الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف السوري يتحول إلى -بائع حكي-

محمد جمول

2012 / 3 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


المثقف السوري يتحول
إلى " بائع حكي"
محمد جمول
سنة كاملة مرت على ما يجري في سورية من آلام وقتل وتشريد وخطف وتمثيل بالجثث. سنة كاملة مرت وكثير من محترفي السياسة أو من يريدون احترافها يصرون على وصف ما يجري على أنه حراك سلمي بريء لا تشوبه شائبة، وأن هناك ثورة عفيفة طاهرة تنطبق عليها كل الأوصاف التي حفظوها عن ظهر قلب من كتب التاريخ أو حلموا بها، سواء في السجون التي تعرضوا فيها لظلم لا يمكن إنكاره أو في المنفى. لا خلاف هنا على أن من حق الشعب السوري أن يطالب بحقوقه التي حُرم منها لوقت طويل. ولا خلاف على أن بداية ما حدث في سوريا كان مطالب عادلة لشعب يريد حقوقه، ولكن لم يعد جائزا الخلاف على أن مسار الأحداث ذهب منذ الأسابيع الأولى في اتجاه لا يخدم أصحاب الحقوق المشروعة، وأن أحلامهم اختُطفت من قبل من يريدون إعادة التاريخ إلى الوراء، وأن ما نراه على شاشات كثير من الفضائيات هو صور انتقائية ومعظمها ملفق أو مزور أو منسوب لغير أصحابه الفعليين.
أول ما يمكن استنتاجه بعد سنة كاملة هو أن بعض هؤلاء المثقفين والسياسيين أصروا على إنكار الوقائع والحقائق الموجودة على الأرض لأنها لا تتطابق مع صورة الثورة التي في أذهانهم فتخيلوا ثورة سلمية نقية طاهرة وتحولوا إلى "باعة حكي" على شاشات الفضائيات لنشر هذه الصورة التي في مخيلاتهم. ولأن الذين يعيشون على الأرض في سورية يعرفون حقيقة ما يجري وغالبيتهم غير مستعدة للتخلي عن عقولها لصالح تجار " شنطة الحكي" على شاشات الفضائيات، يمكن القول إن هؤلاء المثقفين سقطوا سقوطا مدويا. وكنا قد رأينا بداية هذا السقوط منذ الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003حين تحول كثير من اليساريين والتقدميين إلى دعاة ومبشرين للناتو والمارينز.
فهؤلاء يعرفون أن الذين يوصفون بأنهم ثوار يمارسون القتل وتدمير البنية التحتية في سوريا والاغتصاب للرجال والنساء من دون تمييز. وكثيرون من أبناء إحدى المحافظات يعرفون أن هؤلاء الثوار قاموا باغتصاب عدد من الرجال وأن أحد الأطباء الكبار في تلك المحافظة تعرّض لاغتصاب أكثر من 14 رجلا في وقت واحد قبل أن يُفرج عنه مقابل فدية كبيرة. ولمن يريد التأكد من ذلك يمكن تزويده بأسماء وعناوين عدد ممن تعرضوا لهذا الاغتصاب " الثوري والسلمي" فما هي الأهداف التي يمكن لأي ثورة في العالم أن تحققها من أعمال كهذه؟ وكيف لشعب أن يثق بأن أمثال هؤلاء سيحملون له الحرية والديمقراطية؟ وهناك ممارسات كثيرة أخرى لن يفهمها المواطن العادي الذي يفترض أن الثورة تعمل على خدمته وتحريره: ما معنى استهداف المسافرين على الطرقات العامة وقتلهم أو اختطافهم لا لشيء إلا لمجرد أنهم مسافرون من أي مكان ولأي مكان داخل سورية؟ وما معنى تدمير المستشفيات والمراكز الصحية والمدارس والجسور وشبكات نقل الطاقة؟ وما معنى تقطيع الجثث بالسواطير بعد أو قبل قتلها؟ فهل هذا يخدم المواطن وهل سبق لأي ثورة في العالم أن دمرت المستشفيات والمدارس؟ ولئن كان يمكن الجدال حول استهداف أفراد الجيش العربي السوري أينما وجدوا ولمجرد أنهم يرتدون البدلة العسكرية فهل يمكن الدفاع عن تدمير المدرسة والمستشفى؟ ليت باعة الحكي الثوري على الفضائيات يشرحون لنا هذه الأهداف العظيمة التي تتحقق من مثل هذه الممارسات.
لقد عمد هؤلاء المثقفون إلى إنكار ما يجري على الأرض واعتباره غير موجود من خلال الاكتفاء بالحديث عن مقولات ثورية كبيرة وشعارات صحيحة عظيمة وحتميات معروفة لإعفاء أنفسهم من رصد الواقع وتشخيصه بشكل صحيح يقتضي اتخاذ مواقف وطنية وسياسية وأخلاقية سليمة بغض النظر عمن يقف وراء هذه الممارسات، سواء كان النظام الحاكم أو " الثوار" الذين طغت عليهم الشعارات الطائفية والعنف المفرط الذي جعل النظام وممارساته الملاذ والمخلص لكثير من أبناء الشعب السوري، وهؤلاء من جميع الطوائف والفئات. وهذا ما جعل كثيرا من أبناء الشعب السوري يدرك أن اشتهاء الثورة شيئ- وهو حق لكل إنسان- وتصوير ما يجري على الأرض السورية من ممارسات مرعبة على أنه ثورة شيء آخر. وإذا كان هؤلاء الباعة والمثقفون عاجزين عن صنع الثورة، فمن غير المبرر تسمية ما يجري من قتل عبثي وتدمير مرعب ثورة، بالتأكيد.
