الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكواكبي- الإصلاح والثورة!

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 3 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


إن الإشكالية الكبرى التي تواجهها سوريا الآن، وينطبق هذا على دول العالم العربي ككل، هي إشكالية الوحدة الواقعية والعقلانية بين فكرة الدولة الشرعية والقومية الثقافية (العربية). بمعنى كيفية إيجاد الصيغة التي تصبح الدولة وعاء للفكرة القومية السليمة، والقومية أسلوبا لإرساء أسس الدولة الحديثة والعصرية.
وهي القضية التي أقلقت عقل وضمير الكواكبي وكل ذلك الرعيل الأول الذي أرسى أسس الفكرة القومية العربية بوصفها فكرة مستقبلية، أي فكرة الدولة والأمة وليس فكرة السلطة والأحزاب أيا كانت نواياها وحماسها الذاتي.
وليس المقصود بالرجوع إلى الكواكبي هنا هو استلهام الحلول، بقدر ما هو جزء من تنشيط وعي الذات التاريخي والسياسي العربي عبر الرجوع إلى تجارب شخصياته الكبرى. فالشخصيات الكبرى كبيرة من حيث معاناتها الروحية. الأمر الذي يحدد طبيعة الإمكانية الكامنة فيما تضعه من أفكار ومواقف وأحكام. وفي كلها تشكل أما مصدرا للعبرة التاريخية أو مرجعية من مرجعياتها. وقد كان الكواكبي وسيبقى على الدوام احد مصادر وإحدى مرجعيات الفكرة العربية الواقعية والمستقبلية. ولم يكن هذا بدوره معزولا عن همومه المحكومة بفكرة القومية والدولة والنظام السياسي المعقول وفكرة الحقوق الأساسية للفرد والجماعة والأمة. وإذا كانت شخصيته عادة ما تتماهى مع الفكرة السياسية المناهضة للاستبداد فان ذلك ليس إلا احد أجزاءها ومكوناتها. وذلك لان حقيقة الكواكبي الجوهرية تكمن أساسا في رؤيته النقدية والمستقبلية. وقد تكون فكرته عن أن البدائل الكبرى في العالم لعربي فيما يتعلق بفكرة الدولة والقومية مرتبط بأجيال المستقبل تتخذ الآن صورة ومنحى ومغزى مهما للغاية سواء من الناحية النظرية المجردة (فيما يخص الحالة العربية العامة أو فيما يخص الحالة السورية الخاصة وطبيعة وآفاق الصراع السياسي فيها). وذلك لان مأساة وواقعية الصراع الحالي في سوريا يدور من حيث الجوهر بين قوى تعمل من اجل فكرة الدولة والقومية وقوى تعمل من اجل السلطة.
وقد وضعها الكواكبي وحلها ضمن سياق النظر بأولويات العلاقة بين الأنا التاريخية والانا الثقافية. ووجد في توليف عناصر العقلانية والإصلاحية المتراكمتين في مجرى المخاض الفكري والعملي للقرن التاسع عشر أسلوبا لتحقيقها وتجسيدها. وبهذا يكون الكواكبي أول من قدّم أحدى النماذج الحية والواقعية لتوليف العقلانية والإصلاحية في رؤيته النقدية الاجتماعية والسياسية والثقافية، وكذلك في فكرته عن البدائل المفترضة لآفاق الدولة العربية والقومية. بينما نراه يربط أمل بلوغ هذه الغاية بأجيال المستقبل، أي بأولئك الذين تعقد الأمة آمالها بأحلامهم… أولئك الشباب الذين لا يقتصرون ببناء قصور الفخر على عظام نخرها الدهر، ولا يرضون أن يكونوا حلقة ساقطة بين الأسلاف والإخلاف، الذين يعلمون إنهم خلقوا أحرارا، الذين يحبون وطنهم حب من يعلم انه خلق من ترابه، الذين يعشقون الإنسانية، ويعلمون أن البشرية هي العلم، والبهيمية هي الجهالة، الذين يعتبرون أن خير الناس انفعهم للناس".
إننا نقف أمام إدراك عميق لقيم "الأمم الحية" وما يقابلها من نقيض في مواتها. ويكشف هذا التناقض عن رؤية الضرورة الفاعلة باعتبارها إصلاحية شاملة. مما حدد في آن واحد روح التفاؤل بإمكانية صيرورة الأمم الحية عند الجميع، وربطها في الوقت نفسه بالعلم والأخلاق العالية. بينما طابقه في حالة أخرى بين "البشرية والعلم" و"البهيمية والجهالة"، أي تحويل هذا الإدراك إلى هموم فاعلة وراء العمل الدائم أو جوهرية الحاضر، ومن ثم عدم الرضا بهيئة "الحلقة الساقطة" أو المفقودة بين الماضي والمستقبل. ولم يعن ذلك في الواقع سوى جوهرية العمل العصري الحي، باعتباره إبداعا تلقائيا مستندا إلى وعي الذات التاريخي الواقعي. وترتب على ذلك تحّمل المسؤولية الواعية، انطلاقا من قيمة الحرية في الوجود الإنساني، باعتبارها المقدمة التي ينبغي البرهنة عليها بصورة دائمة، والكشف عما في هذا الاستمرار الفاعل من "حياة" تستجيب للعلم والأخلاق العالية.
إن الإدراك المتعمق لقيمة العمل العصري الحي هو النتيجة الملازمة لعقلانية الروح الإصلاحي. وذلك بسبب بحثها الدائم عن الأسباب المعقولة وراء حالة الانحطاط، أو ما دعاه الكواكبي بحالة الفتور العام والدعوة لتغييرها. وقد جمع كل ما يمكن جمعه من أسباب من اجل رؤية الحالة العامة والخاصة للانحطاط والتقهقر. ولم يكن هذا الجمع تجميعا للأسباب، بل تصنيفا لأصولها وفروعها. مما يعني في آن واحد محاولة الاحتواء المعقول لأسباب الانحطاط الفعلية، ومن ثم رؤية البدائل الواقعية. فهي الصيغة التي ميزت آراء الكواكبي، بمعنى خلوها من عناصر الطوباوية والجزئية. فعندما تناول بداية الانحطاط الإسلامي فانه أكد على أن "مسألة تقهقر الإسلام بنت ألف عام أو أكثر". ويقترب هذا التصوير مما وضعه محمد عبده. بمعنى مطابقته بداية الانحطاط مع انحطاط المركزية العربية في الخلافة. إلا أن تحديد بداية الانحطاط ما هو إلا الخلفية الزمنية لبحث أسبابه الواقعية. وقد حصرها الكواكبي في الأسباب الدينية والأخلاقية والسياسية. فعندما تناول الأصول والفروع في الأسباب الدينية، فانه يربطها أساسا بالأفكار السائدة في عصره، وبالأخص ما يخدم مصالح الاستبداد والإمبراطورية مثل هيمنة عقيدة الجبر، وفتن الجدل في العقائد الدينية، والتفرقة، وانعدام التسامح، والتشدد في الدين، وسيطرة العلماء المدلسين وغيرهما من الأسباب. بحيث جعله ذلك يستنتج في نهاية المطاف، بان "سبب الفتور الطارئ الملازم لجامعة هذا الدين هو هذا الدين الحاضر ذاته". أما الأشكال الأخلاقية لظهوره وتجسيده، فانه يربطها بالأسباب الأصول كالاستغراق في الجهل، وفقدان التضحية، وانحلال الرابطة الدينية، والتربية الدينية والأخلاقية، وعدم وجود الجمعيات، ومعاداة العلوم العالية، وغير المبالية تجاه الشؤون العامة. أما فروعها ففي كل من استيلاء روح اليأس، والإخلاد إلى الخمول، وفساد التعليم، وترك الأعمال، وإهمال طلب الحقوق العامة جبنا، وتفضيل الارتزاق بالجندية وغيرها. مما يعنى حصره إياه في جمود الروح الاجتماعي الفعال.
بصيغة أخرى، أن حصيلة الأسباب التي جرت الإشارة إليها أعلاه في أصولها وفروعها هي الصيغة الدينية والأخلاقية للأسباب السياسية. وليس مصادفة أن نعثر في الأسباب الدينية والأخلاقية على خلفية الرؤية السياسية، وفي الرؤية السياسية على استقلاليتها الذاتية. إذ أدرج في أصول الأسباب السياسية كل من السياسة المطلقة غير المراقبة، وما اسماه بالسياسة المقلوبة في مجال الاجتماع والاقتصاد، وكذلك إبعاد الأحرار عن السلطة، وحصر اهتمام الدولة بالجندية والجباية. بينما أدرج في فروع الأسباب السياسية كل من التفرقة، وفقدان حرية القول والعمل، وانعدام العدالة والمساواة، وغياب الرأي العام، والتنكيل بالمعارضة وغيرها. مما يعني ربطه بين طبيعة السلطة والنظام الاجتماعي. ودفع هذا الإدراك إلى المقدمة جملة من القضايا الجوهرية بالنسبة لنهضة الأمم، لعل أكثرها أهمية هي كل من قضايا الحرية والعدالة والمساواة. ولم تعد هذه القيم والمبادئ تسبح في فضاء الشعارات الجذابة، بل في متطلبات الفعل السياسي الواعي للأهداف القريبة والبعيدة. مما حدد بدوره مواقفه من الاستبداد وبدائله في ميدان النظام السياسي والوحدة (الاجتماعية والقومية). بمعنى إدراكه العقلاني للسياسة بمعايير السياسة ذاتها. مما حدد بدوره أيضا الاستيعاب الجديد لأهمية العمل السياسي وتأسيسه الفكري في الوقت نفسه.
إن الحصيلة الجلية أو العبرة النقية في فكر الكواكبي من اجل الإصلاح تقوم في وضعه أولية البحث عن أسباب الانحطاط والأزمة من اجل الخروج منها. لكنه خروج ينبغي أن يقترن دوما بإحدى الحقائق الجوهرية الكبرى القائلة، بان الإصلاح والبدائل وديمومة التطور التاريخي السليم يفترضون التمسك بمرجعية المركزية العربية في الدولة. وان المضمون الواقعي والواجب لهذه المركزية في العصر الحديث تقوم بالجمع الديناميكي بين فكرة الدولة الشرعية، والفكرة العربية، والحرية الشاملة، والنظام السياسي العقلاني. وان الإجماع ضروري بوصفه مرجعية كبرى. عندها سيكون الخلاف والاختلاف أسلوبا وشرطا للإبداع الحر من اجل المصالح العامة، أي مصالح سوريا الكبرى والكلّ العربي. بعبارة أخرى، إن الإجماع على مرجعية المركزية العربية هو الشرط الضروري للإصلاح الشامل بوصفه ثورة المستقبل.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يحصل على -الحصانة الجزئية- ما معنى ذلك؟ • فرانس 24


.. حزب الله: قصفنا كريات شمونة بعشرات صواريخ الكاتيوشا ردا على




.. مشاهد من كاميرا مراقبة توثق لحظة إطلاق النار على مستوطن قرب


.. ما الوجهة التي سينزح إليها السكان بعد استيلاء قوات الدعم على




.. هاريس: فخورة بكوني نائبة الرئيس بايدن