسف حيث يحصل عليها أخوه سعود العامل في ميناء المعقل من البحارة الهنود.. وهناك أكوام الصور المعروضة للبيع؛ "صور سقطت من جلود اصحابها كما تسقط شعرة". وهناك كاميرا البولورايد الفورية التي يحملها ياسين؛ "جك، والصورة بين يديك.. كان يصيح والكاميرا تتدلى من عنقه كما لو كان يربط العالم بحزام حول رقبته"..
لا شيء يومئ إلى الفراغ بقدر الصور.. ليس الفراغ بمعناه الهندسي المكاني وحسب، وإنما، وقبل ذلك ببعده الوجودي.. نكون إذ ذاك إزاء جدلية الحضور والغياب.. يغيب كيكي الذي بين يدي الملاك عن الصفحة المقابلة فيلتفت عبد الحليم، الحاضر، من سرير مرضه الطويل، إلى ذلك الفراغ المتروك. ترى كيف يشعر، في حالته هذه، وبماذا يفكر؟.
في الصورة الواحدة، كما في توالي الصور تحيلنا القراءة إلى حضور هش وغياب مرجأ.. غياب يستفز مخيلتنا فنملأه بما نختزن أو نلفق من صور، أو حضور ينبئ عن غياب وشيك.. يموت سعود في الصورة التي تكذب فيمحو موته أخوه يوسف بالحكاية.. فيوسف "يبتكرفي كل مرة حكاية مختلفة. حكاية عجيبة يدرأ بها موته. يمحو صورة الجريدة. يُزيل بقايا جدارها المهدّم ويغيّب بقعتها الكثيفة السوداء. يمحوها ويضيف بدلاً عنها صورة جديدة. صورة يمسح بها موت سعود كما يمسح بخاراً عن مرآة". هكذا يؤرخ لؤي للحياة والموت بالصور.. تستحيل حكاية ما إلى صورة لتتناسل عن صور وحكايات؛ تنزل امرأة إيطالية عارية، مثالاً، من سفينتها إلى رصيف ميناء المعقل، فتتهادى أكثر من إيطالية "في حكايات أحلامنا/ يختصرن البحار ويعبرن القارات/ من قارة إلى أخرى يشع جمالهن/ ومن حكاية إلى حكاية". والحكايات كلها لا تكاد تبدو لها نهاية.. إنها مفتوحة لما لا يُحصى من الاحتمالات في أذهان شخصيات الرواية. وأكثر من ذلك، في أذهان القراء.
أنتهي من القراءة وأعود إلى صورة الغلاف؛ الأشخاص الأربعة يقفون أمام خلفية قاتمة من سماء عريضة دكناء، وصفّ دور المعقل يتلاشى في العتمة البعيدة.. لعل خفوت بريق السماء التي هي بالأبيض والأسود سببه قدم الصورة، ومخلفات الزمان والبشر.. بيد أن هذا التدخل من الخارج يقترح دلالات جديدة تتعلق بالمآلات، وبشكل الحياة السائد واتجاهها فيما وراء المرئي، وفي ما بعد هذا الهمود المؤقت.. يخيل لي أن تبدّلاً ما سيطرأ حالاً، ستدبُّ الحركة في الصورة، وسيتسع المشهد ويتقلب، وسيذهب كلٌّ إلى مصير مختلف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي


.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء




.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان


.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي




.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء