الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيرةٌ غيابيّةٌ .. مُختَصَرة !!

وفا ربايعة

2012 / 3 / 16
الادب والفن


على الشُرفةِ المُقابلةِ لنهارٍ يُشبهُ الحُلمَ المُكتظَّ بالمُتناقِضات .. والمليءِ بالمارّةِ المُتعَبينَ والمُبلّلينَ من المطرِ المُنسدِلِ بهدوءِ على ثيابِهم .. أرقُبُ شوارِعاً ميّتة كوجهِ آخرِ أمُنياتي التي انطفأت كسيجارتي في منفضةِ المقهى .. وعلى طرفِ فنجانِ القهوةِ الأوَّل .. تبدأُ ساعتي الأولى .. والتي قُدِّرَ لها أن تكونَ " طفولَتي " ..

أدركُ أنَّ المطرَ يُثيرُ مُخيِّلَتي المُنكمِشةَ نحوَ البعيد .. لكنني لم أعلمَ بأنَّ المسافة ستطولُ آلافَ الأميال .. من حيثُ بدأتْ قبلاً بــ " لا تسرِقِ الكُحلَ من عينيها ".. واليوم أرجعُ تلكَ الطفلةَ للمرّةِ الأولى .. والتي لا تحمِلُ في جوفِها سوى حكاياها الصغيرةَ عن دُماها التي تملأُ غُرفتَها .. ونُزهاتِها وأسفارِها الكثيرة .. وعن قطتها ذاتِ الفراء الطويل .. وعن سيارتِها الكبيرة التي أحضرها لها والدُها عند عودتِهِ من دولةٍ ما .. وعن صاحبِ البقالةِ المجاورة والذي كلّما ذهبتْ لتشتري أعطاها قطعةَ حلوى .. وأخبرها بأنها تمتلكُ عيوناً ساحِرة . ما زلتُ لا أدري ، لِما كُلَّما نقتربُ من حلمٍ كانَ حقيقةً في يومٍ ما .. نُصابُ بحالةِ موتٍ لحظيٍّ يسري في أوصالِ أصغرِ أشياءِنا

تلكَ الأشياءُ التي لطالما اعتقدنا أنها مُلكُ أيمانِنا .. ولكنها في لمحِ البصرِ تذهبُ إلى البعيدِ إلى غيرِ رجعة .. لم يبقى ليَ من أشيائيَ سوى الكثيرُ من القهوةِ وبِضعَ سجائرَ تتكدَّسُ جُثثاً في المنفضة .. أتذكَّرُ لحظةً بأنني مُدخِّنةٌ شرِهة .. فلو كانت شراهتي للحياةِ بقدرِ احتراقي في كُلِّ نفسِ سيجارة .. لما وصلتُ إلى الطاولةِ المُنزويةِ في ذلكَ المقهى .. وحيدةً ورتيبةً ومُحتقِنةً بِكُلِّ تلكَ الأفكارِ السوداءِ .. والتي تجلِبُ سكتةً قلبيّة حتى عندَ تناوُلِها جُرعةً جُرعة ..!!

يقطعُ النادلُ صمتيَ الطويل .. والذي انتهى عندما وقعت " زهرةُ " اللُفافةِ - كما يُسمّونَها ـ مُلوِّثةً ثيابي قائلاً :

- قهوةٌ أخرى ؟

أومأُ برأسي دونَ أن أتكلَّفَ عناءَ الإجابة .. وألتفِتُ حولي غيرَ آبهةٍ للكلماتِ التي يركُلُها روّادُ المقهى باتجاهي .. أبتسمُ بسخريةٍ بالغة ، أظنُّني قد نجحتُ في لفتِ الأنظارِ إليّ .. فنجانُ قهوةٍ آخرَ شهيّ كلونِ الشمسِ التي تغمِدُ نورَها في الغيمِ المُتآمِرِ على نهاري الخالي من كُلِّ شيء .. حتى مِنّي .. فكم صعبٌ أن نتجرَّدَ من ذواتِنا المقتولةً في يومِ العُطلة ، ونمارِسَ جزءاً من حُريّاتِنا التي اختزلَتها الحياةُ إلى " جلسة فيسبوكيّة " .. أتذكَّرُ رائعةَ محمود درويش يومُ الأحد .. وأُشعِلُ " جُثّةً " أخرى ، في محاولةِ استردادِ ما تبقى من ساعتي الأولى .

الكلُّ في هذا المقهى ، حزينٌ لأجلي ، أفتتحُ عقولَهم بنظرةٍ واحدة ، لأجِدَ الفكرةً ذاتها تدورُ من رأسٍ إلى آخر :

- "كم هي مسكينةٌ تلكَ الفتاةُ التي تنتظرُ حبيباً لا يأتي ، وتجرعُ القهوةَ في حسابٍ لا ينتهي مع الوقت ، وتسألُ حبّاتِ المطرِ النازلةَ إلى الشارِعِ الطويلِ جميعها عنه ، وثيابَ الفتياتِ الجميلات المُلتصقةَ بأجسادِهنِ ، عن رائحتهِ ، عن وجهه أو لونِ عينيه ، وهاهي الآن تقرعُ الطاولةَ بهاتِفها ، علَّهُ يُحضِرُ لها عُذراً يستحقُ كُلَّ تلكَ المُعاناة ، والتي حاولتْ إخفاءَها بتصفُّحِ الشبكة العنكبوتية بحاسوبِها اللوحيّ ، لتصبَّ كامِلَ قلقِها على عُلبِ السجائرِ المتناثرةَ أشلاءً على الطاولة " .. كم نحنُ مقتولونَ في ذواتِنا ، إذ أننا بحاجةٍ لتبريرِ أبسطِ حقوقِنا وأفكارِنا ، وتقديمِ الشرحِ المُفصَّلِ عن لونِ أطباعِنا ورغباتِنا ومواطنِ جنوننا وملامِحِ أحلامِنا ، كم نحنُ فضوليّونَ عندما نحاوِلُ تفسيرَ رائحةِ القهوةِ وصوتَ فيروز ، وابتسامتِنا العريضةِ عند سماعِنا لـ " اسمٍ " يمرُّ من أمامِنا ، أليسَت لنا الحُريّةُ التي نستميتُ في المُطالبةِ فيها بثوراتِنا على شاشاتِ التلفازِ ومُقابلاتِنا الإذاعيّة ؟

كيفَ نُطالِبُ بالحُريّةِ ونحنُ من ينتهِكُها بكلِّ بساطةٍ في أبسطِ أمورِنا اليوميّة ؟ أعي في تلكَ اللحظةِ أنني لن أُقدِّمَ تفسيراً لتلكَ العُقولِ المُقفَلة ، لن أُجيبَ على علاماتِ الاستفهامِ الكثيرة التي تدورُ حولي ، سأكتفي بمتابعةِ الأملِ المُترنِّحِ من البعيد ، والذي سينتظِرُ حُكماً عادلاً ، أو مِقصّاً يفصِلُ حبلَهُ السُريَّ عن جسدي ، سألتصِقُ أكثرَ في ذلكَ الزجاجِ الداكِن ، وأغنّي لفيروز " أنا لحبيبي وحبيبي إلي " .. أُدرِكُ أنني أعبثُ بوقتٍ يشُلُّ الانتظارَ لنهارٍ لا ينتهي .. أُطفئُ سيجارتي وأتركُ الحسابَ – كعادتي على الطاولة – لتلتصِقَ ثيابيَ المُبتلةُ بجسدي ـ وأبدأ رحلةَ البحثِ في المطرِ .. عن نفسي ..!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتظروا لقاء مع أبطال مسلسل دواعي السفر وحوار مع الفنان محمد


.. فاكرين القصيدة دى من فيلم عسكر في المعسكر؟ سليمان عيد حكال




.. حديث السوشال | 1.6 مليون شخص.. مادونا تحيي أضخم حفل في مسيرت


.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص




.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..