الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشاركة الأديب المترجم د. هاتف الجنَّابي في حفل التأبين الأدبي للشاعر المبدع الأب يوسف سعيد

صبري يوسف

2012 / 3 / 20
الادب والفن


مشاركة الأديب المترجم د. هاتف الجنَّابي في حفل التأبين الأدبي للشاعر المبدع الأب يوسف سعيد


أصدقاءُ الصيد في وليمة الأب يوسف سعيد

د. هاتف الجنابي

"تعالُوا يا أصدقاءَ الصيدِ لنصطادَ وجهَ الشطآنِ المتسلِّقةِ حدبةََ البحر..
إنني أنتمي قسراً إلى قبائلَ تشاكسُ كلَّ الأبجديات المنفيَّة،
إلى سلالاتٍ ساقطةٍ من خلجان الأقمارِ (السفر داخلَ المنافي البعيدة 1993).

بعضٌ من أصدقاءِ الصَّيد جاؤوك يا أبانا لا ليَرْثُوك، لأنَّك الآن أنتَ الذي ترثينا، ولا ليبكوكَ لأنك الأحقُّ منا في التخفيف عن آثامنا. قَدمِوا إليكَ، لوليمةٍ دعوْتَنا إليها، وأرجوك يا أبانا، لا تقلْ: لماذا تجشَّمتم كلّ هذا العناء وسفحتم كلَّ هذه الكلماتِ في غيابي! جاؤوك، لأنَّك حاضرٌ دائماً بيننا حتى حينما لُذْتَ إلى "سودرتالية" قبل عقود، حتى أصبحتْ هذه الأخيرةُ بالنسبة للبعض معروفة مثل حجرة البيت، صارت هي السويدَ كلها. أقول: جاؤوكَ، ليسألوك ويتحاوروا معك عن الشعر ونقاء الكلمة، عن رفع المسافة بين المحبة والكره، بين الإنسان والإنسان، بين العدم والوجود، بين عزلة الكائن البشري، أعني حقه في خصوصيته وبين انفتاحه الضروري على الآخر.
في هذه اللحظات، حيث تستريح من إدقاع الحياة التي أغنيتَها ومقالبِ المنفى الذي وصلتَ أقصاه، حيث تشربُ يداك من كأسِ السَّماءِ السَّابعة، تُذَكّرُنا بمصدر منفانا الذي يبدو وكأنه صارَ أزليا، بطفولة الطين، بمشتركاتنا في الماء والهواء والتراب، بالرافدين، والثيران المجنحة والجبالِ والأسد الرابض عند سرّةِ وادي الرافدين وشجرة آدم، وصحوةِ إبراهيمَ - حقنا لدماء الأبرياء والأحبة، من سلالة بني الغبراء. كنتَ ومازلتَ تُذكرنا بأننا قد نُذْبَحُ لشدةِ حبنا للناس وتعلُّقنا بالحياة حرَّةً، بفقرنا وغنانا، ألستَ أنت القائلَ: "يوميا دجلةُ مع سُرَادِقِه البيضاء ينامُ في سفوحي. اللهُ يُغْدِقُ على حواسّي أفراحا جديدة بينما يُضاعفُ فقري، لكنني لا أحسّهُ...طفولتي شبهُ نسورٍ محلقة في فضاءاتٍ بعيدة...". على أنني أسألك: لماذا بقيتْ هذه الفضاءاتُ بعيدة دائماً، حيثُ تقول: "وقد دَعُوكَ أميراً. تُرى متى ستعودُ وكلماتكَ مثقلةٌ بكنوز الحكمة؟ أيها الأميرُ الضائعُ. أمُّكَ تناغيك بكلماتِ أرجوزةٍ عراقية وترددُ بلوعةٍ أصيلة. آهٍ، متى سيعود الأميرُ؟"(من نص- الطفولة).

