الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 15 المثقفون وأدوارهم 4 سوريا من جديد

عبد المجيد حمدان

2012 / 3 / 18
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
15
المثقفون وأدوارهم 4 سوريا من جديد
لأنها النموذج :
لأن ما حدث ويحدث في ليبيا ، يؤخذ كدليل ، أو كمؤشر ، على ما يحدث وسيحدث في سوريا ، فإنني أكاد أجزم ، أن ابتسامات ساخرة شامتة ، علت وستعلو وجوه مثقفين ، إعلاميين وسياسيين ، من معتنقي ومروجي نظرية المؤامرة ، بعد مؤتمر بنغازي . وأكاد أجزم بأنهم سيخرجون لنا ألسنتهم قائلين : ألم نحذركم ؟ ألم نقل لكم أن مؤامرة سايكس – بيكو جديدة معدة لبلداننا العربية منذ زمن ؟ ألم نقل لكم أن أوان تنفيذها قد حل الآن ، مع بدء وتطورات ثورات الربيع العربي ؟ قلتم أن ليبيا خرجت سالمة ولم يجر تقسيمها ، وهذا دليل أن المؤامرة من صنع خيالنا . إذن اقرأوا ، اسمعوا ، شاهدوا ما يجري الآن هناك . إقرأوا عن مؤتمر بنغازي . شاهدوا وعوا ما تمخض عنه من إعلان عن قيام حكم ذاتي لبرقة ، والدعوة لليبيا فيدرالية . الكل ، حتى رئيس المجلس الانتقالي الليبي ، مصطفى عبد الجليل ، وحتى رئيس وزرائه ، يقول بأنها مؤامرة لتقسيم ليبيا ، وأنه سيبذل كل جهد لإحباطها ، وأن بلدا عربيا ، وربما أكثر ، ضالعون في المؤامرة ، فهل بقي لكم منفذ للمكابرة ، فإعادة القول بأن فكرة المؤامرة من صنع خيالنا ؟ يا أيها القوم اصحوا تصحو .

ونقول " مكابرين !" : لا وجود فعلي أو عملي لهكذا مؤامرة . وليبيا ستبقى موحدة ولن يتم تقسيمها . ولا قدرة لأحد على فعل ذلك . نعم قرأنا ، شاهدنا وسمعنا ، مثلكم تماما . ولكننا قرأنا ، ونقرأ الأحداث ، من زاوية مخالفة . نسألكم : ما الذي كان يفعله حكم ، زعم لسنوات طويلة ، أنه يقود حركة التحرر العالمي ، لبلده ؟ كيف يمكن فهم أن المصروف الشهري الجاري ، العادي بلا حالات طارئة ، ولواحد من أبنائه فقط ، كان مليوني دولار ، في وقت ظلت فيه مدينة بنغازي ، بالثلاثة أرباع مليون من سكانها ، بدون شبكة صرف صحي ؟ كيف تفهمون أن نظام الثورة على الامبريالية ، يودع مئات المليارات في البنوك الامبريالية ، وولاية برقة ، كما الولايات الأخرى ، لا تنعم ببنية تحتية ، هي أهم مستلزمات الحياة في عصرنا الراهن هذا ؟ كيف تفهمون أن بلدا بحجم فلسطين ، بادرت سلطته الوطنية ، ومنذ اليوم الأول ، إلى تقسيمه إداريا لست عشرة محافظة ، في حين أن ليبيا ، بمساحتها الهائلة ، ما زالت لا تعرف هذا النوع من التقسيم الإداري ؟ وأكثر من ذلك تبرز مسألة التقسيم الإداري الآن ، كأحد المعضلات التي تعمل الحكومة الانتقالية على حلها ، وحيث المقترحات فيها كثيرة ، ومنها تقسيم ليبيا إلى ثلاث عشرة محافظة ؟ كيف تفهمون أن برقة تقوم على بحيرات النفط ، وبها مصافيه ، ومن موانئها يتم تصديره ، ومع ذلك لا تحظى بمستشفى معقول ، أو بجهاز صحي مقبول ؟ وإذن ضعوا أنفسكم مكانهم ، فكيف كنتم ستتصرفون للفت أنظار السلطة المركزية لمشاكلكم وحلها ؟
في بحثهم عن الحل رجع البنغازيون إلى تاريخهم . كانت ليبيا الملكية مكونة من ثلاث ولايات ، يضمها اتحاد فدرالي . رأوا أن العودة لهذا الوضع ، لا تعوضهم فقط عن سنوات الحرمان من عائد ثرواتهم ، بل وتنقل لهم كامل السيطرة على هذه الثروات ، وليتصدقوا هم منها على الولايات الأخرى . بديهي أن يرى الآخرون في هذا التوجه ، مقدمات للانفصال ، رغم تطمين مؤتمر بنغازي بأن الأمر ليس كذلك . تنبه المجلس الانتقالي ، والحكومة المؤقتة للأمر . ورأوا أن الحل لا يحتاج إلى الكثير من الجهد في التفكير . الحل هو في الخلاص من البطء الذي يسم خطوات الحكومة ، وبينها الاستقرار على تقسيم إداري سليم للبلد ، ثم إقراره ووضعه موضع التنفيذ ، وإلى جانبه ، وبذات الوضع ، التخلص من المركزية الشديدة ، وإقرار وتطبيق نظام لا مركزي ، يسمح بتوزيع عادل للثروة وللخدمات . وهذا ما تعمل عليه الحكومة ، حسبما يصدر عنها من بيانات . وبافتراض أن الحكومة المركزية فشلت في إيجاد حل مقبول لمشكلة ليبيا الإدارية ، وأن البنغازيين نجحوا في إعادة النظام الإداري في العهد الملكي ، أي إعادة تقسيم ليبيا إداريا إلى ثلاث ولايات ، يضمها اتحاد فدرالي ، فهل معنى ذلك المقدمة للتقسيم ؟ جوابنا لا قاطعة ، حتى ولو قالت الحكومة عكس ذلك . الحكومة ترفض العودة لنظام ما قبل القذافي . ومن حقها أن تعبئ الشارع على رفضه ز لكن النظام الفدرالي قائم في العالم ، في كل قاراته . والدول الفدرالية وحدتها متينة ، لايهددها الانقسام . من هذه الدول الولايات المتحدة ، كندا ، المملكة المتحدة ، وحيث بريطانيا واحدة من ولاياتها ، ألمانيا ، سويسرا والهند ، وغيرها كثيرا . ما يجب أن نعرفه أن طبيعة النظام هي من تقرر متانة الوحدة أو هشاشتها . من يقرر ثبات وحدة الدولة ، أو ضعفها وتهديدها الدائم بالانقسام . نظام ديموقراطي يوفر العدالة والكرامة والمساواة ويضمن الحريات والحقوق هو الحل ، إقرار المواطنة هو الحل . ذلك ما قامت من أجله الثورات العربية ، ساعية إلى تثبيت وتمتين وحدة بلدانها ، وذلك ما تحاول قوى ، تصف نفسها بالوطنية ، خطفه ، مهددة هذه الوحدة .
توصيف للحال :
وبالعود لسوريا بعد هذه المقدمة ، التي رأيت ضرورتها ، نقول : في توصيفهم للحال القائم في سوريا الآن ، يتفق طرفا المعادلة – من يساند الثورة ومن يتحفظ عليها ، وحتى من يساند النظام – في عرضهم للوقائع ، وفي إيرادهم للمعلومات . أما الخلاف فيأتي في التحليل والاستنتاج ، وتقرير المواقف . وكان أن عرض الأستاذ الكبير ، محمد حسنين هيكل ، في حوار مع جريدة الأخبار المصرية ، الجزء الثالث من الحلقة الثالثة ، والمنشور في عدد 16 / 2 الماضي ، عرض تلخيصا وافيا لتوصيف ورؤية المتحفظين لما جرى ويجري في سوريا . ولأنه كذلك ، ولأنه يطرح موضوعات وقضايا ، هي محل نقاش دائم ، وستكون موضوعات هذه الحلقة ، رأيت أن أعيد نقلها ، كاملة تقريبا للقارئ .
يقول هيكل لمحاوره ، وهو رئيس تحرير الأخبار ياسر رزق : " تأمل بدقة ما يجري في سوريا . في هذا البلد نظام سيء ، وهناك قوى كثيرة في سوريا بالفعل ترفضه . وفي كل الأحوال فقد طال حكمه بأكثر مما هو صحي ، وأكثر مما هو أخلاقي ، لأن ظروف البقاء في السلطة ، إلى درجة توريثها بإصرار ، يفاقم سلبياتها ويستنزف آداءها . بمعنى أن في سوريا بالفعل حالة ثورية ، لكن هناك من يستغل هذه الحالة ويوظف الربيع العربي لصالحه . ولك أن تقرأ كامل التقرير الذي قدمه رئيس مراقبي الجامعة العربية ، وهو الفريق " الدابي " . ففي هذا التقرير يتحدث الرجل صراحة عن أخطاء للنظام جسيمة ، وعن خطايا رصدها فريقه ، لكنه يتحدث أيضا عن ضحايا لم يقعوا ، وعن مشاهد لم تحدث ، وعن صور وأصوات يجري تصنيعها بالتدليس والتزييف ، وكثير منها في معامل باريس ولندن . لكن هذا التقرير تم إجهاضه منذ اللحظة الأولى ، ، ومن قبل أن يخط مقدمه حرفا واحدا في نصه . على أنه تقرير كاشف ، ثم إن الظروف التي أحاطت به ملتوية القصد . وفي الواقع فإن هناك حالة ثورة في سوريا ، لكن هناك من يحاول الاستيلاء من الخارج على الثورة وعلى سوريا . دعني أذكر لك أن المعركة على روح الثورة السورية ، وعلى سوريا نفسها ، سوف تبلغ ذروتها خلال أسابيع ، ومصر مشغولة مستغرقة في مطاردة نيران متفرقة لا تعالج صميم مشاكلها ، ولا تفتح طريقا لحلها ، وأسوأ من ذلك لا يبدو لي أننا في مصر واعون بما يجري ، ولا مهتمون به ، رغم أنه إذا نجح في مقصوده ، واستولى على الثورة في سوريا فقد استولى على سوريا ذاتها " .
ينتقل هيكل بعد هذا للتذكير بالثورة السورية على الخلافة العثمانية ، في مطلع القرن الماضي ، ثم تسليم قيادتها إلى الشريف حسين بن علي شريف مكة ، الذي كان قد تحالف مع بريطانيا ، فضياع تلك الثورة . ويعرج على ليبيا ومقارنات بين كتاب أعمدة الحكمة السبعة للكولونيل لورنس ، الذي عرف بلورنس العرب ، وما جرى في ليبيا ، وشبيه لورنس هناك ، وهو برنارد هنري ليفي ، وكتابه " الحرب دون أن نحبها "، الذي يزعم فيه ، أي ليفي ، بأنه هو من خطط لمشاركة الناتو في حرب ليبيا . الغريب ، وقد قرأت مقاطع مطولة من كتاب ليفي هذا ، ووجدته لا يستحق أي اهتمام ، لوضوح الكذب فيه ، وانتهاز صاحبه لفرصة كسب وشهره ، أن يقف هيكل عنده ، وأن يوحي للقارئ وكأن تكرارا للزمن وللحدث قد وقع ، وأن سذاجة الشريف حسين تتكرر أيضا في أشخاص قيادات الربيع العربي .
ما علينا كما يقال ، ونعود لهيكل وسوريا . قال : " والخلاصة أن هناك حالة ثورة في سوريا ، لكن ما حولها مثير للقلق . معبأ بالمخاطر . مزعج إلى أبعد حد " . ويتابع ، بعد إعادة تذكير بدور لورنس في الثورة العربية الكبرى ، كما تعرضها كتب التاريخ ، قائلا : " وأعترف أنني أستطيع أن أفهم موقف حلف الأطلنطي ، وأستطيع أن أفهم موقف أعضاء مجلس الأمن ، ومن وافقوا على القرار المقدم له ، ومن اعترضوا عليه ، ولكنني لا أستطيع أن أفهم موقف مجلس التعاون الخليجي مثلا ، ولا بعض المجالس العربية غيره ."
وينتقل هيكل إلى الفيتو الروسي الصيني ليقول : " والحقيقة أنه يجب أن نضع "الفيتو " الروسي ، و" الفيتو " الصيني في إطاره ومعناه . وإذا فعلنا فإن علينا جميعا أن نراجع تقرير الرئيس " اوباما "عن استراتيجية أمريكا الجديدة في هذا القرن ، وسوف نجد أن هذه الاستراتيجية تتجه إلى الشرق ، أي إلى المحيط الهادي قرب الصين مع احتواء روسيا . ولكي يتحقق ذلك بأمان فإن منطقة الشرق الأوسط ، التي كانت منطقة صراع الحرب الباردة ، لابد أن تتم تصفية باقي مشاكلها بسرعة ، لأنها على خلفية المسرح الأسيوي الجديد ، ومخاطره الطالعة ، خصوصا من الصين " . ويتابع هيكل رسم صورة أوسع للمشهد ويقول : " وكذلك فإن الهدف المباشر المقصود في المنطقة الآن هو إيران . ضرب إيران وإخلاء الفضاء السياسي والاستراتيجي في المنطقة لسيطرة القوة الإسرائيلية دون منازع ، إلى جانب تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية تصفية كاملة . وعند إجراء حساب حقيقي فقد أقول : إن هذا الفيتو ليس من أجلنا ، ولكنه أيضا ليس ضدنا ، بل إنه ليس ضد الثورة في سوريا ، إذا كانت الثورة في سوريا قادرة مستغنية بقوى شعبها ، لا تكرر مشاهد التاريخ ، ولا تحتاج إلى الشريف حسين الهاشمي ، والكولونيل لورنس والماريشال اللنبي ، ولا تنتظر أن تقرأ " أعمدة الحكمة السبعة " مرة أخرى ، أو تطالع طبعة أخرى من " الحرب دون أن نحبها " بقلم ليفي آخر ، لا تعرف بعد من هو " .
وفي مصر ، كما يعرف الجميع ، توالى ظهور مرشحي الرئاسة المحتملين في برامج الفضائيات ، وسؤالهم عن سوريا وموقفهم من أحداثها . لفت نظري مقابلة مع حمدين صباحي ، وهو مرشح محسوب على القوى القومية ، بعد نشر مقابلة هيكل ببضعة أيام ، أنه كرر ، كما هو حال باقي المرشحين ، ذات الحيرة التي عرضها هيكل . ومن جرب الحوار مع القوى المتحفظة على الثورة ، التيارين القومي واليساري الأممي ، يلاحظ ، وإن اختلفت العبارات ، توافقا ، وحتى تطابقا مع ما طرحه هيكل ، وبالمناسبة لم يكن ما اقتبسناه طرحه الأول أو الأوحد .
محاولة تلخيص :
وإذن تعالوا لنلخص القضايا التي طرحها ويطرحها المتحفظون على الثورة السورية ، والمسكونون بهاجس المؤامرة .
1. رغم تركيز هيكل على فكرة المؤامرة ، إلا أنه ، بعكس الآخرين ، لا يقول بنظرية تقسيم سوريا .
2. هناك اتفاق على سوء النظام السوري ، وارتكابه للأخطاء والخطايا ، وعلى تجاوزه لعمره الافتراضي ، وبما يعني توجب رحيله ، رغم عدم قولها صراحة . وهناك اتفاق على أن مصلحة الشعب السوري تكمن في رحيل هذا النظام ، وليس في إصلاحه عبر ترقيعات دستورية هنا وهناك .
3. هناك اتفاق على تشخيص ما يجري في سوريا بأنه حالة ثورية ، وأن الأحداث وقائع ثورة حقيقية .
4. هناك روية واضحة لواقع أطراف الثورة . قوى شعبية متنوعة ، منحدرة من أصول اجتماعية مختلفة . وقوى سياسية معبرة عنها ، وهي وإن اتفقت على هدف رحيل النظام ، لا يبدو أنها متفقة ، ولا تعرض رؤية واضحة متفق عليها ، لما بعده . وهي لذلك لم تنجح حتى الآن في توحيد جهودها ومطالبها ، والاتفاق على قيادة موحدة ، تشكل عنوانا للثورة ، وجهة مرجعية لأصدقائها ومسانديها .
5. هناك قلق من حال قوى الثورة هذا ، ومن وضع المواجهة على الأرض ، ومن احتمال استغلال طلب العون الخارجي ، وتحوله إلى تدخل مباشر في الشأن السوري ، بما ينسف الثورة وأهدافها ، ويلحق سوريا بركب التبعية لأعداء قضيتها الخاصة ، والقضايا العربية عامة .
6. هناك اتفاق على رصد المخططات الأمريكية ، والإسرائيلية بالتبعية ، واحتمالات استغلال حالة الثورة لوضع هذه المخططات موضع التنفيذ .
7. أخيرا هناك اهتمام بالدور المنوط بدول مجلس التعاون الخليجي ، ورأس حربتها قطر ، في هذا الأمر كله .
من أين تبدأ :
اسمحوا لي ، في الإجابة على هذا السؤال ، أن أعتمد المنهج الذي اعتدته ، على مدار حياتي السياسية ، لتحليل القضايا السالفة ، أن أبدأ من الدائرة الأوسع والأشمل ، أي الوضع الدولي والاستراتيجية الكونية الأمريكية ، إلى الدائرة الأضيق ، أي الأقل اتساعا وشمولية ، أي الإقليمية ، وأخيرا الدائرة الصغرى ، وهي الوطنية السورية .
أمريكا ومخططها الكوني :
لا أظن أن أحدا ، يتعامل مع السياسة ، يمكنه أن يتجاهل ، أو يقفز عن ، مخطط أمريكا الكوني بصفة عامة ، ومخططاتها تجاه كل منطقة ، إقليم أو حتى دولة بعينها ، بصفة خاصة . والمرء ليس بحاجة لقراءة أوباما ليتعرف على الاستراتيجيات الأمريكية تجاه منطقتنا أو غيرها . فالقادة الأمريكيون ، ومنذ الانتصار في الحرب الباردة ، وتفكك الاتحاد السوفييتي وزوال المنظومة الاشتراكية ، لم يألوا جهدا في عرض وشرح استراتيجياتهم ، تجاه العالم ككل ، وتجاه كل منطقة منه على حدة . وباختصار ترى أمريكا ، بتربعها على عرش العالم ، كالقوة العظمى الوحيدة ، أن تعمل على ضمان هذا الموقع لعقود طويلة قادمة . وهي لذلك تعمل على كبح تقدم قوى أخرى للمنافسة على هذا العرش ، من خلال ضمان تقوية ، دعم ، بسط فبقاء ، سيطرة قواها الاقتصادية والعسكرية على العالم . وبديهي في هذه الحال أن تعمل على تصفية بؤر ممانعة أو معارضة نفوذها من جهة ، ومحاصرة فكبح قوى منافسة كالصين وروسيا على وجه الخصوص من جهة أخرى. ولا أظن أن محللا ، يتمتع بقدر من المعرفة السياسية ، يخرج من حسابه مخطط أمريكا تجاه منطقتنا ، وتجاه ما تبقى فيه من بؤر الممانعة ، وهي سوريا وإيران على وجه التحديد ، وهو يحاول طرح رؤية لتطور مسار كل ثورة عربية على حدة ، ولكلها مجتمعة .
في هذا المقام أذكر أننا في قيادة الحزب ، الشعب الفلسطيني ، وبعد زلزال الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية ، توقفنا نستطلع خطوات حلف أمريكا المنتصر ، تجاه بقية أطراف الحلف المهزوم ، وفي مقدمتها الدول المناوئة للإمبريالية ، ومنها كذلك الأحزاب الشيوعية ، وقوى ، فصائل وحركات التحرر الوطني ، في العالم عموما ، وفي منطقتنا على وجه الخصوص . وخلصنا إلى قناعة بأن الحلف المنتصر سوف يواصل عمليات تطهير البؤر المتبقية ، وبينها، بالإضافة للدول المحسوبة على الممانعة ، هذه الأحزاب والحركات التي كانت تصنف في عداد المعادية . وعن الأخيرة بدا لنا واضحا أنه سيكون هناك تغيير في أساليب المواجهة . مثلا لم تعد أمريكا بحاجة للدفع على الرأس للحكومات الموالية ، كما فعلت مع الأردن مثلا ، في حملات قمع الشيوعية . وربما أن من مصلحة أمريكا الإبقاء على يسار في دول المعارضة السابقة ، لكن مع ضمان بقائه في حالة من الضعف الشديد . والمتابع يرى كيف لجأ حلف أمريكا إلى استخدام جملة من الأساليب والوسائل والأدوات ، حققت لها نجاحات ملموسة في هذا الشأن ، وفي أكثر من بلد عربي على سبيل المثال .
شكل الهجوم على الماركسية ، على النواقص التي علقت بها ، والجهود التي حالت دون تطورها ، ومن ثم القول بعدم علميتها ، وثبوت عدم قدرتها على التصدي ، وتقديم الحلول ، للقضايا والمشاكل الناشئة ، أقوى أسلحة الحلف الأمريكي في مواجهة بقايا قوى الحلف المهزوم . وقد حصل تراجع ملموس في الثقة بالماركسية ، فتراجع ملموس من القوى ، الأحزاب والحركات التي كانت تتبناها . وكنا في حزب الشعب من بين القوى التي حدث لها هذا الأمر . إذ استبدلنا الماركسية في برنامجنا الجديد ، بما وصفناه بالمنهج العلمي الجدلي ، وبمنجزات الفكر التقدمي الإنساني ، وبضمنه العربي والإسلامي . وكما قلت في كتابي " شهادات " ، الذي كتبته بعد تقاعدي ، كنوع من كشف الحساب للرفاق والأصدقاء ، كان ذلك نوعا من هروب إلى أمام ، ترك الحزب ، كما حدث لباقي فصائل اليسار الفلسطيني ، وغيرهم في المنطقة والعالم ، بدون قاعدة فكرية ونظرية واضحة ، الأمر الذي سهل على تنظيمات الفكر الديني اختراق جبهات اليسار وإضعافها بالضرورة . لا يعني هذا أن التمسك بالماركسية ، مرجعية فكرية ، ودليل منهجي وعملي ، كما كانت ، كان هو الدواء للداء الذي حل ، ولكن التراجع عنها إلى الفراغ كان قاتلا . التراجع ، وبدون اختيار بديل ، عنى أن هذه القوى بقيت بدون نظرية ثورية ، وبدون مرجعية فكرية ، وبدون منهج عملي ونظري ، الأمر انعكس ضعفا ، سواء في صد الحملات عليها ، أو في مواصلة طريقها الكفاحي ، وحيث جزء كبير منه كان صراعا فكريا وعقائديا .
