الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرائحةُ العالقةُ بيننا

أمل جمعة
(Amal Juma)

2012 / 3 / 22
الادب والفن


ستُ سنواتٍ منذ غادرت، وخمسٌ وأنا برفقتها.. امرأة جذابة جاءت مرةً لتقول لي: "ابعدْ أكياس قمامتك من باب بيتي، قطتي تصاب بالهستيريا كلـما شمّت بقايا زهورك. وضحكنا يومها كثيراً، كانت متعجبةً من تلف الزهور السريع لدي ــ أكياس قمامتي تحمل منها الكثير ــ حينها توقفت عن شراء الزهور واكتفيت بعبق جارتي الأخاذ.
كنّا نختلف على أمور كثيرة، أشدها كرهي للصباحات الـماطرة، وغرامها هي بكل مبلل. تشكو من نقص في حنيني أحياناً، وتقول: "في قلبك وجسدك مناطقُ مغلقةٌ أمامي. وتتذمر: رائحة زنخة تفوح منك؛ إذا حلّ الـمطر.
اختناق غريب يحاصرني إذا اشتد الـمطر، وتقاطعني النساء على نحو مبهم، متعللات بنقص دفئي، وأخريات أشدُ صراحةً يهربن من رائحة غريبة تفوح مني.
صديقةٌ شقراء فاتنة رافقتني إلى ساحرة غجرية، علَّني أتخلَّص من كابوس الـمطر والزهر الـتالفة، غمرت جسدي بالزيت وأشعلت حولي بخوراً وأزهاراً جافة، وقالت يومها: "أيُةّ رائحة تعبرك الآن؟." أجبت وأنا أختنق:
"عبقُ زهرٍ أبيض وأصفر يطلقون عليه في بلادي النرجس". ودخلتُ في غيبوبة قصيرة، لـم تسلـم منها في ذاكرتي إلاّ كلـمتان: "انتهينا على عجل أيها القلب"؟
لـم تعطني العجوز إجابةً صافيةً ولـم تعد رفيقتي الشقراء تسأل عن حالي. سافرت بعد أيام قليلة وكتبت لي مرة: هناك رجلٌ رائع عجوز بشعر أبيض فاتن يفرغ القلوب من بقايا روائح النرجس القاتلة؟.
يبدو أن صديقتي الشقراء لـم تشم النرجس من قبل وتهيَّأ لها أنها زهرة قاتلة ؟ وأكملت في رسالتها: زرته قبل عام فأجلسني طويلاً على كرسي صغير وأفرغ قلبي من حب استوطنه سنوات ثلاث .. ردد عبارات غريبة.. ولكنني مرتاحة الآن، قلبي فرغ تماماً ؟ هل أرافقك إليه؟
طويت رسالتها ولـم أجب، فقلبي فارغ منذ دهر ولا يسكنه إلاَّ الفراغ.
لـماذا تتلف الزهور بين يديّ؟ ولـماذا تلقي صديقاتي زهوري غالية الثمن في القمامة؟ صرت أحدد علاقتي بهن وأربطها على غير وعي بسرعة إلقائهن للزهور.
مرةً صارحتني إحداهن بخجل ــ كانت بلون البندق وتحمل عينين شديدتي السواد ــ : ترددت كثيراً ولكن زهورك أصابتني بصداع قاتل ورائحة عفنة انتشرت في كل البيت. أمسَكَت برسغي وقادتني مذهولاً إلى الـمطبخ، هناك كانت جثة أزهار بلون البنفسج أحضرتها قبل أيام ثلاثة، الأزهار ذابلة وتفوح منها رائحة عرق زنخة، كدت أسقط أرضاً، ودوارٌ حل بي فجأةً وصوت بعيدٌ يهتف: "لا تغادر قبل انقضاء الـموسم".
فتحت عينيّ، وصديقتي بلون البندق شديدة الفزع تحاول إيقاظي ببعض حفنات من الـماء، وصوت من القلب يأتي مخنوقاً يبدو مألوفاً ويبدو بعيداً وأراني مبتلاً برذاذ ماءٍ تفوح منه رائحة زكية ما تلبث أن تتحول إلى رائحة شديدة الإزعاج كعطر ثقيل امتزج بعرق غزير.