أهم ما يؤكد تهافت البضاعة التي روج لها بعض من كنا نعتبرهم كبار المفكرين الذين يشكلون النخبة الثقافية في سوريا هو أن ما يطلق عليه تسمية "المجتمع الدولي"- وهنا يقصدون دائما الدول الغربية الاستعمارية التي جلدت ونهبت شعوب العالم على مدى مئات السنين- قد بدأ الآن يعترف برواية النظام السوري منذ الأسابيع الأولى للأحداث في سورية بعد سنة من الإنكار. وهي المتعلقة بوجود عصابات مسلحة تمارس القتل والاختطاف والتعذيب. ويكفي دليلا على ذلك اعتراف منظمة هيومن رايتس وتش التي نعرف من أين يأتيها الوحي والإلهام في اللحظات المناسبة. كما أن تبني القاعدة لعدد من التفجيرات الإرهابية في المدن السورية كاف لإثبات أن "باعة الحكي" على الفضائيات كانوا مخطئين أو مضلِلِين حين اتهموا النظام السوري بتدمير ذاته عبر تفجير مقراته الأمنية.
من الطبيعي أن يخطئ أي سياسي أو مثقف في تقييم وتفسير بعض ما يجري حوله. ولكن من المفروض- إن كان يتمتع بالحد الأدنى من الأخلاق وكان صادقا مع نفسه وشعبه- أن يعتذر عن الخطأ الذي وقع فيه. ولكن أن يصر على الاستمرار في هذا الخطأ وارتكاب المزيد منه، يصبح من الضروري إعادة النظر في تقييم ما يقوم به إذ أنه يصبح أكثر من مجرد جهل أو خطأ. خطأ هؤلاء هو أنهم ربطوا مصيرهم بمصير قنوات فضائية مصرة على الكذب والاختلاق والتضخيم، وبالتالي صار ما ينطبق على هذه القنوات ينطبق عليهم وربما يمكن لهذه القنوات أن تدّعي أنهم هم الذين ضللوها. والخطأ الأكبر كان وقوف بعض كبار دعاة الليبرالية والديمقراطية والتقدم والحرية وراء شيوخ احترفوا الفتنة والدعوة إلى القتل. فما الذي يميز برهان غليون عن العرعور بنظر المواطن السوري الذي يعرف أنهما في مجلس واحد ويعملان عند السيد ذاته لتحقيق الأهداف ذاتها؟ وكم هو الفرق بين جلال صادق العظم الذي يروج لحكم مذهب معين بدل المطالبة بأن يكون الأفضل هو الحاكم وبين "بلبل الثورة " عبد الباسط الساروت وهو يهتف مطالبا بإبادة طائفة معينة كما عرضته إحدى القنوات الفرنسية، وليس السورية.
أكثر ما يؤسف له أن المواطن السوري الذي وقع ضحية ممارسات ما يسمى الثورة السورية من قتل وتعذيب واغتصاب ودفع فدية كبيرة أحيانا، لم يسمع كلمة إدانة واحدة من القوى السياسية والمفكرين الذين ينظّرون لهذه الثورة ويبيعون الحكي لحسابها. ما السبب؟ إما أنهم لا يعرفون ما يجري على الأرض السورية، وهذا مستبعد، وإما لأنهم يريدون الاستمرار مع الصورة الوردية التي كونتها أحلامهم والإصرار على نقائها الذي يدحضه الواقع. إن الموضوعية والنزاهة والحد الأدنى من الأخلاق و الوطنية تقتضي قول الأشياء كما هي واعتبار الجميع مواطنين يستحقون الاحترام والحماية. فهل شعر كل المواطنين السوريين بذلك؟ وهل شعروا أن لديهم قامات وطنية كبيرة ونزيهة قادرة على قول الحقيقة مهما كانت مريرة ومهما تعارضت مع رؤيتها ورغباتها. الأوطان تبنيها القامات الكبيرة التي تتسامى على الجراح وتتعالى على نزعة الثأر والانتقام. فكم كان "باعة الحكي" على الفضائيات قادرين على تجسيد مثل هذا الدور والالتزام بالمعايير الوطنية والأخلاقية؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - للرواية بداية لا يجب تجاهلها ؟
نايــــــــــــــــا ( 2012 / 3 / 23 - 22:43 )
من المفروض أيضا الاعتراف بأن من اعتمد الحل الأمني منذ اليوم الأول، واعتمد القمع والاعتقالات والتعذيب والقتل منذ البداية هو النظام القمعي الدكتاتوري الأسدي وهذا ما حدى العديد من المواطنين الدفاع عن أرواحهم ولحماية عوائلهم... ولو كان يتمتع بالحد الأدنى من الأخلاق وكنت أنت أيضا صادقا مع نفسك ومع الشعب السوري لاعترفت أولا بجرائم قامت بها عناصر القمع مستعينة بالشبيحة، وهو الذي سمح بسبب الفوضى الأمنية من وصول عناصر متطرفة لقتاله... كل ذلك لأن الشعب السوري لم يجد عند السلطة الدكتاتورية الحاكمة أذن صاغية لمطالبه.. وسيأتي اليوم الذي سيعتذر به الجلاد من الضحية...0

اخر الافلام

.. قراءة عسكرية.. القسام تقصف تجمعات للاحتلال الإسرائيلي بالقرب


.. ما دلالة إعلان جماعة أنصار الله بدء مرحلة رابعة من التصعيد؟




.. ما دلالة ورسائل كتائب القسام من نشر مشاهد إطلاق دفعات صاروخي


.. الجزيرة تعرض مشاهد لإطلاق القسام صواريخ من خارج فلسطين




.. مبادرة تقنية لفهم التحديات الزراعية في قارة أفريقيا