تلك كانت واحدة . والثانية تمثلت في الهجوم على الفكر القومي ، وحيث كان النجاح فيها أسهل من الأولى . والثالثة تمثلت في انتشار فكر العولمة وسيادة أنماطه الاستهلاكية . نتج عنها مثلا أن الأحزاب لم تعد قادرة على تمويل نشاطاتها استنادا لأساليبها السابقة المعروفة . صار كل نشاط يحتاج إلى تمويل يفوق الإمكانات الذاتية ، ويقتضي مد اليد للمساعدة الخارجية ، التي لها حساباتها وسياساتها وشروطها . وغدا وضع قوى اليسار ، من هذه الناحية ، قريبا من وضع المنظمات الأهلية .
والأخيرة ، ورغم أنها مكون أساسي من مكونات مدنية أي دولة ، جاءت وافدة على منطقتنا ، ولم يكن للقوى السياسية دراية كافية بطبيعة عملها ، حجوم تمويلها وحدود نشاطاتها ، قبل الانتصار الغربي الساحق في الحرب الباردة . وفقط من يعشق تجاهل الواقع وحقائقه الدامغة ، يمكن أن يجادل أن أمريكا وحلفاءها ، أصابتهم أمراض العفة ، عن استغلال منظمات العمل الأهلي ، الممولة منها ، في تحقيق مخططاتها السابقة . على كل يمكن للقارئ مراجعة كتابي " شهادات " ، الموجود على هذه الصفحة من الحوار المتمدن ، للوقوف على تفاصيل أوسع في هذا الشأن وغيره .
خلاصة القول أن أحدا ، وهو يستعرض الثورة السورية ومسارها ، لا يمكنه أن يتجاهل حقيقة استهداف سوريا ، وحزب الله بالتبعية ، لاحتوائها . وبديهي أن تكون إسرائيل وأطماعها في تصفية القضية الفلسطينية ، وضمان هيمنتها على المنطقة ، في صلب هذا المخطط . وهذه الحقيقة بالذات توجب طرح السؤال : هل على الشعب السوري ، في مقابل ذلك ، القبول بحاله كما هو عليه ، حتى لا تتوفر الفرصة لتنفيذ مخطط الاستهداف ذاك ؟ هل كان على النظام ، حفاظا على نفسه قبل وطنه ، أن يسلك هذا السلوك ، أم كان عليه لتحصين نفسه برضا شعبه ، أن يسلك سلوكا مغايرا ؟ ثم لماذا لم يستجب لمطالب شعبه ، وواجهها بالقتل وبالحديد والنار ، رغم استمرارها سلمية ، لأشهر عدة ، وهو يعلم بتربص أعدائه الخارجيين ، بعرشه قبل وطنه ؟

قطر ورأس الحربة :
وبالانتقال للدائرة الأضيق ، الإقليم ، وكما كان مع الدائرة الكونية ، لا يستطيع أي سياسي ، يحاول التعامل مع أي شأن سياسي ، لقطر من أقطار الإقليم ، أن يتجاهل ، أو أن يقفز على ، حقائق أوضاع محيطه . وفي الحال السوري ، الذي نحن بصدده ، لا يمكن غض النظر عن ، أو إغفال ، الأدوار المختلفة ، التي تنبع من اجتهاد بعض الدول العربية ، والأدوار الأخرى المكلفة بها بعض هذه الدول .
أحيانا قد ينسى بعضنا ، أو يتناسى حقائق تاريخية ، تتعلق بنشأة دول أقطارنا العربية ، وبالأدوار التي اشتقها بعضها لنفسه ، أو عُهِدت لِِ ، أو كلف بها البعض الآخر ، كضامن لبقائه . إحدى هذه الحقائق أن الوطن العربي كله ، وحتى نهاية الربع الأول من القرن الماضي ظل يخضع لسيطرة أجنبية . وأنه منذ ذلك الوقت أخذت دوله في الظهور واحدة بعد أخرى ، وليتكامل الخروج من تحت السيطرة الأجنبية مع مطلع ستينات القرن الماضي . وترك انحسار الاستعمار بصماته على الدول الناشئة ، وحيث حددت الطريقة التي تم بها هذا الانحسار ، العلاقة المستقبلية بينه – الاستعمار - وبين الدولة الناشئة .
ومع بداية النصف الثاني من القرن الماضي ، وبتجاوز تفاصيل وعوامل هامة كثيرة ، يمكن القول أن تيارين رئيسيين ومتعارضين ، بين الدول العربية التي انضوت تحت لواء الجامعة العربية ، تسيدا المشهد العربي . الأول رأى في المواجهة مع الاستعمار طريق التصدي للأطماع الإسرائيلية من جهة ، وطريقا للوحدة العربية ولتصفية عوائق الماضي ، والانضمام لركب الحضارة العالمية من جهة أخرى . تسلمت مصر عبد الناصر زمام قيادة هذا التيار ، وحازت قيادة عبد الناصر على رضا أعضائه . ورأى التيار الثاني في توثيق الروابط مع الاستعمار ، أمريكا بشكل خاص ، وتعميق الارتباط به ، بما في ذلك إسرائيل ، طريقا للحفاظ على بقائها ، ومواصلة الانتفاع بثرواتها . وتنافست كل من السعودية والمغرب على زعامته . ومثل سابقتها سايرت توصيفات دول هذا التيار ، التغيرات المتلاحقة على العالم والمنطقة ، من دول رجعية وعميلة ، إلى محافظة ، فبترولية غنية بدون توصيف الآن .
وبرحيل عبد الناصر ، ونقل السادات مصر إلى التيار الثاني ، تطلعت أكثر من دولة عربية ، العراق ، سوريا ، ليبيا والجزائر ، إلى خلافة مصر ودورها . وتراجع توصيف دول هذا التيار ، بمرور الزمن ، وتجاوبا مع المتغيرات التي عصفت بالعالم ، ومن مواقف المواجهة مع إسرائيل ، من التقدمية الثورية المعادية ، أو المناهضة ، للإمبريالية والاستعمار ، إلى المقاومة والمعارضة فالممانعة . وبمضي الوقت بدا أن المزاحمة على قيادة هذا التيار ، الذي واصل التراجع ، قد انتهت ، أو ضعفت حتى فقدان أي تأثير خارج نطاق الدولة . ودانت الزعامة للسعودية على التيار الثاني الذي اتسع ليشمل أكثرية الدول العربية . وظلت الجامعة العربية ، دورها ، اجتماعاتها ونشاطاتها ، مرآة عاكسة لهذه الأوضاع والتطورات .
كان أمرا بديهيا أن تستغل القوى العربية المحافظة ، الفرصة التي هيأتها الثورات العربية ، لإكمال سيطرة نهج هذا التيار على العالم العربي . وفي الحقيقة كنت قد خططت للوقوف على هذا الدور العربي منفردا ، بعد استكمال حلقات قراءة عوامل الفعل الداخلي على الثورة المصرية خاصة ، والثورات العربية عامة . وكان بديهيا أن تلعب السعودية ، وقد انفردت بالزعامة العربية ، هذا الدور ، في محاولة حرف الثورات العربية عن مسارها ، وتحقيق قيام نظم بديلة ، تختار الاصطفاف تحت الزعامة السعودية . لكن السعودية بدت مترددة في استلام زمام المبادرة ، لأكثر من سبب ، وبما بدا كفراغ مؤقت في قيادة المرحلة الراهنة .
أول وأهم هذه الأسباب أن الثورات ترفع شعارات الديموقراطية والحريات والحقوق والعدالة ...الخ ، وهو ما يتعارض مع فكر ورؤى ومناهج القيادة السعودية . والمساندة السعودية المكشوفة للثورات ، كطريق للوصول إلى أهدافها اللاحقة ، تعني نوعا من الموافقة العلنية ، التي قد تفسرها شعوبها بتبني لهذه الشعارات ، فانعكاس بمطالبة شعوب بلدان التعاون الخليجي بتطبيقها ، كليا أو جزئيا ، وهو خطر لا تستطيع السعودية التعايش معه ، فالمجازفة بوقوعه . إذن فقد احتاجت السعودية لمن يستعد لالتقاط حبات الكستنة من النار كما يقال .
وتصادف أن جاء دور قطر في ترؤس دورة الجامعة العربية . وكان ملاحظا أن قطر ، ومنذ نشوء الفراغ في زعامة الدول العربية ، تتطلع لدور يتخطى حدودها وإمكانياتها ، عربي في المكان الأول ، ودولي إن أمكن . تتحفز للإمساك باللحظة منذ زمن . والمراقب لا يمكنه إغفال ذلك ، بسعيها فنجاحها ، في استضافة دورة للألعاب الأوليمبية ، متغلبة في المنافسة على دول عظمى ، وأخرى تفوقها في القدرات بمسافات طويلة .
وفي واقع الحال ، وفي ظل الفراغ في الزعامة العربية ، فإن قطر الصغيرة تملك مميزات ، من الخطأ تجاهلها . تدين قطر ، كإحدى دول مجلس التعاون الخليجي ، وهو الحليف الأساسي لأمريكا ، فإسرائيل بالتبعية ، بزعامة السعودية ، وبلا أدنى جدال . ولأنها كذلك هي مستعدة لالتقاط الكستنة التي لا تستطيع السعودية التقاطها . فهي محمية بقواعد عسكرية أمريكية على أراضيها ، هي الأكبر والأقدر في المنطقة كلها . وهي تملك ثروة ، وعائدات لها ، هائلة ، تجعل معدل دخل الفرد فيها ، الأعلى في العالم ، وبأكثر من ضعف معدل دخل الأمريكي . وهي توزع من هذا الدخل على شعبها ، بما يكفل رضاه ، أو هكذا تتصور، لزمن طويل ، وبما يشكل نوعا من الحصانة ، أو المناعة ، ضد هبوب رياح الثورات العربية ، وشعاراتها ومطالبها ، عليه . وفوق ذلك ، تملك قطر فائضا ماليا ، يمكنها من كسب تعاطف ، فتعاون مع تطلعاتها . ولتعزيز تطلعاتها تلك ، ولامتلاكها أداة فعل خارجي ، تعوض النقص الواضح في تعداد شعبها ، وقدرتها العسكرية تبعا لذلك ، سبقت الجميع بإنشاء جهاز إعلامي ، متمثلا في قنوات الجزيرة ، أثبت تفوقه ، وقدرته على حمل الأهداف القطرية إلى الساحات العربية ، فأبعد منها إلى العالمية ، مهيأة المجال للدور الذي تتوق الحكومة القطرية لأدائه .
هكذا ، وبالميزات التي تملكها ، خصوصا رئاستها لدورة الجامعة العربية ، اهتبلت قطر الفرصة التي أتاحتها ثورات الربيع العربي ، لتتقدم لها ، في ثوب الدولة المتبنية لمطالبها ، والمساندة لشعوبها ، في مواجهة عسف نظمها . ولم تجد قطر غضاضة في التوحد مع حلف الناتو ، في تقديمه العون العسكري لليبيا ، ثم في منافسته على اقتسام الغنائم ، ومنها الفوز بمشاريع إعادة إعمار ليبيا . والأهم لم تواجه ، ولو بنقد على دورها هذا من جانب الدول العربية ، أو بإظهار عدم رضا من السعودية ، فيما بدا من تعد على زعامتها . ويتكرر هذا الدور مع سوريا الآن ، وليصرخ معتنقو ، ومروجو ، فكر المؤامرة ، بالإشارة لدور قطر كبرهان دامغ عليها .
والمفارقة التي لا يمكن أن تغيب عن نظر سياسي متابع لشأن الثورات العربية ، تتمثل في أن نظم الدول ، التي تدحرج موقفها من معاداة إلى مقاومة ومواجهة ، فممانعة الاستعمار ، تعرف عن يقين ، أن الاستعمار ومنظومته في المنطقة ، التي تتطلع قطر لدور فاعل في زعامتها ، تعمل دون كلل ، على إخراجها من طور الممانعة ، إلى اللحاق بدول التبعية . وهي تعرف عن يقين أن حصانة مواقفها فموقعها ، لا بد مستمدة من مساندة شعوبها لها . كما تعرف عن يقين ، بأن ضمان هذه المساندة يتأتى عبر توفير علاقة ثقة بها ، تقوم على توفير أسس العدل والحرية والكرامة ، وصيانة الحقوق ، ومحو كل ما يمكن أن ينغص هذه العلاقة . لكنها بدل ذلك ، أو ربما استنادا لرؤية تحقق ذلك ، سلكت سلوكا معاكسا ، يوفر لها ثباتا على كرسي الحكم ، من خلال قمع باطش بكل ما تصبو إليه شعوبها من آمال وتطلعات . وهكذا بدل أن تقف هي في موقف الهجوم على النظم العميلة ، أو الرجعية ، أو المحافظة ، أو البترولية ، أوسمها ما شئت ، وقفت تتلقى الضربات من شعوبها أولا ، ومن هذه النظم البترولية ، مخلب أمريكا وإسرائيل ثانيا . والسؤال : هل تركت هذه النظم ، الموصوفة الآن بنظم الممانعة ، خيارا آخر لشعوبها ؟ وهل على هذه الشعوب أن تتخلى عن آمالها وطموحاتها ، بسبب أجندات قطر وأخواتها ؟
الدائرة الصغرى :
وبعد هذا التجوال نصل إلى الدائرة الصغرى ، أي السورية الوطنية . وفيها نلاحظ أن كل المهتمين بالشأن السوري ، مؤيدي النظام ، قبل المحايدين ومعارضيه ، يتفقون على تجاوزه لكل الحدود . هو نظام ممانع لمخططات الهيمنة الأمريكية نعم . يشكل ، هو وحلفاؤه ، نوعا من سد في وجه مخططات التوسع والغطرسة الإسرائيلية ، نعم . لكنه في المقابل نظام قمعي ، لا يتقن غير لغة العنف في التعامل مع شعبه . نظام لا يقمع الحريات فقط ، ولكنه يرتكب كل يوم جرائم لا حد لها ولا حصر . يرتكب سلاسل من الأخطاء والخطايا ، حسب تعابير هيكل . نظام دشن مرحلة نقل الجمهوريات العربية إلى ممالك ، يتوارث حكمها الأبناء من الآباء . نظام لم يترك لشعبه خيارا غير الخروج للمطالبة بإعادة النظام جمهوريا كما كان أولا ، وبشم بعض نسائم الحريات والديموقراطية ثانيا . بدأت المطالب إصلاحية ، وبوسائل سلمية . لكن النظام ، واتساقا مع طبيعته رد بالعنف ، وسقط الشهداء نتيجة هذا العنف ، ليرتفع سقف المطالب ، كما حدث في الثورات العربية ، وليرتفع تبعا لذلك سقف العنف . وبعد شهور من دوران الدائرة ، حدث التطور الذي تمثل بمحاولة مجابهة العنف بالعنف . وهكذا انفتح الأفق ، وتوفرت الفرص ، أمام أصحاب الدائرتين ، الكونية والإقليمية ، للتدخل ، فالنفاذ إلى الداخل السوري ، ومن ثم توجيه الأحداث فالنتائج ، لصالح مخططاتهما ، سالفة الذكر .
