الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفرجة الإيهامية ونوستالجيا التحول الدرامي

هاني أبو الحسن

2012 / 4 / 2
الادب والفن




يشكل الحنين إلى التحول من حال قائم إلى حال مجرب من وقائع الماضي ، أو حال مأمول الوصول إليه ؛ يشكل رغبة ملحة عند بعض الناس الذين يعيشون حالة من القلق من واقعهم عند مقارنته بمحاسن يفتقدونها من ماضيهم ؛ تحرضهم على رفض الواقع الذي هم عليه؛ مع محاولاتهم المتكررة للخروج عليه ؛ والظهور بمظهر آخر ، مغاير ؛ حتى إذا ما تحقق لهم ذلك ؛ سرعان ما ينقلبون عليه - ولو بعد فترة – ويندفعون اندفاعا داخليا إلى هجره أو الخروج عليه ؛ بحثا عن مظهر آخر أو وجه آخر ، يمنحهم روحا جديدة غير الروح التي تسكنهم ، وهنا لا يكون أمام كل منهم غير القناع الوهمي؛ الذي يعطيه وجها جديدا غير وجهه وروحا جديدة غير روحه، وسلوكا جديدا غير سلوكه. وسواء استغرقت هذه الحالة من حالات التحول فترة وجيزة أو فترة قصيرة ؛ فإنها تعود به إلى حالة من الحنين المكبوت لماض لم يحقق فيه رغبة أو صورة كانت مأمولة في موقف أو لحظة من لحظات مسيرة حياته الماضية. وعبر رحلة تحوله من وراء القناع الوهمي الذي تلبسته روحه ؛ يتحقق له الانفراج ، ويعيش حالة التذاذ أو فرجة داخلية عبر إيهامه لنفسه.
ولا شك أن الممثل المبدع يعيش حالة الحنين تلك في كل دور يضطلع بأدائه ، حيث الحنين إلى شخصية ما حلم بأن يكونها . وكلما عايش حالة الحنين تلك ؛ كان صدقه الفني، وكانت لذته الحسية، التي سرعان ما تنتقل إلى جمهور المتفرجين.
وإذا راجعنا مثل تلك الحالة ( النوستالجية) في الشخصيات المسرحية ؛ سوف نجد الكثير منها ، فمنها ما بث حنينه إلى نفسه؛ تعويضا عما افتقده بما يتمناه عبر مونولوج أو مناجاة ، ومنها ما بث نجوى حنينه إلى ما يصبو إليه على هيئة بوح ذاتي لحيوان أليف مثلما تفعل " عبلة" في مسرحية (عنترة) للشاعر أحمد شوقي ، التي تبوح إلى ناقة بحنينها إلى عنترة . أو على هيئة بوح ذاتي ، لشيء أو أداة من أشيائه ، مثلما تفعل " براكساجورا" في مسرحية ( برلمان النساء ) :
" براكساجورا : ( تخاطب قنديلها المضيء في يدها )
إيه يا قنديلي المنير
صانع الفخار شكلك وجملك
طين ولكن زى نور الشمس تهدي خطونا
لما تتجلى علينا بطلعتك وبطلتك. "
ومن الشخصيات المسرحية التي تأسس فعلها الدرامي المحوري على مسألة الحنين ، كانت شخصية ( على جناح التبريزى) في مسرحية ألفريد فرج الذي هو خير مثال على نوستالجيا الشخصية الدرامية التي تحن إلى مجتمع العدالة الاجتماعية، المفتقدة في مجتمعاتنا العربية. فهي تكشف لنا عن محاولة تحقيق المأمول الذي تفتقده مجتمعاتنا الشعبية بالوهم والإيهام:
"( يدخل صواب وكأنه يحمل طبق النحاس )
علي: أسرع يا صواب فصاحبي جائع.
قفة: إئتنا..إئتنا.. وسع الله عليك .
( صواب كأنه وضع الطبق أمامهما، وقفة يعتدل ويشمر ساعديه، ما زال
معصوب العينين )
علي: مد يدك يا صاحبي ولا تستح( كأنه يتناول شيئا في فمه )
الله !
( قفة يمد يده بمنتهى الثقة ، فلا تصادف شيئا يحركها يمينا وشمالا بلا
نتيجة. يدفع بيديه الاثنتين في كل اتجاه. يجمد . ثم يرفع عصابته بسرعة
فيفزع ويقفز مبتعدا وهو يرتعش )
علي: ما بالك؟ لا عليك بأس .
قفة: (بحذر) لا شيء .. غير أني في بعض الأحيان أرى أشباحا.
علي: وماذا رأيت الساعة ؟
قفة: ( يشب ويتطلع إلى حيث الطعام الموهوم بخوف ) رأيت طعاما.
على: فتقدم وكل بالهناء والشفاء.. "