أمام الرجل بالشعر الأبيض الفاتن وقفت أخيراً، مرتبكاً ومتلعثماً أحس بذنب اقترفته ولا أحدد متى. قال: دع رأسك بين يديّ. وضغط بشدة حول صدغي، عد إلى هناك ــ قال أمراً ومتيقناً ــ أين، سألت مفزوعاً ؟ قال: ثمة رائحة مرَّت في حياتك تعلَق بجسدك بغير وعي، الجسد، أيضاً، يهوى ويتعلَّق يا بني، هل غادرت يوماً على عجل؟ هل تركت يوماً رائحة عائمة بالفضاء؟ ربما آخر ما نحفل به روائحنا الـمتبقية؟ هناك روائح لا ترحل، الروائح عليها أن تتنفس أيضاً، تقتلك رائحتها يا بني وتمتد لزهورك وقبلاتك ولـمساتك وتقف بينك وبينهن ــ كل النساء ــ عليك أن تسترجع رائحتك من امرأة تركتها على عجل. وصمت، ذهب لصلاة طويلة وجلست أنا، هجمت علي سنوات ست هي عمر رحيلي.
رأيتني هناك شاباً متعجلاً، يحزم أمتعته بمتعة فائقة ويختار بلا تخطيط قطع الـملابس وبعض الصور وكتباً قليلة ؟ كان في القلب حسرة ما، أتجاوزها وأنا أصفر بلحن طوال الطريق، وكان في العقل قرار لا مجال لحسمه إلاّ بالرحيل ــ لا مكان لي هنا ــ وكانت هي صديقة الوقت الضائع، التقيتُها ذات شتاء، لـم أفكر طويلاً وأنا أبلغها قرار السفر، ربما كظمتْ في القلب حسرةً، ولكنني أستعيدها الآن في لحظة الوداع الـمرتجلة هي في وسط الـمسافة بين النافذة والباب وأنا بجانب زهرية تفيض بأزهار النرجس (ورودها الشتوية الـمفضلة) تختلط الصور في ذهني ولكن تعبر أكوام من زهر النرجس إليّ، باقة كبيرة مغرقة بالندى تدخل قبلها لـمكتبي تطل من خلفها ضاحكة في صباح ماطر، فيه بعض مني لست أحدده ــ وتقصد الزهر ــ إذا ذبل ألقه في التراب فلا يضيره إلاّ النسيان ولا تخف شئتَ أم أبيتَ يلتصق بك كجلدك.
لست ادري هل قلت لها يوماً إنني أحبها؟ هل قالت لي ذلك؟ هل أريد حقاً أن أفرغ منها بالذات؟
تعجز ذاكرتي عن اليقين، وأعجز أن أعبر لامرأة أخرى، هي فقط من يقف الآن وأنا أعود لهناك كما طلب العجوز، تبدو طاغية في حضورها ومشتتة في ذهني، أستسلـم لنقطة العودة تلك وكأن باباً يفتح على باب آخر تفتح ذاكرتي.
تَعبرني صباحات شتوية كان يتأجج بها النرجس فوق طاولتها ويشاركنا قهوة الصباح كضيف مقيم، عندما نهرب من روتين يومنا، دوماً أراها في الصباح وأعجب كيف كان القلب يختار الـمطر ليعبر إليها، لـم تكن لدينا خطة ما ولا درب محدد فأنا أستعد للرحيل وهي تستعد للبقاء، تضيف لبيتها قطع أثاث ومستلزمات كانت تسميها بفرح "أثاث الذكريات" وتقول ضاحكة: "ها أنا أصنع تاريخي الصغير على نحو ما، و أؤثث للذكريات".
أنا خارج من حبٍ بقاياه عالقةٌ بالقلب على شكل كابوس ليلي، وهي تطرق باب الحياة بضربات أكثر صخباً كما قالت مرة وفي الصخب الجديد يكثر الأصدقاء، لـم أقل إنني أحببتها ولـم تسأل يوماً عن شأن القلب.
انتهينا على كل حال، كان وداعاً مرتجلاً وقصيراً، ولكنني أراها الآن يعبرني وجهها بالكامل، وتقول: لا ترحل الآن لستُ أستبقيك لشيء، فقط أريد أن أفصِلَ بين رائحتك وعبق النرجس.
هناك ممر في القلب لا يغلق مادام النرجس قائماً.
غادرت، لـم أعٍ تماماً ما قالت لكن رغبةً بزغت في طرف القلب فجأة تماماً في الجانب الأيمن، رغبةٌ ملحةٌ وآسرةٌ وبها طعمٌ حارقٌ للندم ..لكنني مضيت.
