الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شرَيْدَه اليوم شيخ العشيرة

مديح الصادق

2012 / 3 / 16
كتابات ساخرة


يُكثرون من لومِهم علي، زملاء وأصدقاء يتابعون ما أكتب باهتمام، ويُخضعونه لجملة من التساؤلات والنقاشات التي تتناول أكثر من جانب، أهمها الأفكار التي يغلب عليها أحيانا طابع قروي، إضافة إلى أن الأسلوب الذي أنتهجه مبني على التورية التي يرادفها شعبيا مصطلح ( الحسجة ) بالجيم المثلثة، وعذرهم في اعتراضهم هذا أن أغلب المتلقين في العصر الراهن متعجل إلى الإفصاح عما يجول في ذهن الكاتب مباشرة، أو ما يسمى بالطبخات الجاهزة في عرف الكُتَّاب، فهو لا يكلف نفسه عناء الربط بين الأ حداث والشخصيات ليستخلص النتائج المبتغاة من النص، فهناك صنف - كما يرى سلام الدليمي - متعجل لا يحبذ اللف والدوران؛ بل أن بعضهم ينأى بنفسه عن تفسير ما يعني الرمز
العالم - يا أخوتي - على سعته وترامي أطرافه؛ ما هو إلا قرية صغيرة، ليس في عصر التكنولوجيا الحديثة فحسب؛ بل منذ بدء الخليقة هو بهذا الشكل، فبعد أن غادر الإنسان عصر المشاعية الأولى، يوم كان اللحاف الواحد يستر قرية بأكملها، كبرت أم صغرت، وما كان يجود به الحقل وما عليه فهو ملك مشاع للجميع؛ من ذلك الزمان حتى اليوم، وحيثما توزَّعت ذرية أبينا آدم على بقاع الأرض؛ فإن قوانين القرية نفسها هي التي حكمت، وما زالت تحكم بني الإنسان، تخلفوا أم تحضروا؛ فالأنانية، وحسب السلطة والجاه، عند مَلاَّك الأرض، أو البرجوازي الصغير والكبير؛ لم تنتج سوى الجوع والخراب والتخلف والضياع والحروب والدمار، أما حب الإنسان لأرضه، والآلة التي منها يعيش؛ كانت وراء أن يدفع المساكين ثمن ذلك الحب من عرق جباههم، أو تقديم أرواحهم قرابين كي يبقى على عرشه السيد سلطانا، وليمت من يموت من هؤلاء المضحوك عليهم بانتظار جنة فيها ما لذ وطاب، دفاعا عن شعار ديني وهمي، أو وسام كاذب، تحت شعارات الوطن، أوالدين، بها يتستر أولئك وهؤلاء
القرية - عندي - هي العالم بأسره، أشخاصها وأحداثها يتكررون في كل عصر وزمان، دواوينها مدارس منها الفلاسفة ينهلون، والمصلحون، وقوانينها تحكم العالم في أعتى الإمبراطوريات، وأحدث الجمهوريات، ولعل قريتي ليست ككل ما تعرفون من قرى؛ ففيها العالم بأسرة يموج، وبين أكواخها كل ليلة تُنسج أحداث يشيب لها شعر الرضيع، وما دمتم قد استدرجتموني لدواوينها فليس في جعبتي الليلة سوى حكايتي تلك، عسى أن تفي بالمطلوب

إنها حكاية طريفة، واقعية وليست من نسج الخيال - كما الحال في أساليب أغلب الأدباء - بل أن بعض شخوصها لا يزال على قيد الحياة. الصداقة بمعناها الحقيقي لا تشترط تقاربا في الأعمار، أو في مستويات الدراسة وتحصيل العلوم، ولا الثراء أو الدين؛ وخير مثال على ذلك ما جمع ( الشريف الرضي ) مع ( أبي إسحق الصابي )، كاتب ديوان الإنشاء في العصر العباسي؛ على اختلاف في الأعمار والدين؛ ومثل ذلك كان بيننا، أنا وشيخ قبيلة عربية قحطانية، فارس شجاع، وكريم، على الرغم من علمه جيدا بما أحمل من أفكار تحارب استغلال الإنسان لأخيه الإنسان؛ لكن اختلاف الرؤى لا يفسد للود قضية، كما يقال. هو معروف زعيما لقبيلته، ولدى القبائل الأخرى المجاورة على أنه سديد الرأي، إليه يحتكم الفرقاء عند اللبس أو الغموض في حل خلاف قد يتطور إلى ما لا تُحمد عقباه؛ وعليه فإن ما ينطق به من حكم لابد أن يكون نافذا مُطاعا، وإلا فإن السيف مشروع له أن يسلطه على رقاب الحانثين بالعهد

طرق الباب - على غير عادته - قبل منتصف الليل بقليل، لم يمهلني كي أبادره بالسؤال عما أن أمرا مستقبحا قد كان، بادرني: لا تقلق يا صديقي الأمر ليس بالخطير؛ لكن السرية تستوجب الانفراد آخر الليل بعيدا عن أنوف المتطفلين الفضوليين، وقد صبرتُ حتى انفضَّ الديوان عندي، وأظن عيالك قد غرقوا في النوم. من جيبه أخرج ورقة وقلما كي يوفر عليَّ حركة قد توقظ النيام فيحشرون الأنوف، هيَّا اجلس، من فضلك، واكتب بخط مقروء: نحن الموقعين أدناه: شيخ قبيلة ( كذا ) ورؤساء أفخاذها، نعلن أمام قبيلتنا، وباقي القبائل، القريبة والبعيدة؛ أننا مُتبرِّئون من ابن عمنا المدعو ( شريدة ) وأولاده، محيسن، وعليوي، وشعواط، وأن دمهم مهدور لا نطالب به؛ وذلك لكثرة مشاكلهم مع أهلهم والجيران، واستغلالهم صفتنا باعتدائهم على الآخرين، وحالهم هذا، مثل حال كل الفاسدين المنبوذين؛ به لا نرضى؛ بل نترفع عليه
بما أنني أعرف المقصودين حق المعرفة؛ فقد تفننت في صياغة هذا السَنَد المُسمى ( كسرة عصا ) في العرف العشائري، وأغلقت كل ما منه يمكن النفاذ من الثغرات، وأعدت قراءة ما كتبت أكثر من مرة على مسمع الشيخ، حشوت بداخله تفاصيل لكل ما ارتكبوا من تجاوزات بحق أهلهم والجيران، واشتكى منهم البعيد، وهم أخوة الشيخ قد تجاوزوا على مكانته وما يتمتع به من هيبة وجاه
أحضرت محبرتي كي يغمس بها إبهامه الأيسر، ويبصم بدلا من التوقيع، لم يبصم، تناول الورقة من يدي، طواها طيتين ودسها بجيبه، أغلق قنينة الحبر بلطف، وغادر مثلما جاء أول الأمر

أن تكون قريبا ممن هم في مواقع المسؤوليات، بحكم صداقة حميمة، أو تقدير من لدن الآخر لما تتمتع به من إمكانات؛ ذلك لا يجيز لك التدخل في الخصوصيات، إلا حين تُستشار، أو أن الموقف من حيث خطورته يفرض أن يكون تدخلك أمرا لا يقبل التأجيل؛ لذلك تظاهرتُ بعدم الاهتمام بما آلت إليه الأمور بعد تحرير ذلك الميثاق للشيخ، وهو الحليم الذي لا يخفى عليه تمثيل شاب مثقف في مقتبل العمر. في زاوية من ديوانه تقاسمنا قهوة بالهيل، من جيبه أخرج لفافة الورق، لم تزل كما كتبتُها دون توقيع من الشيخ؛ رغم أنها موقعة من جميع رؤساء الأفخاذ؛ لكنَّها لا تكتسب حكمها القطعي إلا بعد توقيع زعيم القوم. بلطف من كتفي هزَّني: إن الذي بين يدي لم يكن سوى تمثيل بتمثيل، هو السلاح الذي به أهددهم كلما خرجوا عن الطوع، العشيرة لا تستغني أبدا عن الأوغاد؛ فقد نحتاجهم يوما ما، حين يكون وَغْداً شرِساً خصمُك، فليس من حيلة لك سوى أن تواجهه بمن لديك من الأوغاد، وإن أردت النيل من خصم عزيز قومه؛ فماعليك إلا أن تسلط عليه مسعورة الأنياب؛ بعدها تُفصح عما لديك من أوراق، فتتظاهر بأنك غير راض، وقد أوفيتهم حقهم من التأديب؛ فما من عرش - يا صديقي المثقف - إلا ويبقى دائما بحاجة إلى مثل تلك المسعورات

ودار الزمان دورته التي أهلكت ما أهلكت من زرع وضرع، تفرق الأخوة كل في مدار، وتكشفت عورات، ودِيس على حرمات، أرض بابل وطأتها أحذية ثقال، وبها استهانت مجندات عاهرات، والغربان قد نهشت أحياء قبل أن تنهش الأموات، في كل جهات الأرض تفرقت ذريته، شيت ابن آدم كي يكفوا عن أكل لحم بعضهم بعضا، تذكرتُ حينها صديقي الشيخ الجليل، حملتُ أمتعتي، وما اخترتُ له من هدايا به تليق، ولَّيتُ وجهي صوب موقد لم أعهد له أن تنطفئ نار؛ فلا الدار دار كما عهدتها، وماهم كما تركتهم أهل الدار، ليس سوى كوكبة من المهاويل الراقصين، بثقلهم الأرض يرفسون، من تحت أقدامهم يخرج إيقاع ثقيل، بيارق تتمايل ذات اليمين وذات الشمال تصحبها رنَّة ( الخراخيش )، ونشيد جماعي: بيك اليوم ضوَّت الديرة، مات الشيخ الزين، ( شرَيَدَه ) اليوم شيخ العشيرة
شرَيْدَه الشيخ وعُمْرَتْ الديره
آذار - 2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وقت اشريده
Zaher Mohan Manhal ( 2012 / 3 / 16 - 21:37 )
عزيزي اﻻستاذ مديح المحترم
اعتقد ان الزمان هو زمن شريده واﻻسوء من شريده
متى تعي الناس ذلك وتصحى على زمانها
اتمنى ان لا يطول اﻻنتظار
زاهر موحان منهل