إذا كان الحنين إلى العدالة الاجتماعية في ظل أنظمة عربية مفترضة أو مأمول وجودها بديلا عن الأنظمة الحالية ، عاملة على خدمة شعوبها هو الهدف الذي أراده مؤلف النص ؛ فإن حنين (قفة) إلى سد رمقه هو الهدف الذي يأمل في تحقيقه؛ فالأمل في تحقق العدالة الاجتماعية على مستوى شعوب المجتمعات العربية ، هدف عام يحن إليه المؤلف ، نائبا عن الشعوب التي تفتقد العدل الاجتماعي . أما الأمل الخاص الذي يحن (قفة) العامل المطحون إلى تحققه هو حق غريزي لكل كائن حي ؛ حتى يستمر في مواصلة الحياة( سد رمقه) والصلة بين الهدفين صلة قربى ؛ فلو كانت العدالة الاجتماعية متحققة لما كان حرمان قفة أو غيره من الحرفيين من أبسط حقوق الكائن الحي في الحصول طعام يومه ، دون تزلف أو مداهنة ودون أن يريق ماء وجهه :
" قفة : ( جانبا ) إن كان مجنونا وخالفته ربما حصل لي منه ضرر. . أجاريه لعل
بعد ذلك يأتي الطعام ( يحزم أمره ويتقدم من علي وهو يبذل جهدا ليتغلب
على خوفه ) سيدي .. لا تؤاخذني إن اضطربت ساعة رأيت الطعام ، فذلك
من طول شوقي إليه .
علي: ( يقبض على ذراعه ) تعال. اجلس هنا في صدر السفرة، واضرب بيدك
فيما شئت من الأطباق ، لا تستح. أنا أعلم ما أنت فيه من شدة الجوع.
انظر هذا الخبز وانظر بياضه ( كأنه يقدم له الخبز )
قفة : ( كأنه يتناول الخبز وما يزال يقاوم خوفه ) الله ! أحلف لك يا سيدي عمري
ما رأيت أحسن من بياض هذا الخبز ( كأنه يقطع ويأكل ) ولا ألذ من
طعمه ( جانبا ) أما خبز !
علي: هذا يا صاحبي خبزته جارية كنت أشتريها بخمسمائة دينار. ذق من هذا
الكباب الذي لا يوجد مثله في طعام الملوك.
قفة : ( كأنه يأكل ) صدقت . والله مدهش .
علي: كل يا ضيفي فأنت ضعيف ومحتاج إلى الأكل. ذق هذه الفراخ المحشوة
بالفستق.. "
هكذا تبدأ عملية المشاركة الإيهامية ، حيث يبدأ ( قفة ) في الاندماج في اللعبة الإيهامية :
" قفة : ( كأنه يذوق وقد بدا يستمتع باللعبة ) الله ! لا إله إلاّ الله ! يا مولاي ..
هذا الطعام لا نظير له في اللذة . ( يفعل كأنه يلقمه ) يا اللـه خذ الصدر
من يدي ولا ترّده ( جانبا ) الولد خليع وظريف والله. إن كـان غـرضه
يمازحني أمازحه ؛ ليكافئني .. بعدها ( يصيح ) الله !! الله !! "

هكذا كما نرى ؛ فإن الأمل في الحصول على شيء ما يدفع صاحب الحاجة إلى النفاق ، وهناك مثل يقول : ( صاحب الحاجة أرعن ) ومع استمراء الشخص الذي يبتغى من ورائه أمل أو رجاء في الحصول على شيء ؛ تتسع مساحة زهوه وتتضخم ذاته ؛ ويزداد اعتقاده بصحة موقفه ؛ ومن ثم يزداد تصديقه لنفسه واستمتاعه بما يفعل. ومع استمتاع الشخصية المسرحية بلعبة إيهامها المشتركة تحقق الالتذاذ لنفسها – افتراضا – وللممثل الذي يقوم بتشخيصها ؛ ومن ثم ينقل حالة الالتذاذ عبر الفرجة إلى الجمهور :
" علي: أكثر، وتلذذ ولا تستح. أرأيت بالذمة أطيب من هذه الأطباق ؟
قفة : عمري ( يضحك ويعربد وقد ذهب خوفه وغلبه مرحه )
علي: لولا براعة هذا الطباخ ؛ كنت طردته ؛ لأنه قليل الحياء، ويخالفني في كل
شيء .
قفة : ( يفعل كأنه يلتهم بهمجية أطعمة من مختلف الأطباق ، بعيدها وقريبها
ويلتقط ما يتساقط من يديه ، ويمسح ما يتسرب من فمه أو على ملابسه،
إلخ .. ) حيّا الله قلة حيائه . "

ومن الطبيعي أن تولد المبالغة في الإيهام ؛ نفيا للإيهام نفسه عند المتلقّي ؛ إذ يخلق عملية استلاب بالمعنى الفلسفي ، أوعملية تبعيد أو تغريب بالمعنى المسرحي؛ وهذا ما توصلت إليه بلاغة البنية الفنية عند ألفريد فرج بتوظيفه لبنية
ذات سمات ملحمية بريختية ؛ قصد بها استلاب المصداقية ؛ والتشكيك في صدق الصورة أو الحالة المعروضة على الجمهور :
" علي: كل ولا تقتصد .
قفة : ( يتلوى على الأرض ) آه يا بطني .. سيدي اكتفيت.
علي: آن أوان الحلويات .. يا صواب الحلويات "

هكذا يتكشف الحوار عن حالة الحنين إلى حياة نظيفة ، مريحة وكريمة ، إلى انخراط ( الصرماتي) المعدم في عملية تصديق للنفس وللآخر القائم بعملية الإيهام مستمتعا بها ، كلون من ألوان التنفيس عبر نوستالجيا أو حنين موهوم ؛ حيث يعيش حالة مغايرة لما هو عليه ، حالة تحقق وهمي وانفراج لحنين مكبوت إلى حياة شبه آدمية كريمة ، ولكن عبر قناع مجاراته أو تفاعله مع حالة الإيهام التي يعيشها التبريزي ، الذي تمكّن من إلباسه قناعا مناظرا لقناعه الوهمي.