نعم، كنتَ فقيراً أسوة بالكثيرين من أبناء أرض السواد، وهذا لغزُ أهل بلادٍ تُمْطرُ ذهباً ومَنّا، لكننا لم نصلْ بعدُ إلى حلٍّ له، قد تدلنا أنتَ عليه ذاتَ يوم، أبانا المخضّبَ بالنور في هذه اللحظات. كنتَ معدما في طفولتك لكنَّك أصبحتَ من أثرياء العالم في خيالك وكلماتك العابرة للقارات. التقينا في كركوكَ مطلع السبعينات عبر ثلاث سنواتٍ متتالية، رغمَ أنني لم أرَك مطلقا. أكيد، كنتَ منشغلاً بلملمة أطراف أوراق لجوئك وترتيب مأواك وعدَّة "العشاء الأخير". كنتَ تمرّ طيفاً جميلاً رحيماً دافئاً في بعض جلساتنا: تَذَكّرَك كلٌّ من أبي أميمة- جليل القيسي، وجان دمّو الذي قال لي ذاتَ مرة مُتنَدّراً: "لا تخفْ عليه، سينقذه قلبه الكهنوتيُّ وكلماته المجنَّحة. لا تخفْ عليه، لقد نجا وتركنا نتحسّرُ على قطرةِ العرقِ"!

جليل هو مَنْ نبّهَني إلى أنَّك قد سلكْتَ طريقَ الكهنوتية، وفي الحقيقة، الشعرُ في أحد أوجهه وأعماقه كهنوتي. أنتَ حافظت على هذه العلاقة البديهية، لنقل "الأبريورية" حيث تنعدم الفوارق بين القشرة واللحاء، متنفِّسَاً به ومعه، صاعداً بالشعر نحو مدارك إلغاء الحدود الوهمية بين الأشياء والمسمَّيات، بين السواد والبياض، مقيماً هناك حيث العماء الأزلي. مثلما قادتك الكلمةُ بروحانيتها قُدْتَها أنتَ طوعاً إلى منبعها ومعينها اللذين لا ينضبان: الحرية مشفوعة بالبهاء وصفاء السريرة والخيال المتوَّجِ بالمحبة ويوم الخلاص الموعود- هذا الأمل الكبير الذي ينشده النورُ ذاتُه وجوهرُ الخليقةِ ذاتُه والمحبةُ ذاتها. أليستْ تلبيةُ دعوتك الباذخة في دماثتها وسطوة حضورها هي نسف للحدود ولِمَا يمكن أن يحدّ من الخيالِ أو يُسوّرَ المحبةََ ويقيسَها وفقَ مساطر "مُبغضي البشر"؟ من برابرة يترصدوننا في كلِّ مكان وكأنَّهم يسعون بذلك إلى إثبات الجانب الآخر الذي ننتمي إليه، أقصد ملكوت المحبَّة والتَّواصل والانفتاح على الآخر مهما كانتْ أصوله وفروعه طالما أنه يلهجُ بمحبَّة الحياة والنَّاس.
أبانا المضيءَ شعراً وشكلاً، وَصَلَنِي بسرعة البرق والضوء في العام 1994 ديوانكَ: "السفر داخل المنافي البعيدة" فاكتشفت هذا "اليوسفَ" وهو في محنته وجُبِّهِ، و"السعيدَ" في خِلْوَتِهِ وأمله اللامحدود بالخلاص في نهاية المطاف، فشربنا معا كأس المحبة وانطلقنا في اتجاهين: بحثيٍّ، حيث سمحتُ لنفسي بنقلك صحبةَ زمرة من الشعراء، من فضاء حريتك الوسيع إلى حيزِ الورق فأخضعتُ بعضَ محطاتك الحياتية وكلماتك لمبضع أكاديمي لا يرحم كثيراً فمررتَ عبرَ صفحات البحث بسلاسة ملبياً تداعيات المنفى ومديح وهجاء الطفولة وثيمة تعدد الانتماءات والفضاءات والعلاقة بين موسيقى الشعر والنثر والبحث عن الذات في الآخر والعيش في عزلةٍ تُبدِعُ ولا تُكبَحُ، ثم التحوُّل من عمارةِ الحديدِ والإسمنتِ إلى حوار الطبيعة ونقلها من صمتها إلى مملكة الكلمة. المشكلةُ الوحيدة معك في الإطار الأكاديمي هي كيف يمكن وضع جموح خيالك في إطارٍ وحدودٍ؟ أما الاتجاه الآخر فمضى دون منغِّصات وترتيبات مسبقة في اتجاه أخوة الشعر وطلب المغفرة على إساءة غير مقصودة منا أثناء أداء واجبنا بالتعامل مع الكلمات.