لكن ورغم اعتراف كل الأطراف بأن النظام سيء ، وأنه مرفوض من شعبه ، وأنه تجاوز عمره الافتراضي منذ زمن ، أو بكلمات هيكل ، طال بأكثر مما هو صحي ، ومما هو أخلاقي ، وأن الثورة في سوريا ثورة حقيقية ، لكن منتقديه لا يتبنون مطلب الشعب برحيله . كما ، وهم يحملون قوى الثورة المسؤولية عن مخاطر التدخل الخارجي ، لا يشركونه في هذه المسؤولية ، رغم أنه صاحبها الفعلي ، وحيث يملك في يديه وسائل دحرها . وأيضا وهم يسوقون له الأوصاف السابقة يثمنون له استجابته الجزئية لمطالب الإصلاح ، رغم معرفتهم أنها لا تلتقي مع المطالب الشعبية ، ولا تحقق ولو جزءا يسيرا منها . وأكثر يطالبون الشعب ، بدعوى مواجهة الأخطار الخارجية ، بالرضا بهذه الإصلاحات الهامشية ، ومقايضتها بنهر الدم الذي جرى ، والذي سيجري .
أكثر من ذلك ، وهم يعرفون أن خطر التدخل الخارجي ، وبالاستفادة من التجربة الليبية ، لا تتوقف نتائجه عند حدود ضم سوريا إلى الحضن الأمريكي ، بل ستتجاوزه إلى القضاء التام على العائلة المالكة ، وإلى تدمير وشطب الجيش ، وتفكيك الحزب الحاكم ، وحيث مصلحة نظام الحكم المباشرة ألا يحدث ذلك ، وهو حادث بكل تأكيد إن وقع ذلك التدخل . والنظام يعرف أن لا الفيتو الروسي ، ولا الفيتو الصيني ، سيجنبه مصيرا كهذا . وبديهي أن مواصلته العناد ، وارتفاع وتائر القتل اليومي ، كما بات العالم يشاهده ، سيدفع التطورات دفعا إلى هذا الطريق والمصير .
الشعب في المواجهة :
هناك إقرار ، كما سبق وأشرنا ، وبكلمات هيكل ، أن الثورة في سوريا ، ثورة شعبية حقيقية . ولما هي كذلك لا أحد ينكر أن مطالبها مشروعة . ومطالبتها بخلع النظام ، بعد كل هذا الدم البرئ الذي سال ، من أجساد أطفال ، شباب ، نساء وشيوخ ، غير مغالية . ويعترفون بأن الشعب محق في قناعته بأن ممانعة أمريكا وإسرائيل ، ورفض مخططاتهما للضم والإخضاع للسيطرة ، لا تستوجب بالضرورة تحويل الجمهورية إلى ملكية ، ولا ضمان ثبوت النظام برفض الديموقراطية ومصادرة وقمع الحريات . وعلى العكس يمكن فعل كل ذلك بالتحول إلى نظام ديموقراطي وبإطلاق الحريات ، وإحقاق المساواة ، وإقرار المواطنة ، لفئات وطوائف الشعب كافة .
إذن يعترف ، حتى المتشككون بالثورة بكل ذلك . ولكنهم في المقابل يطرحون سلسلة القضايا المعبرة عن مخاوفهم ، والدافعة لتعزيز شكوكهم . منها مثلا أن قوى الثورة غير متجانسة ، لأنها تتكون من فئات وشرائح مجتمعية شتى ، بأهداف ومطالب ، يقف الاتفاق بينها عند حدود إسقاط النظام ، ولا يتجاوزه إلى ما هو أبعد من ذلك . وبسبب وضعها هذا ظهر لها طيف من القيادات ، عجز حتى الآن ، رغم محاولات عديدة ومتكررة ، عن الخروج بقيادة موحدة ، تشكل عنوانا يتمكن الغير من التوجه إليه ، والتخاطب معه . وبسبب كل ذلك ليس للثورة برنامج واضح للمستقبل ، أي لبناء البلد بعد إسقاط النظام . والطرف الأبرز بين القيادات المختلفة ، هو ذلك الموجود في الخارج ، والذي ولد من رحم مؤتمرات انعقدت في تركيا ، وما أدراك ما تركيا وأطماعها في سوريا ، ودورها في خدمة الحلف التي تشكل جزءا منه ، وهو حلف الأطلنطي ، والآخر الاستراتيجي مع إسرائيل . وهذا الأخير ، أي المجلس الوطني السوري ، تصدر عن مسؤوليه ، وفي مقدمتهم رئيسه برهان غليون ، تصريحات لا تبعث على الطمأنينة . منها مثلا إعلان النية عن قطع العلاقات مع أطراف حلف سوريا الحالي ، أي إيران وحزب الله وغيره في لبنان . ويذهب بعض المحللين إلى حد الاستنتاج بأن هكذا بدايات ، من هكذا قيادة ، تشير إلى النهايات المبتغاة ، أي استبدال الاستقلال السوري القائم بالسيطرة الأمريكية ، التي ستوصل إلى صلح مع إسرائيل ، فنهاية للمقاومة في لبنان ، ودفن في أعماق أعماق التراب للقضية الفلسطينية . ومرة أخرى يجد القارئ نفسه في مواجهة جملة من القضايا ، التي تحتاج إلى نقاش .
المقارنات العرجاء :
في حلقة سابقة ، وتحت عنوان " الانكفاء على الذات " ، أشرت إلى أن إحدى السلبيات ، التي لحقت بعمل القائمين على الثورات العربية ، وأولئك الذين تناولوها بالتحليل ، تمثلت في إهمالهم لدروس الثورات ، التي وقعت في قارات العلم كلها تقريبا ، ومنذ بداية الربع الأخير من القرن الماضي . وأشرت إلى أن هذه الثورات ، والثورات العربية ، اختلفت جذريا عن الثورتين : البرجوازية الفرنسية ، والبلشفية الروسية ، اللتين أطاحتا بتركيبة اقتصادية اجتماعية كاملة ، وأحلتا محلهما تركيبة جديدة . البرجوازية الرأسمالية ، بدل الإقطاع في الأولى ، وتحالف الطبقة العاملة مع فقراء الفلاحين محل الرأسمالية والإقطاع وكبار ملاكي الأرض في الثانية . وهي أيضا مختلفة عن الثورة الأمريكية التي أنهت نظام العبودية ، وعن الثورتين الصينية والكوبية ، اللتين جاءتا نسختين مجددتين من الثورة البلشفية . وأضفت : رغم أن كل مقارنة لا بد أن تكون عرجاء ، لاختلافات كثيرة بين الثورات ، إلا أنها تكون كسيحة مع الثورتين الفرنسية والبلشفية . لكن معارضي الثورة السورية ، من طرف اليسار بالأساس ، واظبوا على مقارنتها بالثورة البلشفية . وأخذوا على السورية ، ما سبق وأشرنا إليه ، من عدم تجانس قواها ، وتشتت قياداتها ، وعدم وجود برنامج بناء لما بعد النصر ، وأخيرا لجوء أطراف من قياداتها لطلب العون الخارجي ، بما فيه التدخل العسكري ، وبما يثلم وطنية الثورة ، وحيث عدم تلقي المساعدة الخارجية ، قدم البرهان على وطنية الثورة البلشفية . وهذا ما يتوجب أن تكون عليه الثورة السورية .