2 - لكل زمان ومكان شريدته
مديح الصادق ( 2012 / 3 / 16 - 22:25 )
شكرا لمروركم الكريم، أستاذ زاهر موحان منهل المحترم
بما أن التيار ( الشريدي ) لا يميز بين المشروع واللا مشروع من الوسائل التي يسلكها للوصول إلى أهدافه؛ لذا فإنه موجود في كل عصر وزمان، في كل مكان في الكون، وذلك ما جعله دائما يطفو على السطح، ويكسب الكثير من الأعوان؛ إلا أن ( شريدة ) اليوم مختلف عمن سبقوه؛ لأنه جمع كل ما خلفوه له من خبرات، أو بالأحرى هو تيار عالمي مدعوم من الذين يجيدون تحريكه كيفما يشاؤون، ويبقى العيب في الراقصين على أنغام الطبول، وليس فيه


3 - خوش عيدية للمتلونين
د. خالد الحيدر ( 2012 / 3 / 17 - 03:12 )

نعم صديقي أستاذ مديح، عرّي الأنتهازيين والطبالين والرداحيين والمتلونيين أينما كانوا وبكل العصور
لقد أمتعتنا كعادتك بإبداعك الجديد وأنت تجيد الحسجة فلقد وصلتهم رسالتك اللاذعة بالتأكيد
دمت متألقاً أديبنا وشاعرنا أيها الصادق النبيل


4 - لتصطف كل قوى الخير والفضيلة
مديح الصادق ( 2012 / 3 / 17 - 04:42 )
لقد تعودنا منك المتابعة بكل رأي صريح وجريء -أخانا الدكتور خالد الحيدر المحترم - فشكرا لك. ليس مهما يا صديقي العزيز أن نكشف ونعري هؤلاء الذين يلعنهم كل جيل يظهرون في صفوفه، ويتلونون بصبغة كل مرحلة، وبما ينسجم وما يطمحون إليه؛ بل الأهم أن لا تتلوث أصابعنا ونحن نتوجه إلى صناديق الاقتراع فنُلدغ من جحورنا مرتين؛ إنها رسالة ودعوة لاصطفاف كل قوى الخير، وكل حر شريف، إلى جانب الحق والفضيلة، فيغادرنا ( شريدة ) مهزوما مع بطانته


5 - تفاءلوا بالخير تجدوه
أبو زينب ( 2012 / 3 / 17 - 05:43 )
شريدة شيخ العشيرة إلى حين والعجلة تدور ، فإن كانت دامت لغير شريدة ما وصلت إليه . يقال أن أحد أصدقاء مدين نصحه أن يجيب على طلب أي دائن بعبارة ( لولولو ) فبعد فترة يكف الدائنون عن مطالبته . مرت شهور وإرتاح المدين من مطالبات الدائنين وصار عنده فيض من المال ، فرأى الذي علمه أن أن يطالبه بدينه فأجابه هذا ( لولولو ) فقال له صاحبه ( هل عليّ أيضاً تمرر ما علمتك ؟ ) . فالأمر يا أبا سولاف ، مهما طالت المشيخة لشريدة فمصيره لا يكون أفضل من مَن سبقوه
تحياتي


6 - الزمن لوحده غير كاف لإزالة شريده، وآل شريده
مديح الصادق ( 2012 / 3 / 18 - 14:19 )
شكرا لمتابعتك وتعليقاتك اللطيفة الهادفة - أستاذ ييلماز - وأتفق معك على أن مصير آل شريدة النكوص، ثم الاندحار نهائيا؛ كما هم الذين سبقوهم من قبل؛ لكن المشكلة تكمن في السبل التي من شأنها التعجيل في هذا الرحيل قبل أن يأتي على آخر ما تبقى من بوارق الأمل في نفوس شعب أنهكه الطغاة المتعاقبون عليه، وهم جميعا رضعوا من نفس الثدي، وكتبوا وصاياهم بنفس الحروف؛ أم نبقى مُكتفين، لرحمة القدر منتظرين؟ أيجوز في عرفكم هذا، أبا زينب العزيز

اخر الافلام

.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب


.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في