أبانا السعيد، كيف يمكننا السيرُ في طرقات المنافي، في ظل تناقض الرغبات وأساليب تحقيقها دونَ زللٍ، دونَ غضبةٍ واحدةٍ على الأقل، دون صرخةٍ واحدةٍ، دونَ رغبةٍ بتسديدِ لكمة لمَن أطاحَ بأحلامنا؟ منْ أدارَ خدّه الأيسر.. كان واحداً، لم يتكررْ، ولم نتمكَّنْ حتى اللحظة من استنساخِهِ. آهٍ، لو جرى استنساخه لما بحثنا عن المنافي القريبة أو البعيدة.

كنتَ تدعونا عن قصد أو دونه إلى فعل المحبَّة شعراً وخيالاً وملاذاً أخيراً، وما فضاءاتك الأخيرةُ: "الأرض، التراب، السماء، الماء" سوى تأشيرةٍ مفتوحة للولوج في هذه العناصر الأربعة والسير قدماً على طريق فك لغز الخليقة. كل عنصر هو كشفٌ، كل كلمة هي تورية عن مجهول نسعى للقائه:

"الأرضُ تحملُ سفنَ صمتها
إلى الممراتِ البعيدة
تحملُ ترسانةَ الإيمان
وسادةً محبوكةً من بخورِ الشفقِ الوليدِ
تحملُ غفوتَها إلى قاراتٍ
لتُسَمّدَ طاقاتِها العذراء
الأرضُ، جواهرُ من كلمةٍ خالقة
تَحْبِكُ أوردةً لقلب السماء"(فضاءات الأب يوسف سعيد، دار نشر صبري يوسف 99).

لقد امتحنتَ أيها اليوسفُ السعيدُ، الأرضَ والترابَ واحتسيتَ من مائها، وها أنت ذا تجرِّب السَّماءَ عن قربٍ دون واسطة.
أرجوكَ، يا صديقَ الكلمة النقيَّة، يا رفيقَ الحرية والخيال المجنَّح، لا تنسَ نحن ضيوفك الآن، بعد أن كنتَ ضيفنا العزيزَ كل هذه السنوات، أرجوك، لا تتعجَّل الإجابة، فثمَّة متًَّسعٌ من الوقتِ، أرجوكَ، قلْ لمنْ ستلتقي به هناك: نحن هنا المجبولين من الطين والماء، كلَّ يومٍ تضيقُ تحتنا وفوقنا وخلفنا وأمامنا الأرضُ، نحن هنا المجبولين من الطِّينِ، نحلمُ أيضاً بالسَّماء.

د. هاتف جنابي
شاعر ومترجم وباحث أكاديمي عراقي مقيم في بولونيا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غادة عبد الرازق: الساحة الفنية المصرية لم تعد بنفس قوة الماض


.. الفنان درويش صيرفي.. ضيف صباح العربية




.. -بحب الاستعراض من صغري-.. غادة عبد الرازق تتحدث عن تجربتها ف


.. أمسيات شعرية - الشاعرة سنية مدوري- مع السيد التوي والشاذلي ف




.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال