الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كوب- قصة قصيرة

جمال القواسمي

2012 / 3 / 17
الادب والفن


الملاكم من وزن الريشة المشهور في البلد لم يعانِ من أي مرض في حياته، ولم يجرؤ أحد على أن يجعله يعاني. انه رجل صعب وعقله في قبضتيه. يكفي أن يقول: أريد فيقف الناس له احتراماً، وتنفتح الأبواب أمامه: اوراقاً ثبوتية، عقوداً، مالاً، وعوداً تتحقق، وكثيراً مما شاء ما عدا الزوجة، فلم تقبل به فتاة أبداً. كل أهل المدينة تعرفه، فقد رأوه هنا وهناك، في جميع فصول السنة، في النوادي، في شوارع البلد، في قنوات التلفاز الرياضية ونشرة الأخبار: الملاكم من وزن الريشة هزم غريمة فلان وفلان وفلان بالضربة القاضية، ركض، تدرب، دخل في طوشة، أخذ عطوة، استقبل جاهة، سالماً غانماً، لم يعانِ بحياته من مرض أو ارتجاج او حتى جرح بسيط ولا أحد جرؤ على تكسير كلمة من كلامه. منذ أصبح ملاكماً مشهوراً، لم يجرؤ في حياته أحد على أن يخدش أسمه ما عدا بائع الكعك الذي طلب منه الملاكم قبل شهـرين من نافذة البيت أن يبيع الكعك بعيداً عن حارته لأنه يزعج الناس بزعيقه، "كـعــك!! كـعــك!! كعك مقحمش!" فلم يآبه لكلامه، فخرج له من البيت وطلب منه عدم الزعيق على الأقل؛ بائع الكعك الغشيم رآه أصغر حجماً منه فضحك مستهزئاً به قائلاً له انه يريد الترويج لكعكاته، فقال الملاكم ان كل المارة ترى انه يبيع كعكاً وليس أحذية؛ وحالما فكر البائع المسكين برفع يده، ضربه الملاكم كأنه كيس من الرمل يتدرب عليه، وتركه منفَّخ الوجه وبلا حاجب. لا يوجد أحد من أقربائه أو أصدقائه أو جيرانه أو معارفه إلا وحمل منه تذكاراً على وجهه او عرجة في قدمه او أصابعه؛ كانت قائمة ضحاياه قد بدأت بابن خاله الذي بات أعور في الطفولة. وقد بلغ الملاكم الخامسة والأربعين ولم يجد أحداً يزوجه من ابنته؛ بقي يعيش مع أمه العجوز، وحده في عِلية البيت ذات السقف الواطئ مثل فنجان قهوة أفطس.
وهكذا فجأة وجدته عائلته وحده ميتاً في البيت. حامت شكوك كثيرة حول موته، وقيل انه مات مقتولاً. جسده الذي لم يخضع لمبضع في حياته صار هدفاً للتشريح، وصوروا جثَّته أخيرا علهم يكتشفوا فيما إذا كان لديه كسور في صدره او رأسه؛ لا شيء. تقرير التشريح كان نظيفاً، وأشار إلى أن الوفاة حدثت منذ يومين وان سببها جلطة قلبية قوية. ولم يبقَ إلا دفنه، وكان الجميع في انتظار وثيقة الدفن التي تأخر تحريرها حتى خاف الناس أن يعود الملاكم من وزن الريشة من ثلاجة الموتى ويُشبع موظفي وزارة الصحة وأهله وأصدقائه ضرباً. لكن أخيراً عاد أقاربه ومعهم وثيقة الدفن، فقد كان عليهم أولاً إحضار تقرير المشرحة، وكان الطبيب المسؤول عن التشريح مريضاً وغاب يومين وكان عليه التوقيع على التقرير. وكان اقرباؤه سعيدين بالتقرير الذي يؤكِّد انه لا يوجد خدش بسيط في جسد الملاكم من وزن الريشة او اي كدمات او ما يشير الى عنف. وهكذا فقد بقي عليهم أن يدفنوه. وجاؤا جميعاً: الأعرج والأعور والأطرش، والذين ركَّبوا أطقم أسنان وهم شباب، وكذلك ثلاثة معاقين بعكازات وبائع الكعك الذي ضربه قبل شهرين، وكل من تشاجر معه بنظرات الأعين. كان الملاكم من وزن الريشة صغير الحجم وكان التابوت كبيراً عليه، فحملوه من البيت، والجميع يتدافعون ليحملوا تابوته، تصايحوا وتشاجروا حول من يحمل التابوت أولاً، ومن الأولى بلحم ثوره: أصدقاؤه أم أخوته، بائع الكعك ملأ بزعيقه البيت والأزقَّة والدنيا خلال الجنازة كلها: وحِّـدوه!! وحدوه!! وحِّدوا الله!! تدافعوا وتلقفوا التابوت طوال الجنازة عبر أزقة القدس، صعدوا درجاً، نزلوا درجاً، هربوا من المطر، لحقوا بالغيم، تراكضوا هنا وهناك، والتابوت على الأيادي والأكتاف، وكان بوسع الجميع ان يسمع ارتطام جثته في ارجاء التابوت وكأنها تهشَّمت مثل كوب زجاج.
1-3-2012
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال