الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القضاء السوري بين العدالة والمشاركة في الجريمة

منير شحود

2005 / 1 / 19
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


كلما سمعت أو قرأت شيئا عن إصلاح قضائنا الميمون تذكرت قصة رواها لي الكثيرون ممن عرفوا والدي, وقد حدثت في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. تمحورت هذه القصة حول الأرض في بيئة فلاحية فقيرة.
كان أبي وحيدا لأب تركه رضيعا وهاجر إلى الأرجنتين, هربا من التجنيد في الجيش العثماني, ومن الجوع والفاقة. وعندما شب وكبر, طالب بحصة أبيه من الأرض, ولكن عمَّه رفض أن يقاسمه إياها, وبدأ يكيد له المكائد, ويعرض عليه بين الحين والآخر ربع حصته أو نصفها. وأبى والدي إلا أن يأخذ حقه كاملا...وفاز به عن طريق القضاء, ورئيس العشيرة التي ينتمي إليها (وليس شيوخها!).
وراح والدي يعمل في أرضه, ويغني العتابا والميجانا, ممتنا للعدالة الإلهية والبشرية. وفجأة حدثت مشكلة صغيرة, فقد رفض عمُّه من جديد أن يتقاسم معه مناصفة محصول دالية العنب, وطالب بالثلثين عوضا عن النصف. كانت الدالية ملكا لأبي, بينما امتلك عمُّه شجرة السنديان التي تعرِّش عليها الدالية. وكان مثل هذا العرف, أي المناصفة, سائدا, بسبب محدودية الموارد والخيرات في بيئة جبلية قاسية.
لم تدم حيرة والدي طويلا, فقد جاء بمنشاره وفأسه وقطع الدالية من جذورها, حتى لا تكون ثمة مشكلة بعد ذلك, وينتهي الخلاف, ولو على حسابه. ومع ذلك اشتكاه عمُّه إلى القضاء في اللاذقية, والتي تبعد عن بلدتنا الدريكيش حوالي مائة وخمسين كيلومترا, في وقت كان التنقل فيه في غاية الصعوبة.
وفي أثناء المحاكمة, حمل والدي معه المنشار والفأس. وعندما سأله القاضي إن كان قد قطع الدالية, رد بالإيجاب وأضاف: " الدالية داليتي, وقطعتها بفأسي ومنشاري, وسأزرع عوضا عنها إن شاء الله, وقدَّم الأداتين الجانيتين للقاضي!. حكم القاضي له بالبراءة من الجلسة الأولى, لوضوح القضية, وأمر بسجن عمِّه شهرين مع الغرامة, لتسبب العم بالمشكلة من أساسها.
وتعبيرا عن فرحته, ولكونه لا يمتلك مسدسا, فقد اشترى والدي رزمة من المفرقعات وفرقعها على طول الطريق قبيل وصوله القرية, وكان المهنئون في استقباله. وانتهت مشاكل الأرض دفعة واحدة, بفضل تفهم القاضي وحسمه للقضية والخلاف, وإحقاقه للحق.
وبعد سنين طويلة من حلول قانون الطوارئ وفساد القضاء, كنتيجة لمزامير بعثنا العتيدة في عام 1963, تعرض أخي لعملية نصب قام بها محامي (نعم محامي!) فباعه بيتا يمتلكه شخص آخر. ولم تحسم القضية منذ أربع سنوات, رغم اعتراف المحامي بفعلته ووجود الشهود, وما زال التسويف والمماطلة مستمرين. وليعذرني القارئ لإطالتي في السرد, ولم أكن لأتحدث عن هذه الأمور الخاصة, لو لم يكن يوجد مثلها الكثير.
لقد أصبح قضاؤنا شريكا في الجريمة, وليس محايدا. فلنفترض أن شخصا ما قرَّر أن يأخذ حقه بيده, وقتل شخصا آخر بسبب مشكلة تافهة. عندئذ, سيقضي سنين قليلة في السجن (هذا إن سُجن, ولم يكن مدعوما) ويخرج من خلال عفو رئاسي, بينما يقضي السجناء السياسيون أو سجناء الرأي عقودا بمحاكمة صورية أو بدونها, ولا يشملهم أي عفو إلا بعد انقضاء مدة الحكم بسنين أحيانا, أو فقد نصف عقولهم إن بقوا على قيد الحياة!.
تفاخر الدول بقضائها واستقلاله, بينما يماطل معظم قضاتنا في النطق بالأحكام, بسبب فسادهم أو خضوعهم للابتزاز, حتى تضيع فيها الحقوق بالتقادم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الطاولة المستديرة | الشرق الأوسط : صراع الهيمنة والتنافس أي


.. رفح: اجتياح وشيك أم صفقة جديدة مع حماس؟ | المسائية




.. تصاعد التوتر بين الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في الجامعات الأ


.. احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين في أمريكا تنتشر بجميع




.. انطلاق ملتقى الفجيرة الإعلامي بمشاركة أكثر من 200 عامل ومختص