الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفولاذ أم الذاكرة؟

صبحي حديدي

2005 / 1 / 18
حقوق الانسان


"قيصر الفولاذ" هو اللقب الذكيّ الموفّق الذي يستحقه رجل الأعمال الهندي ـ البريطاني لاكشمي ميتال، الذي يسيطر اليوم على الشركات الأضخم والأوسع والأغنى في ميدان استخراج وتصنيع الفولاذ، بلا منازع عملياً. وهو، كما تقول صحيفة "هندوستان تايمز"، شيّد إمبراطوريته اعتماداً على حاسّة خاصّة تجعله يتنبّه مبكّراً إلى شركات الفولاذ التي تعاني من ضائقة ما، فيسارع إلى شرائها وإنقاذها وتحويل خسائرها إلى أرباح مضمونة. في العام الماضي بلغت طاقة شركاته الإنتاجية 70 مليون طن، ومداخيله 30 مليار دولار أمريكي.
غير أنّ أحدث صفقاته لن تمرّ دون عواصف، لأنها هذه المرّة لا تشتري عروق الفولاذ التي تحت الأرض فحسب، بل تشتري أيضاً ــ ولكن قد تدمّر بالضرورة ــ ذاكرة جمعية دامية تنطوي على جرائم حرب معروفة وأخرى ما تزال طيّ الكتمان. مؤخراً اشترى لاكشمي ميتال مجمّع مناجم أومارسكا للفولاذ، الواقعة في البوسنة والتي لم تمتدّ إليه يدٌ منذ 12 عاماً بسبب الحرب الأهلية. لكنّ هذا المكان كان موقع معسكر اعتقال شهير أقامه البوسنيون الصرب أواسط العام 1992، وكدّسوا فيه المئات من الأسرى المسلمين وبعض الأسرى الكروات، وشهد سلسلة من جرائم الحرب الصريحة، بينها القتل والاغتصاب والتعذيب، كما أكدّت محكمة جرائم الحرب الخاصّة بيوغوسلافيا السابقة.
"أنت تتملّك مكاناً ينطوي على إرث"، تقول إحدى الفقرات في رسالة كتبها إلى قيصر الفولاذ عدد من الناجين من المعسكر الجهنميّ ذاك، وطالبوا فيها بالحفاظ على الموقع: "نأمل أن تنظر بعين العطف إلى مطلبنا لكي لا يُنسى الماضي". وهذا يضع الرجل في موقع لا يُحسد عليه، بين المال والأعمال من جهة، والتاريخ والذاكرة من جهة أخرى، ولهذا فقد أعلن ناطق باسمه أنّ ميتال "على استعداد للإصغاء بانتباه إلى كلّ مطلب". غير أنّ مصادر أخرى قريبة من القضية أبلغت صحيفة الـ "غارديان" البريطانية أنّ الشركة في موقف صعب للغاية، لأنّ المجمّع يقع في منطقة مأهولة بأغلبية صربية، وليس من مصلحة الشركة استعداء السكان عليها.
وسيرة الـ "غارديان" تقودني إلى الصحافي الشجاع والمتميّز إد فليامي الذي وضع هذه الصفقة في إطارها الأعرض الذي يخصّ ذاكرة معسكر اعتقال أومارسكا، وكان هو أيضاً بين أبرز وأوائل الذين سلّطوا الأضواء على المعسكر من داخله، وذلك في تقرير شهير نشرته الـ "غارديان" بتاريخ 7/8/1992، بعنوان "عار معسكر أومارسكا". آنذاك كتب فليامي إنّ هذا المكان (الذي لا يبعد إلا قليلاً عن مرابع فينيسا الإيطالية!) "واحــــد من أكثر معسكرات الاعتقال جهنمية في زماننا. إنه المكان الذي يصبح فيه القتل والقسوة وشعائر الإذلال شكلاً من أشكال التسلية الشائهة. الحرّاس سكارى أغلب الأوقات، يغنّون وهم يعذّبون. يضربون الأسرى ويشوّهونهم ويذبحونهم".
ويتابع فليامي: "ثمة تلك الشهوة العارمة لإجبار السجينات على ممارسة الجنس الشفوي، وإجبار السجناء على ممارسة الجنس مع الحيوانات، وتشويه الأعضاء الجنسية (...) أحد السجناء أُجبر على عضّ خصيتَي سجين آخر كان قد مات عندما حُشرت حمامة في فمه لكتم صرخاته. وفي نهاية حفلات العنف الجماعية هذه ــ والتي كانت تجري في ساحة ضيّقة أو في مبنيَين ملحقَين بالمعسكر، يُدعى الأوّل البيت الأبيض والثاني البيت الأحمر ــ يُجبر أصدقاء الموتى على تحميل جثث أصدقائهم، التي انقلبت إلى جِيَف في الواقع، في شاحنات أو تكديسهم باستخدام البلدوزر"...
في ما بعد، سوف تستمع محكمة لاهاي إلى شهادات من النوع التالي: يقترب جندي صربي من امرأة مسلمة ويسألها لماذا يبكي طفلها؟ وتردّ المرأة: إنه جائع يا سيدي. وبضربة واحدة بارعة من حربته الحادّة يذبح الصربي الطفل ذبح الخراف ويقول: انتهت المشكلة. إنه الآن غير جائع. جندي آخر يستشيط غيظاً لأنّ الأم تعرّضت لإغماء فوري وتهاوت أرضاً، فيهدد بإجبارها على أكل أمعاء الطفل إذا لم تنهـــض واقفة خلال دقيـــــقة واحدة. بعـــــد قلـــــيل يصل الجنرال راتكو ملاديش إلى مدينة سريبرنيتشا المحررة لتوّها من أيدي المسلمين، ويلـــقي خطاباً في جنوده وفي آلاف المسلمين الذين سيُقادون إلى المذبحة الجماعية أو التهجير القسري. يستعيد ذكرى عصيان صربي ضدّ الأتراك العثمانيين وقع قبل قرن كامل، ويقول: "هاقــــد عادت سريبرنيشــــيا صربيـة، واليوم اكتمل ثأرنا ضدّ الله Allah "...
وفي حدود ما أعلم كان إد فليامي نفسه هو صاحب أوّل تقرير عن فظائع التطهير العرقي الصريحة التي ارتكبها الصرب في البوسنة. ولست أنسى البتة تلك الليلة في 20 آب (أغسطس) 1992، حين شاءت الصدفة أن أستمع إلى تقريره الأول ذاك عبر اذاعة الـ BBC البريطانية، قبل أن أقرأه في اليــــــوم التالي على الصفحة الأولى من الـ "غارديان". ليس غريباً، إذاً، أن يفخر به زملاؤه في الصحيفة، وأن تنهال عليه جوائز التقــــدير من كل حدب وصوب. ليــــس غريباً، أيضاً، أن تتملكّنا الحسرة الشديدة لأننا نفــــتقد أمثاله في إعلامنا العربي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دوجاريك: القيود المفروضة على الوصول لا تزال تعرقل عمليات الإ


.. الأونروا تقول إن خان يونس أصبحت مدينة أشباح وإن سكانها لا يج




.. شبح المجاعة في غزة


.. تشييد مراكز احتجاز المهاجرين في ألبانيا على وشك الانتهاء كجز




.. الأونروا: أكثر من 625 ألف طفل في غزة حرموا من التعليم بسبب ا