انتهينا فجأة وبلا مقدمات، كان بها اشتداد الـمطر السريع إذا غضبت، وبها موسيقاه الصاخبة، وإذا ضحكت تختطفك إلى البعيد، لحظات وتهبط وإياها إلى دنياك ودنياها الغريبتين أصلاً والـمتباعدتين، هل كان هذا سبباً منطقياً للفراق؟ وكنت أهوى السماوات الخالية من الغيم والصباحات الصيفية الأنيقة، كما وصفتني في رسالتها الأخيرة، قالت لـم تتعلـم بعد أن تتصالح مع الـمطر؟ أنت تغلق دون أن تعي ممر القلب الندي، الـمطر كالرائحة نستدل بها على الآخرين.
انتهينا بخدوش كثيرة قابلة للنسيان وبتوقيت سيئ ــ كما أخبرت صديقتها ذات يوم ــ لست أكرهه بعد أن برئت منه تماماً ولكن مازالت حسرتي قائمة، لا أطيق أن يرحل قبل أن ينقضي موسم النرجس، لست أبتلع مرارة ذلك، لا يحتمل القلب فراغاً آخر وأجهشت بالبكاء، هل كنت الـمقصود حقاً؟ وكرهتها حينها لـم أجد في القلب إلا غضب الريح يجرف ذكرياتنا ويبعثرها في نساء ألتقيهن مصادفةً وأقص عليهن الحكاية، تسألني امرأةٌ سميتها "إيقاعي الجميل" كم امرأة أحببت؟
"أقول مرة واحدة، أنا متواصل مع قلب امرأة واحدة، وكل ما يأتي هوامش لها، لـم أكن بالطبع أقصد صديقتي ولكنني أتذكر الآن على نحو مفاجئ كيف صورتها برزت في حينها وهي تحمل باقة نرجس وتلوح بها في صباح ماطر، كانت تبدأ عامها ببزوغ أزهار النرجس وتعلن نهاية
العام عندما تدفن أبصالها في الأرض كل خريف، قلت بصرامة وبصوت حاد أحببت امرأة واحدة وكأنني أجيب نفسي.
لـماذا لا تغادرني هذه الـمرأة ولـماذا تعلَقُ روائح نرجسها بي على هذا النحو الـمفجع، وتفقدني شهيتي، لـم تكن لدينا خطة لـم يكن لدينا وعد.
عاد الرجل ذو الشعر الأبيض من صلاته كنت أجلس على الأرض وجبيني متعرّقاً، قال وبلا مقدمات، كنت تحبها يا بني؟؟ هل كان يسأل أم يجيب؟ وجلس قبالتي على الأرض، عندما نغادر فقط الجسد هو من يرحل ولكن روائحنا وعادتنا الصغيرة تؤثث الأماكن على نحو مغاير، نحن لا نترك مرة واحدة يا بني، الجسد أول من يرحل، والقلب آخر من ينسى، والعين لها قدرة على استبدال الصور، لكنّ روائحنا لا تغادر معنا، تتأخر لأسباب كثيرة ولكنها حتماً تعود إذا انغلق الفضاء أمامها، ألـمْ أقل لك على الرائحة أن تتنفس. رائحتك استوطنت حقل نرجس في حديقة ما وامتزجت به فكان لزاماً عليك أن تنتظر حتى انقضاء الـموسم لتستعيد روائحك.
ليس الحب ما بينكم .. هي الرائحة العالقة لا تحسن هي منها الفكاك، ولا تحسن أنت السير بغير رائحتك فنحن نتوه تماماً كما نفقد الأسماء في ذاكرة غائبة.
اجتثته لتنساك ــ حقل نرجس بري ــ وهرب إليك جثثاً فالنرجس لا يحتمل النسيان ولا يضيره أن يلقى في التراب.
في الليل رأيتها تقلع النرجس من جذوره وتلقيه كومةً ثقيلةً، كان النرجس طازجاً وفوَّاحاً وأبصاله ذهبية اللون، وكانت تنتظر جفافه لتحرقه إلى الأبد، هل كان النرجس يستنجد بي؟ هل كانت روائحه العفنة تهرب إلي؟ هل كانت روائحي تحاول العودة إليّ؟ هل كنت أحبها أم هي فقط الرائحة العالقة بيننا ؟
شباط 2006








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا