الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية شخصية لماضي وحاضر الحزب الشيوعي العراقي

علي بداي

2012 / 3 / 30
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


تأسس الحزب الشيوعي العراقي ، حسب تحليل المؤرخين الماركسيين عام 1934كنتيجة لعاملين : هما تبلور طبقة العمال وإمتداد تأثير ثورة البلاشفة في روسيا ، ولا أجد في هذين العاملين ، حين أتابع مراحل تطور نشاط الشيوعيين اللاحق مايكفي لتبرير رفعة المستوى التنظيمي، وبسالة النشاط الكفاحي للحزب الشيوعي وقدرته الإستثنائية على التجدد . لم يكن الوجود اليساري في العراق في تصوري، وجوداً مختلقاً أو غريباً ، ولا ُولد كرد فعل على ماحدث في أوربا بعد أحداث اكتوبر 1917في روسيا، بل أنني أميل الى ربط مرحلة التأسيس بنمو الجذور المغروسة في تربة العراق التي نامت لكنها لم تمت ، فعادت اليها الحياة بتطور التعليم وإنتشار المدارس وإنفتاح المجتمع مما يفسرالدور الريادي للعناصر المثقفة والمتنوره في تأسيس الحزب وقيادته. بعيداً إذن عن بداية القرن العشرين ، ينتمي الشيوعيون العراقيون لجذورهم في أرض الرافدين منذ إسطورة الخلق السومرية وبذور التفكير الإرتقائي التي غرست فيها، الى بابلية ( حينما في العلى..) التي عكست صراع القديم مع الجديد مروراً بدور أجدادهم الرئيس خلال أول انتفاضة في التاريخ الإسلامي أثناء حكم الراشد عثمان بن عفان، ثم الثورات المتواصلة أثناء الحكم الاموي التي دفعت الإرهابي الحجاج بن يوسف الثقفي الى نعتهم "اهل الشقاق والنفاق" "أي الثائرين،" الى حركات القرامطة في العصر العباسي التي أنشأت النظام التعاوني بدلاً من العلاقات الإقطاعية، وحركة الزنج في جنوب العراق التي حولت العبيد الى أحرار، وبناء العراقيين للتنظيمات السرية في البصرة كاخوان الصفا. تمتد جذور الشيوعيين العراقيين بتقديري الى تلك التربة الدافئة أكثر من إمتدادها الى التربة الأوربية الباردة.
وعلى الضد مما يعتقده ويروج له أقطاب الرجعية العراقية من أن الحزب الشيوعي قد وجد نفسه في وسط إسلامي لايتقبل الفكر الإشتراكي ، تؤكد الوقائع الممتدة في عمق التأريخ تشابه سلوكيات الحركات الثورية الإسلامية خلال الحكم الراشدي والأموي والعباسي مع سلوكيات الشيوعيين، أكثر من تشابهها مع سلوكيات وبرامج الأحزاب المسماة بالإسلامية التي أنشأت بتشجيع إمبريالي إستعماري أصلاً لمجابهة المد الإشتراكي .
بل أن اللقب " الرفيق" الذي يستخدمه الشيوعيون والذي سرقه البعثيون أواخر الأربعينيات منهم ، يعود في الأصل الى تلك الحركات التي كانت تطلق إسم " الرفاق" على أعضاءها الفدائيين المعتمدين . ولايجابه الباحث في تأريخ الشيوعيين العراقيين أية صعوبة في الوقوف على أوجه متماثلة بين سلوكيات أمير الفقراء " علي بن أبي طالب" و شهيد الكفاح من أجل العدالة" الحسين بن علي بن أبي طالب" و الخليفة الزاهد " عمر بن عبد العزيز" وقادة وأعضاء الحزب الشيوعي العراقي . وتؤكد وقائع التأريخ الحديث الى أن أكبر تعاطف جماهيري مع الشيوعيين قد جاءهم أصلاً من المدن ذات الطبيعة الدينية كالنجف وكربلاء والكاظمية بسبب من معرفة أبناء تلك المناطق بكيفية وحقيقة وأشكال إستغلال الدين من قبل المتاجرين به .
هذا بتقديري هو مايفسر تحول تنظيم صغير هو " مكافحة الإستعمار والإستثمار " وهو الإسم الأولي للحزب الشيوعي العراقي بعد أقل من عقدين الى قوة جماهيرية ضاغطة مخيفة، أدت بالإستعمار البريطاني الذي يمثل أولى ديموقراطيات العالم الى ممارسة فعل لاتمارسه الا النظم القبلية المتخلفة حين تعامل مع قادة حزب مدني غير مسلح بعقوبات الإعدام وتعليق الجثث في الشوارع. وأني لأتمنى من الذي يمتلك وثائق محاكمة فهد وصارم وحازم أن ينشر هذه الوثائق الآن على أوسع نطاق، لكي يتاح لمن يستطيع القراءة الإطلاع على سبب تعامل بريطانيا وموكليها المبكر والمفرط في التطرف مع الشيوعيين العراقيين، ولربما وجد القارئ في تلك الوثائق ما يفسر سلوكية أجهزة الأمن الحالية التابعة لبعض التنظيمات المسماة بالإسلامية معهم، ولربما أعانتنا تلك الوثائق على تحديد مواقع الأحزاب الناشطة الآن كل حسب مافعل وليس حسب مايدعي.