في كل مقارنة ، وبغرض التخفيف من عرجها ، أو كساحها ، يتوجب الالتزام بالحقائق ، وعدم اختزالها ، أو إغفالها . وفي المقارنات المشار بها ، بدا أن المقارنين ملتصقون بنموذج الثورات التي فجرتها قيادات سياسية ، أحزاب أو حركات ثورية ، مخضرمة ، وذات تجربة سياسية عملية واسعة . ولأن الثورات العربية ليست كذلك ، بدا الميل للخصم من حسابها ومن البداية . من الحقائق أن كل الثورات ، وبمن فيها الثورة البلشفية ، احتاجت للعون الخارجي . ولأن الأخيرة بدت كمقدمة عالمية للثورة على الرأسمالية ، كان طبيعيا أن تتكتل ضدها نظم الرأسمالية ، التي كانت تقود العالم آنذاك . لكنها ، على الرغم من ذلك ، استقبلت متطوعين من كل أنحاء العالم ، كما تلقت عونا ماديا وغذائيا من عمال معظم بلدان أوروبا ومن كندا والولايات المتحدة . وعليه فلا يكون طلب العون الخارجي ، في عالم غدا الآن بمثابة قرية صغيرة ، بدعة ليبية أو سورية ، ولا عملا سلبيا يخصم من وطنية القائمين عليه .
وحقائق الثورات تقول أيضا ، أن قواها تكون بالعادة متنوعة . وأنها تتفق ، بالعادة ، على الأهداف الرئيسية ، وربما تختزل في هدف واحد ، وتختلف فيما عداها . وأنه في العادة يسودها عدم تجانس فكري ، لاختلاف عقائدها ، وتنوع منابعها ، وتعدد الشرائح والفئات الاجتماعية التي انحدرت منها. والمقارن المدقق يجد أن الثورة السورية لا تشكل ، في هذا الجانب حالة خاصة . ولمحبي المقارنة مع الثورة البلشفية ، نذكرهم بأن قواها الأولى تشكلت من طيف من الأحزاب اليسارية ، سادتها حالات من التنافس والاختلاف قبلها . وأثناء الثورة ، وبعد قطع مراحل منها ، تحول الخلاف إلى خروج على الثورة ، ، بما في ذلك محولة اغتيال قائدها ، لينين ، فتصفيات انتهت بنظرية الحزب الواحد ، التي كانت أول مسمار دقه الثوار أنفسهم في جسد الثورة .
ولقد شهدت الثورات العربية ظاهرة ، شاركتها فيها ثورات عديدة ، ومنها الثورة البلشفية . تمثلت هذه الظاهرة في أن نظم الحكم العربية ، وضعت المثقفين ، الفنانين ، الإعلاميين والسياسيين ، من معارضيها الذين لم تحقق نجاحا في تدجينهم ، أمام خيارين لا ثالث لهما : إما التعفن في سجون النظام ، وإما الاغتراب ، وطلب اللجوء في بلد آخر . وفي خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي ، كانت بلدان الاشتراكية الحضن الذي ضم هؤلاء بمختلف أطيافهم . لكن هذا الحضن انتهى مع تفكك المنظومة الاشتراكية ، فكان الغرب هو الملجأ الوحيد المتبقي . وليتذكر القارئ أن مصر لعبت هذا الدور منذ نهاية القرن التاسع عشر ، وحتى نهاية عهد عبد الناصر. والقارئ لا يحتاج إلى تذكير بأن الغربة ، حين تطول ، تترك بصماتها على المغترب ، وإلى حد الكفر بمبادئه ، فالتحول الكامل أحيانا عن أفكاره . والأمر الطبيعي أن يجد المغترب ، في ثورة وطنه ، الفرصة التي طالما انتظرها . ولأن بلدان الغربة واسعة ، وإمكانيات اللقاء محدودة ، يتعذر حدوث تفاهم تام بين هؤلاء المغتربين ، الذين أيضا قد تتعدد ولاءاتهم . كما يكون بديهيا أن تغلب عليهم روح الاستعجال من جهة ، وأن يروا أن من حقهم ترؤس مجالس قيادة الثورة من جهة أخرى ، وبما ينعكس عليها من تضارب في الرؤى من جهة ثالثة . ولأن سلاح التخوين ، غدا منذ عقود ، لازمة عربية ، يتم إشهارها بمجرد الاختلاف في وجهات النظر ، يكون إلصاق هكذا تهمة بهذه القيادات ، كلها أو بعضها ، أمرا ليس فقط غير مستبعد ، وإنما طبيعيا أيضا .
وما دامت المقارنة معقودة مع الثورة البلشفية ، فلعل القارئ يتذكر أن أغلب قادتها ، ولينين منهم ، اضطروا إلى الهروب ، فاللجوء إلى فرنسا ، سويسرا وغيرها . وحين قامت الثورة ، ورجع لينين من مخبأه السري ، اتهمه بعض أركان الحكومة ، بأنه كان لاجئا في ألمانيا ، كما اتهمه بالعمالة لها .
خطر الحرب الأهلية :
في ثورات نهاية القرن الماضي ، وبداية القرن الحالي ، والتي اجتاحت قارات العالم جميعا ، كما سبق وأشرنا ، لم يتحول أي منها إلى الحرب الأهلية ، باستثناء إيران ، وقرغيزستان التي أوشكت على ذلك . والتحول إلى الحرب الأهلية ، كما تدلل خبرات وتجارب الثورات العالمية ، يأتي عن طريق تشبث النظام بكرسي الحكم من جهة ، ولجوئه إلى الدفاع عنه بقوى الجيش والأمن المسلحة ، من جهة أخرى . عنف قمع النظام للجماهير الثائرة ، ظل يدفع قيادات هذه الجماهير للبحث عن وسيلة تحفظ لها دماءها . وظلت تضطر في نهاية المطاف إلى خوض المواجهة ، والرد على القوة بالقوة ، مستهدفة تحطيم قوى النظام ، لإجباره على النزول عن العرش . ذلك ما حدث مع الثورتين الفرنسية والبلشفية ، ثم الصينية والكوبية ، وقبلهما الحرب الأهلية الأمريكية . وهو للأسف ما حدث في ليبيا ، ويوشك على الحدوث في سوريا .
الثورتان الفرنسية والبلشفية ، كما سبق وأشرنا ، استهدفتا قلب التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية القائمة . ولما كانت نظم دول العالم ، القائمة آنذاك من نفس نوع التشكيلة المطاح بها ، قضى المنطق ، ليس فقط أن تمتنع هذه النظم ، وتمنع ، عن الثورة أية مساعدات عسكرية أو غير عسكرية ، بل وأن تبادر للمواجهة مع الثورة ، وهكذا كان . ولما كانت الثورات التي اجتاحت العالم ، في النصف الأول ، ثم في الربع الثالث ، من القرن الماضي ، ذات طبيعة معادية للإمبريالية ، ظل الاتحاد السوفييتي ، ومن منطلق واجبه الأممي ، يسارع إلى مد هذه الثورات ، باحتياجاتها العسكرية وغير العسكرية . وظل الغرب ومشايعوه يبادرون لمواجهتها ، كما وينعتونها بالعمالة للشيوعية .
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ، امتناع الصين عن تأدية دورها الأممي ، فقدت الثورات سندها . وكان ما كان من تراجع دور حركات التحرر الوطني ، وذوبان بعضها . وكما أشرت في بداية هذه الحلقات ، جاءت ثورات نهاية القرن الماضي ، والثورات العربية ، لأهداف مختلفة ، ومن ثم بطبيعة مختلفة . لم تستهدف قلب تشكيلة اجتماعية اقتصادية ، ولم ترفع شعارات معاداة الامبريالية ، والخروج على نظامها العالمي . رفعت مطلب تطبيق الديموقراطية ، وشعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية . وبتبسيط أكثر طلبت استبدال نظام قاس ومتعفن ، بنظام حديث يلتزم بالقانون والعدالة . نظام ، كما سبق وأوضحت ، يشابه نظام أحد البلدان الأوروبية . هكذا كان طبيعيا أن يبحث عن العون ، حين يضطر له ، وتنغلق الأبواب الأخرى أمامه ، هناك ، عند الدول التي يرى في نظمها بغيته ومحط آماله . هذا ما حدث في ليبيا ، وما يوشك على الحدوث في سوريا . ونعت قيادات الثورة ، أو بعضها ، بالعمالة والخيانة ، لا يغير من الأمر شيئا .