شكلت ردة فعل بريطانيا تلك ، الممرة عبر النظام الملكي التي كانت تديره، بداية التنبيه الى خطورة برنامج الحزب الشيوعي على مصالح الدول التي تريد إبقاء العراق تابعاً وضعيفاً ومتخلفاً، فكان لابد من التفكير بالتعامل مع عاملي الإسلام والعروبة وإتخاذهما مدخلين لتأسيس "الحزب الإسلامي" المعارض للشيوعيين و"الحزب العربي" المعارض للشيوعيين وهو ماتم في النهاية وقطع طريق التطور على العراق ليعود الى بداية القرن العشرين، بملايين الأميين، وملايين العاطلين، وبصناعة ميتة وزراعة مريضة وسماء تختنق بالغبار ومدن تزحف عن آخرها لضرائح الأولياء وهي تندب: العطش العطش ياحسين الكهرباء الكهرباء يا أبا عبد الله !
أخلاق الشيوعيين وميزاتهم: تميز الشيوعيون العراقيون بالتمسك بمثل قريبة من مثل القديسين ، وجعلوا من مفهوم " الله" الذي إستُثمِر على مدى العصور لإستغلال الناس وترويعهم، مفهوماً ملموساً واضحاً يعني الصدق والتفاني في الإخلاص لمصالح البسطاء من الناس فكان الشيوعي يصل عتبة الموت دون البوح بإسماء رفاقه ودون التخلي عن أفكاره. وبلغ تمسك الشيوعيين بالمثل العليا للتسامح ونبذ الغدر حداً متطرفاً وصل الى خلو تأريخهم من القصاص حتى ممن بالغ في الإساءة لهم فبقي منفذو مجازر شباط 1963 مثلاً طلقاء يختالون في الأرض على مسمع ومرآى من الشيوعيين. ولون الشيوعيون العراقيون حزبهم بألوان أقوام العراق كلها ،فكان وبقي الحزب العراقي الوحيد الذي يضم الجميع من كل الأعراق والأديان والطوائف .
علاقة الشيوعيين العراقيين بالزمان: شكل الشيوعيون مقياساً فريداً لزمانهم..، كلما كان الزمان مزدهراً بالثقافة والمعرفة وسمو الوعي عنى ذلك إزدهار الحزب وإستقراره وقوة دوره، وكلما شحب لون الزمان وقتم وغرق المجتمع الى أذنيه بالرذيلة عنى ذلك أن الشيوعين ...قد غابوا أو غيّبوا وهي حقيقة قد لاترضي البعض منا لكنها حقيقة موجودة بالرغم منا.
حلفاء الشيوعيين: بسبب من إرتفاع قامة الشيوعيين بعد إصرار قادتهم وألآلاف من مناصريهم على إمتداد الزمن على إختيار الموت بديلاً عن الإستسلام، ونظافة أيديهم وزهدهم عن المصالح الشخصية ،كانت الأحزاب المختلفة لا ترى في التحالف معهم سوى مشهداً يُظهرها بمظهر الصغير ، ولم يدرك الشيوعيون من جانبهم أن معظم أحزاب مايسمى بالحركة الوطنية قد خُلق بالأصل لمحاربتهم بإستثناء الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي تميزت علاقته بالشيوعيين بالإستقرار الا من فترة توتر قصيرة، فإنطلقوا من مبدأ توفر حسن النية وتوهموا تمسك هذه الأحزاب بثوابت "وطنية" و"أخلاقية" أو توهموا نضجها بعد أن جاوزت مرحلة المراهقة السياسية ،مما جر الى الوقوع بمطبات عميقة والتعرض لصدمات لم تكن متوقعة. وقد يكشف ماقاله أحد أقطاب الأجهزة القمعية البعثية " وفيق السامرائي" من أن "الحزب الشيوعي قد خسر المعركة أمام حزب البعث" عن جوهر فهم تلك الأحزاب للخسارة والربح ، وهو الفهم البعيد كل البعد عن مصالح الناس ، والمنطلق أساساً من الفكر النفعي الأناني الميكافيللي الذي يفهم النصر على أنه تحقيق غاية الحكم.. والحكم فقط، وقد كان أجدر "بوفيق السامرائي" بالطبع أن يخجل من إنتصار أفضى الى خراب العراق وما حوله وخلق ملايين الأرامل والأيتام لكن الخجل والتسامح والإعتراف بالخطأ كلها سمات للناس المتحضرين من ذوي الضمائر الحية كما يعرف الجميع.

ريادة الشيوعيين الفكرية
سجل موقف الشيوعيين الفكري السياسي ريادة سابقة لأوانها في ثلاثة محاور:
1. محور الوحدة والإتحاد العربي في بداية الستينات بطرحهم المبكر لمشروع التكامل العربي التدريجي بديلاً عن المشاريع الإندماجية ، وهو مايقر بصحته الآن حتى عتاة القوميين .
2. محور مشروع الدولتين الديموقراطيتين للعرب واليهود في فلسطين الذي طرحته قيادة فهد في الأربعينات وهو ما يسعى له العرب الآن بكل قوتهم عبثاً، بعد أن كان في متناولهم قبل أكثر من نصف قرن.
3. محور مشروع الحل الديموقراطي للقضية الكردية في العراق وهو المشروع الذي رفضه القوميون العرب في العراق آنذاك ووجدوا أنفسهم بعد عقود مضطرين للقبول بما هو أقسى منه على مشاعرهم القومية الإلحاقية.
روادع الشيوعيين: خلت سياسة وبناء الحزب الشيوعي من توفير غطاء الحماية الرادع، وبقي الآلاف من مناصرية الشجعان مكشوفين أمام أجهزة القمع والمخابرات ضمن مسلسل متكرر لأكثرمن ستة عقود جعل من إسم الشيوعي مرادفاً للسجين والمعتقل والمطارد. وبعد أن ساد الإعتقاد لفترة من الزمن أن الحزب الشيوعي قد فهم الدرس جيداً وخبر أهمية أن يكون لحزب المهام الكبيرة جهاز ردع وحماية كبير غير الجسد البشري وصموده، وغير معنويات رفاقه العالية، تنازل الحزب الشيوعي طواعية وإيماناً منه "بالمرحلة الجديدة" وتنفيذاً لقرار هلامي بحل المليشيات ،عن أسلحته التي هربّها في زمن النظام السابق بمجازفات رفاقه ومغامراتهم التي قد تفوق التصور. وفي ساحة إمتلأت بالأحزاب والتجمعات الإنتهازية والمشبوهة التي لاترى في القتل الا حرفة مثل باقي الحرف ، بقي الحزب الشيوعي معولاً على تأريخه الطويل .. فاتحاً المقر تلو المقر .. ماضياً لبناء مجتمع عادل ظل يحلم ببناءه منذ ثمانين عام...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاخ علي بداي
نبيل عبد الأمير الربيعي ( 2012 / 3 / 30 - 17:56 )
تحية طيبة ومقالة رائعةو تحليل مادي تاريخي وفق المفهوم الماركسي للنطور التاريخي .شكراً لهذه المقالة والتحليل الذي لم يلتفت اليه احد


2 - تحياتي استاذ علي بداي
عبد الحسن حسين يوسف ( 2012 / 3 / 30 - 19:28 )
شكرا استاذي ابو حسين على هذا التحليل الرائع وفعلا مثل ما تفضلت ان الجذور الشيوعية مغروسة في ارض العراق منذ مئات السنين وقد ظهرت بمسميات مختلفة منذ ثورة الزنج المسلحة وكافة الثورات الفكرية التي جعلت من العقل والتجربة هو مقياس لصحة الفكرة وكل محاولات قلع هذه الفكرة بائت بالفشل لان الشيوعية كما قال الراحل ابو كاطع كل الذين يعملون بالارض يسمون فلاحين ولكن هناك فرق بين من يزرع الكراث وبين من يزرع النخل فزارع الكراث ليس لمحصوله جذور قوية في الارص ومن السهل قلع محصوله اما زارع النخل فنباته له جذور عميقة في الارض ونحن الشيوعيون زراع نخل جذورنا هو تاريخ ثوراتنا الموغلة بالتاريخ تحياتي استاذي الفاضل علي بداي


3 - فلنقلّها...
سمير طبلة ( 2013 / 3 / 30 - 20:01 )
صريحة، واضحة، صارخة: لا قائمة للعراق، ولكل شعبه، إلا بنهضة قلب حركته الوطنية الديمقراطية، ومن أخلص مخلِصِيه ومخلّصيه، الحزب الشيوعي العراقي، وتحمّله مسؤولياته الوطنية والتاريخية. وإلا فحكّامه الحاليون، وبمقدمتهم رئيس مجلس وزرائه، وحزبه، وتحالفه الطائفي، يمضون بالبلد نحو الجحيم!

اخر الافلام

.. في ظل تعذر إقرار ميزانية 2025.. فرنسا تلجأ إلى -قانون خاص- •


.. هل تنجح المعارضة بطمأنة المجتمع الدولي لقيادة مرحلة إنتقالية




.. غارات إسرائيلية عنيفة على قطاع غزة تقتل عشرات الفلسطينيين


.. سكاي نيوز عربية ترصد تقدم دبابات إسرائيلية في الجولان




.. لماذا تحركت إسرائيل في سوريا بعد سقوط الأسد؟