هل هي حتمية لا فكاك منها ؟:
يستند المتشككون في الثورة ، إلى تصريحات أعضاء في مجلسها الوطني ، ومنهم رئيسه برهان غليون ، لتبرير خوفهم على موقع سوريا في حال إسقاط النظام . يقولون أن تصريحات غليون عن النية لقطع العلاقات مع كل من إيران وحزب الله ، مؤشر على نية الانتقال إلى الجانب الآخر من المتراس ، أي إلى الانتقال للتبعية الأمريكية . هذا السند ، وإن كان للمشيرين إليه كل الحق في توجسهم على مستقبل سوريا ، لكنه لا يؤدي إلى نفس النتيجة بالضرورة . إذ أن خبرات الثورات تنبئنا أن الثورة المنتصرة تجري تغييرات كبيرة على علاقاتها الخارجية ، تشمل تكوين تحالفات جديدة ، تبدأ بفك التحالفات القديمة ، وبما في ذلك قطع العلاقات مع بعض أطرافها . وبديهي أن تكون البداية قطع العلاقات مع حلفاء النظام القديم ، الذين بمساعداتهم له ، برزوا أعداء صريحين للثورة . ومن جانب آخر لا يعني هذا بالضرورة ، استبدال عدو للثورة ، بعدو لسيادة الوطن . وهناك أكثر من نموذج في العالم ، ابتعدت فيها الثورة عن عدو مباشر ، واحتفظت بنفس مسافة البعد عن العدو الآخر .
ويحاجج يساريون معارضون للثورة ، بأن مؤشرات الثورية السورية تشير إلى واحد من توجهين ، وربما الاثنين معا ، لمستقبل سوريا ما بعد النظام . الأول اعتلاء تيارات الإسلام السياسي لسدة الحكم ، كما جرى في تونس ومصر ، ويوشك على الحدوث في ليبيا ، والثاني ، يؤشر عليه الحماس الخليجي ، والقطري بشكل خاص ، لمناصرة الثورة ، ونتائج العون العسكري الغربي ، الذي تلح بعض القيادات في طلبه ، وما نراه من حماس أمريكي غربي في مساندة الثورة . ويضيفون : لا أحد يمكنه أن يصدق ، أن قطر ودول الخليج الأخرى ، مؤيدة أو منحازة للديموقراطية . ولا حاجة للبرهان على أن أمريكا ، وحلفاءها في الناتو ، لا ينتصرون للديموقراطية والحريات والحقوق ، وإنما يستغلونها وسيلة ، ويتخذونها أداة ، للتدخل في شؤون الآخرين ، لاستكمال السيطرة على البؤر التي ما زالت خارج نطاق سيطرتها الكونية .
من جهتنا لا نجادل في صحة ، أو في منطقية ، هذا الطرح ، ولا في مبررات هذه المخاوف . وقد تكون النتائج على عكس المأمول ؛ لا ديموقراطية ولا حقوق ولا مواطنة ولا ما يحزنون . لكننا نسأل : هل مثل هذه النتائج حتمية قاهرة ؟ هل هذه النتائج قدر لا فكاك منه ؟
تقول جملة من التجارب الثورية ، أبرزها تجارب أمريكا اللاتينية ، وحيث كانت بلدانها توابع لأمريكا ، أن هذه النتائج التي تثير خوفنا ليست قدرا مكتوبا ، وليست حتمية قاهرة . والعكس ، أي الخروج من قبضة التبعية الأمريكية ، احتمالية كبيرة ، وإمكانية قابلة للتحقيق . المسألة الأساس تتمثل في دور قوى اليسار في هذه الثورات . إذا أحجم ، وانحاز للنظام ، كما هو الحال الآن مع سوريا ، فإن احتمالية حدوث إحدى النتيجتين السابقتين ، أو الاثنتين معا كبيرة ، لكن ليست حتمية . والأمر كذلك إذا ظل هذا الدور صغيرا ومحدودا ، كما حدث في مصر وليبيا .
ويجادل ممثلو اليسار بأن حاله الراهن ، ضعف تنظيماته ، لا يؤهله لاحتلال أماكن بارزة في قيادة الثورة السورية ، كما كان في مصر وسوريا ، وعليه لا تكون النتائج ، المعاكسة للتوقعات السابقة ، مضمونة . ونقول أن الأمر على عكس هذا القول تماما . فالمبادرة للانضمام للثورة ظل هو الطريق الوحيد المتبقي والمضمون ، لإخراج هذه التنظيمات ، أو الأحزاب ، من حالة ضعفها الراهن . والثورة ، بما تفتح من آفاق ، تتلاءم مع خبرات اليساريين المتكدسة ، ومع إمكانيتهم القيادية والفكرية والإدارية الكبيرة ، كفيلة بخلق مناخات تهيء الجماهير للالتفاف حول هذه القوى ، ومن ثم إيصالها إلى مواقع صنع القرار ، فضمان وصول الثورة إلى تحقيق أهدافها .
ومن جديد لنا أن نسأل : هل ببقاء النظام ، يمكن أن تتوفر فرصة ، وفي الخمسين سنة القادمة ، لخروج قوى اليسار من حالتها الراهنة ، والتغلب على ضعفها ؟ وجوابي : لا توجد مثل هذه الفرصة . هذا نظام لا يؤمن ، ولا يقبل ، بالمشاركة على أساس الندية . وهو لن يسمح لأي كان أن تتطاول قامته لتساوي ، أو لتباري قامة النظام ، خصوصا إذا كانت من اليسار . وفي حقيقة الحال وفرت الثورات العربية فرصا لهذا اليسار ، لكنه ، خصوصا في سوريا ، بكل أسف أضاعها . وإذا كان له من لوم على أحد ، فلا يلومن إلا نفسه ، سواء بخصوص مستقبل سوريا واحتمالاته المعتمة ، أو بخصوص مستقبله هو . الشعب السوري حدد خياره ، واتخذ قراره ، وكل وطني مناصر للديموقراطية ، للعدالة للحرية للكرامة ، للحفاظ على إنسانية الإنسان ، لا يملك غير خيار الانحياز له والانتصار لخياره . وهو إن فعل ينتصر لقضايا الحرية والعدالة التي تحتل مساحات واسعة من برامجه ، وينتصر لنفسه قبل أن ينتصر للشعب السوري .إما إن اختار العكس فبديهي أن يحصل على العكس ، وبعدها ليصرخ ما شاء له الصراخ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكر
حاتم حسن ( 2012 / 3 / 19 - 06:32 )
خالص التقدير للاستاز حمدان علي هزا التحليل المستفيض الرائع

اخر الافلام

.. إسرائيل مستعدة لتوسيع عملياتها العسكرية في غزة إذا فشلت المف


.. واشنطن متفائلة وإسرائيل تبدي تشاؤما بشأن محادثات هدنة غزة




.. التصعيد العسكري الإسرائيلي مستمر في رفح .. فماذا ستفعل واشنط


.. الصفدي: نتنياهو يتجاهل حتى داعمه الأول.. ومواصلة اجتياح رفح




.. الجيش الأميركي: الحوثيون أطلقوا 3 مسيرات من اليمن دون خسائر