الفرجة الإيهامية ونوستالجيا التحول

للفرجة الدور الأساسي في الأعمال الفنية وفي الأعمال الأدبية ؛ إذ هي الوسيلة الرئيسة في تخليق المتعة البصرية والسمعية للمتلقي لفن من الفنون المرئية أو السمعية بصفة عامة ، وفي فنون العرض المسرحي بصفة خاصة ؛ على أساس أن المتعة هي مدخل الفن والأدب إلى الإقناع بالفكرة أو بالقيمة المراد توصيلها من خلال عمل فني أو أدبي . غير أن أشكال الفرجة تتغير ما بين الفنون الأدائية والفنون غير الأدائية ( النصية المقروءة ) ، كما أن لكل فن من الفنون عناصر الفرجة التي يتجسد بها شكل فرجته. فالفرجة البصرية في فنون التشكيل ، سواء في الصورة أو في التمثال ، تختلف عن فنون الفرجة على الصورة السينمائية ، كما تختلف عن الفرجة في الصورة المسرحية. وتختلف عناصر الفرجة في مكونات الصورة المسرحية في النص عنها في العرض ، كما تختلف العناصر المشكلة للتكوين المسرحي في عرض المسرحية عن طريق فنون الأداء التمثيلي.
وبسبب طبيعة، الفرجة والدور الذي تقوم به في العرض المسرحي على تنوع أساليبه أو مدارسه، وبسبب تنوع صور الفرجة كان هذا البحث، إذ من المعلوم أنه لا قيمة للشيء إلا بالقدر الذي يفيد وينفع أكبر عدد من الناس. وفي الطبيعة ، تتشكل ثنائية النفع والضرر تبعا للحاجات البشرية المتعددة والمتضاربة ، فما ينفع البعض مما زخرت به الطبيعة؛ قد يلحق الضرر بغيرهم ، وما يراه الكثير أو القليل من الناس جميلا ، قد يراه غيرهم قلوا أو كثروا قبيحا. ومعنى هذا: " أن كل شيء في الوجود يحمل ثنائية النفع والضرر" أو الجميل والقبيح. ففي الشعر يقول الشاعر إيليا أبو ماضي :

" أي هذا الشاكي وما بك داء كن جميلا ترى الوجود جميلا "
وفي مجال المسرح يتبنى الكاتب المسرحي الفرنسي جان جيردو ، نظرية إلقاء تقدير الصورة على المتفرج الذي يتلقاها ، ولذا فقد عبر عن ذلك الرأي في نص مسرحي مشهور له هو ( لكم أنت جميل أيها الرجل)
فالتعبير الشعري ، كما التعبير النثري في فن من فنون الأدب ، مثله مثل التعبير الفني ، في المسرح أو السينما أو في التشكيل أو الموسيقى أو في الرقص؛ يحمل ثنائية التعبير عن القيم النافعة والقيم الضارة ، كما يجمع في ثنائية تكوين الصورة الفنية بين الجميل والقبيح . وهكذا تتمثل تلك الثنائية نفسها في مجال الفرجة،آداب وإن أخذت تسميات أخرى مختلفة ما بين نظرية وأخرى ، مثل :( الرائع في المشوه ، والمشوه في الرائع ) – بتعبير نظرية التغريب الملحمي في مسرح برتولد بريخت – " أو ( الفرجة والفكر في التعبير المسرحي ) بتعبير د. على الراعي في وصفه لفن توفيق الحكيم المسرحي -
والرائع في الصورة الأدبية أو الفنية في أي نص أدبي شعري أو نثري ، أو نص مسرحي أو عرض مسرحي، يتجسد من خلال الفرجة الفنية ، فهي التي تحقق المتعة للمتلقي لنص أدبي روائيا كان أو شعريا أو دراميا أو لقطعة من الفن التشكيلي أو الفن الموسيقي أو الفن التمثيلي أو الفن السينمائي أو قطعة من التعبير الجسدي الراقص الكلاسيكي أو الإيمائي ؛ فبدون اللذة التي تتركها الفرجة على الصورة في نفس المتلقي لها ، لا يتحرك وجدان المتلقي منفعلا بالصورة الصوتية الأدائية أو المرئية أو متفاعلا معها ؛ لأن من شروط الفن والأدب أن يمتع المتلقي قبل أن يقنعه بما تحمله الصورة أو التعبير من قيم إنسانية أو اجتماعية مؤثرة .




الدعوة إلى فرجة مسرحية شعبية

في دعوته لفرجة مسرحية شعبية كتب يوسف إدريس تحت عنوان (نحو مسرح مصري) سلسلة مقالات منشورة بجريدة الجمهورية المصرية 1966 . وفيها يدعو إلى شكل مسرحي مصري ، أو عربي يرتكز فيه على فنون السامر الشعبي وهو الأمر الذي سعى إلى تحقيقه إبداعيا بنصه المسرحي الشهير :
( الفرافير) وإن كان ذلك النص قد عرض عرضا تقليديا على خشبة مسرح العلبة الإيطالية ، واكتفى مخرجه كرم مطاوع بأن ترك ستارة خشبة العرض مفتوحة ، للدلالة على حالة التواصل بين الجمهور والعرض ، هذا فضلا على أن مضمون العرض نفسه يعالج فلسفتين عالميتين معا ( الوجودية المادية ، والوضعية ) ليصل في النهاية بأبطاله الرئيسيين ( فرفور – السيد ) إلى أن جوهر وجودهما الذي أوجدهما عليه مؤلف المسرحية هو جوهر ثابت ، قد تقرر في الغيب ، وأن محاولة كل منهما للخروج من وضعيته فرفورا( عبدا) أو سيدا غير ممكنة ، لا في الحياة ولا بعد الموت ، حيث الوجود الغيبي فيما بعد الموت ، وحياتهما في مجملها حياة جبرية ، وما كان من محاولات تغيير كل منهما لوضعيته التي وجد عليها ، ما هي إلاّ في الحدود الاختيار الجزئي المسموح به من أجل استمرار الحياة . فكل شيء يسير بقدر مكتوب ومحفوظ في الغيب ، كما رسمه مؤلف هاتين الشخصيتين أو خالقهما. ( فليس في الإمكان أبدع مما كان ) وهو الأمر الذي لا يحقق لطرح يوسف إدريس مصداقية فكرته عن مسرح السامر الشعبي، لأن المضمون الفلسفي الذي ترمي غليه مسرحيته تلك ، أعلى من فهم جمهور السامر الشعبي، وهو بذلك إنما يفصل فكرة الشكل الذي دعا إليه نظريا عن مضمون عمله المسرحي "

الفرجة المرئية والفرجة السمعية

" الفرجة نوع من أنواع الخروج بالتلقي من حالة إلى حالة أخرى ؛ كأن تكون في حالتها الطبيعية المنطقية المعتادة؛ فتخلق مع الشخصية المسرحية في أحلامها، أو تشف عندما تشف الشخصية. ويحدث هذا الخروج أو الانتقال بالمتلقي من حال إلى حال أسمى أو أرقى عبر عناصر التعبير الدرامي بالصورة المرئية وبالصورة السمعية أيضا ؛ بمعنى أن الفرجة ليست مقصورة على المرئيات ، ولكنها تنسحب على المسموعات أيضا." والفرجة " تكون في كل ما هو غريب ، فكل غريب مثير للفرجة، لأنه يجذب المتلقي له ويستوقفه ويشغله عما عداه ولو للحظة "

ولأن الفرجة تتعدد وتتباين، مثل الفكر الذي يستعين بها في وظائفه المتضمنة في الإبداع الأدبي أو الفني ، لذا تتلون صور الفرجة بما يناسب الفكرة التي تغلفت بها. من هنا تعددت أشكال الفرجة في الفنون بعامة وفي فنون المسرح بخاصة ؛ فهناك أشكال عديدة للفرجة " منها السيرك ، الألعاب الرياضية وعروض التزلج والعروض العرائسية والاكروباتية "
يقول د. سلام " الشكل هو الإطار الخارجي للأحداث ، وهو يثري العمل الفني وينظمه ، ويوحد بين عناصره ، ويحض على التأمل في قيمه ومضامينه الفكرية والاجتماعية والكونية وكلما كان أكثر طرافة وقدرة على تحقيق عنصر الإمتاع كان أقدر على تحقيق الإقناع." ويضيف معرفا الفرجة " الفرجة نتاج مهارة تصويرية أو أدائية بالقول أو بالحركة أو بالتشكيل في المكان أو في الزمان في إطار فن من فنون الأدب أو الفنون الأدائية التمثيلية أو الموسيقية أو التشكيلية "
فمثلا في مجال فن الرقص أو التعبير الجسدي يقول د. حسن المنيعي :
" يستعمل الراقصون جسدهم كمادة أولية لإنجاز مهاراتهم التي تنفث البهجة في نفوس المتفرجين. " ويضيف " كما أن كمية كبيرة من الكلمات تخفي في الغالب الكلام الحقيقي ؛ فإن هذه الطلاقة التعبيرية للجسد تخفي الدلالة الحقيقية لهذه الفسحة التي تعرض نفسها على النظر . "

يعترض د. أبو الحسن على قول د. جميل حمداوي حول دور المصمم السينوغرافي : "يمكن اعتبار السينوغرافي في الحقيقة مخرجا مساعدا أو مخرجا ثانيا للمخرج . وإذا فشل السينوغرافي في عمله وتزيين الخشبة وتأثيثها مكانيا ، فإن هذا العمل سيؤثر بلا ريب سلبا على عملية الإخراج بشكل كلي." ويضيف: علاقة السينوجرافي بالمخرج علاقة استقلالية- علاقة تنسيق تشاورية-علاقة تداخل وتقاطع "
ويتساءل د. أبو الحسن سلام " لا أدري .. كيف يكون السينوغرافي مخرجا ثانيا للمخرج المسرحي ، هل يعني ذلك أنه يراجع عليه عمله ؟ وكيف يكون مساعد المخرج ، والمخرج الثاني لما أخرجه المخرج المسرحي نفسه ؟ وكيف يكون مجرد منسق للعرض ، وكيف يكون مجرد مستشار للمخرج ، ويكون مراجعا على إبداع المخرج نفسه ؟ كيف يكون كل هؤلاء ؟ وإذا كان دوره دور المستشار الفني ، فما هو دور الدراماتوجي إذن ؟ ثم من قال إن عمل السينوغرافي هو تزيين خشبة المسرح؟ إن جوهر عمل السينوغرافي هو وضع رؤية تشكيلية إخراجية فرجوية مركبة من كل المرئيات والمسموعات في الصورة المسرحية المتكاملة المجسدة للمعادل الفني لمضمون النص المسرحي "
يقول د. أبو الحسن سلام " وتأسيسا على تأكيده بأن ما يقال عن سينوغرافيا في العرض المسرحي الإغريقي في القدم بأنه كان مقصورا على " فن التزيين " وقوله السابق بأن " لا قيمة للسينوغرافيا إلا في سياقها النصي" يصبح القول بوجود سابق لمفهوم السينوغرافيا في غير مسرح الصورة الحداثي وما بعد الحداثي، كلاما خارج إطار التأصيل المنهجي والعلمي ، بغض النظر عن تقسيمات د. حمداوي لما أطلق عليه : مسرح سمعي ، ومسرح مرئي ومسرح حركي، فالمسرح إما أن يكون مسموعا مرئيا ، وإما أن يكون حركيا مرئيا "

• الفرجة في عرض فلسفي :
في عرض مسرحية ( الجحيم) الذي قدمته فرقة ألمانية للفيلسوف الوجودي سارتر ، ضمن عروض مهرجان القاهرة التجريبي اعتمادا على لغة الجسد وحدها في غرفة مغلقة محكمة الإغلاق ، بحيث تفشل كل محاولات شخصياتها الثلاث المتعارضين في الإرادة والمشاعر ، باعتبار كل منهم ذاتا كتبت عليها الحرية ، ذاتا منعزلة عن القطيع البشري – بتعبير سارتر – تفشل محاولات كل شخصية في الخروج من وجودها الجبري ، في محاولاتها المستميتة للخروج من ذلك الوجود الجبري لتحقيق جوهر وجوده بذاتها منقطعة عن الآخرين. لذا نرى جارسان– الصحافي الفرنسي الذي رفض التجنيد الإجباري ، واعتبره قهرا لذاته في سبيل مصالح الآخرين المتربعين على كراسي الحكم من الطبقة العليا ، لذلك أعدم رميا بالرصاص ،، نراه يرفض الاستجابة لرغبات جنسية للفتاة الساقطة ، التي ترفض بدورها الاستجابة لرغبات المرأة الشاذة .. وما كان هذا الرفض الذي عبر عنه الرجل إلاّ تعبيرا عن رغبة الأنا عنده في أن تكون لها حرية الاختيار فيما تريد وما تشعر ، وما كان رفض استجابة الفتاة لرغبات المرأة الشاذة سوى تعبير عن رغبة الفتاة في أن تكون لها إرادتها الحرة دون سيطرة من الآخر ( المرأة السحاقية ) ، وما كانت محاولة كل من الشخصيات الثلاث للخروج من باب تلك الغرفة المغلقة ، التي يمكن أن تكون رمزا للقبر ، بعد أن ماتوا ثلاثتهم ، الصحافي رميا بالرصاص ، والفتاة بسبب مرض ، وكذلك المرأة.
وقد يبدو غريبا أن يصل معنى النص كما يريده سارتر مسرحيا ، وفلسفيا وجوديا ، حيث يتجسد في حركة الممثلين أو الراقصين الوجود الجبري أو القهري للغيب ، قبل الموت وبعد الموت ، دون كلمات من حوار في أداء الممثلين . غير أن ذلك –في رأيي – يدركه من قرأ الفلسفة الوجودية وفهم فكر سارتر المادي ، وبخاصة من قرأ نص المسرحية من قبل أو شاهد عرضها بأداء لغة الحوار . غير أن إدراك معنى القهر أو الجبر يمكن أن يدركه المتفرج على عرض المسرحية بلغة الجسد والمنظر التشكيلي للغرفة ، بوصفها معادلا لفكرة النص غير أن دلالة العرض هنا تكون متعددة بتعدد المتفرجين ، بمعنى وجود دلالة درامية خاصة للعرض عند كل متفرجة ، فالدلالة التامة غير موجودة ، لعدم توحد الجمهور مجتمعا مع ما يرمي إليه العرض ، وهو: ( الجحيم هو الآخر) وهي مقولة النص نفسه.
ومن المهم هنا أن نلاحظ توحد رؤية كل من المخرج والسينوغراف مع مقولة النص ، على الرغم من أن المخرج اعتمد على لغة الجسد ، بعد أن نفى من العرض لغة الحوار المنطوق . لأن ما رأه الجمهور ، بلغة الجسد بصفتها معادلا بصريا حركيا إيمائيا ، متضافرا مع المنظر؛ حيث ( الإغلاق المحكم للغرفة ) قد حقق فكرة الجبر ، فالشخصيات مقيدة الإرادة ، وعاجزة عن تحقيق ما تشعر به وما تريده ، على مستوى العلاقة بين كل ذات وأخرى ، وعلى مستوى العجز عن الخروج من ذلك الجبر الوجودي الذي فرض عليهم.






الفرجة عبر وسائط فنية غير مسرحية

في عرض ( الفراشة العذراء) وهو عرض يجمع بين فنون صندوق الدنيا والسينما والمسرح ، من حيث السينوغرافيا ، أما الموضوع فتتداخل فيه أيضا القصة الفلكلورية المستلهمة من قصة شعبية حقيقية وقعت في صعيد مصر هي القصة المعروفة ( شفيقة ومتولي) مع قصة حقيقية أيضا وقعت لمطربة تونسية الجنسية يهودية الديانة ، تدعى " حبيبة" وقد عاشت في القاهرة على أيام الموسيقار سيد درويش وغنت له أغنيته الشهيرة ( زوروني كل سنة مرة) . ويربط العرض ربطا كولاجيا بين القصتين ، حيث تقوم كل منهما على قصة حب ، ، فشفيقة تحب متولى ، في القصة المستلهمة من التراث المصري ، حبيبة تحب ضابط في الجيش المصري وهو أنور ، ويحول والد شفيقة دون زواجها من متولي ، ويحول والد أنور وهو من الطبقة الأرستقراطية المصرية دون زواجه من المغنية حبيبة، غير أن الأحبة يتزوجون في نهاية العرض .. فبعد أن يذهب الضابط أنور مع فرقته للحرب في فلسطين ضد الغزاة الصهاينة ، وتبرأ حبيبة من جريمة قتل صاحب الكازينو الذي كانت تعمل به ، وتفلت من الحكم عليها بالإعدام ، بعد اعتراف عشيقته القاتلة بقتله قبل النطق بالحكم ، تتطوع مع أنور ممرضة في الجيش المحارب . وكذلك تكشف الأحداث عن عدم موت والد شفيقة ، ونجاته ، مع براءة متولي من الاتهام بمحاولة قتله ، يتم زواجهما . و يتضح من عرض الحدث طبيعة البناء الميلودرامي للعرض. أما التداخل في الشكل ، فيتضح في إيهام المتفرج بأن العرض الذي يشاهده هو فيلم سينمائي ، بينما هو في الواقع عرض مسرحي حي ، حاضر في مواجهة جمهور حاضر ، وكل ما في الأمر أن المخرج السينوغرافي قد وضع شاشة عرض سينمائي مكان الستار الرئيسي لمنصة العرض المسرحي ، وأسقط عليها أشعة ماكينة عرض سينمائي حقيقية ، مع صوت آلة العرض من الطراز القديم جدا التي عرفت في عروض أفلام الأبيض والأسود ، وما يصاحب الصورة من خدوش وتقطع عرض الصور ، لكن العرض المسرحي خلف الشاشة السينمائية الموهمة يتم بالتمثيل الحي ، ولكن بإيقاع حركة ممثلي السينما في بدايات صناعة الفيلم ، مما خلق نوعا من الإيهام بأن العرض هو عرض لفيلم سينمائي . ولا شك أن هذه الحيلة السينوغرافية الكولاجية المبتكرة هي لون من ألوان التجريب في فنون السينوغرافيا؛ لذلك نراه من صميم التجريب في فن السينوغرافيا التكعيبية . 1


الفرجة الإفتراضية في النص الموازي

" ففي مجال الكتابة المسرحية هناك من الكتاب المسرحيين ، سواء على المستوى العالمي أو على المستوى العربي من يهتم برسم صورة ذهنية افتراضية لسينوغرافيا نصه المسرحي من خلال النص الموازي ( الإرشادات التي بين الأقواس، عن البيئة والزمان الذي يجري فيه الحدث الدرامي ، وحركة الممثلين المتخيلة للشخصيات وكذلك المؤثرات أحيانا) ومنهم من يزاوج بين تصوره للسينوجرافيا الافتراضية لنصه والفكرة التي يحمّلها للصورة السينوغرافية، التي يريد أن يخرج بها نصه ؛ بحيث تتواءم مع المعنى في العرض المسرحي . على أن ذلك لا يعدو إن يكون مجرد تصور ذهني افتراضي للصورة التي يتمنى أن يتحقق بها إنتاج نصه المسرحي . وغالبا ما لا يأخذ به عدد غير قليل من المخرجين ، بخاصة المفسرين منهم والمؤولين من مخرجي الحداثة وما بعدها ، أولئك الذين يفككون النص من بنيته إلى خطابه الدرامي . ومنهم السينوغرافيين بالتحديد ، الذين يجسدون المعادل الموضوعي للحوار أو يستبدلونه بالصورة "

ذلك أن " كل نص يحتوي على مساحة ضرورية تسمح لكل متفرج أن يترك المسرح وبرأسه أفكار ، ومشاعر وتأملات مختلفة جدا ومحفزة جدا . "
نوستالجيا الفرجة الإيهامية في مشهدية التمسرح


كثيرا ما تتجسد صور الحنين في الدراما المسرحية من خلال مشاهد التمسرح ، أو ما يعرف بالمسرح داخل المسرح :
"( تنسدل ستارة في المستوى الأوسط للمسرح فتحجب المؤخرة. نحن الآن في غرفة سالم الزير بالقصر الملكي. صخب وفوضى وهرج. رجال ونساء في حالة سكر وغناء غير واضح ، يسكتون ساعة يقف الزير وكان متكئا على الأريكة ، بيده كأسه .)
سالم: يا مجّان العرب، أيها الخلعاء والمطاريد والشعراء والصعاليك ، أصدقائي
وندمائي، فلنشرب تحية..
رجل: (مقاطعا) للشعر !
سالم: لا.
الفتاة: للحب !
سالم: لا.
ثالث: للخمر !
سالم: لا.
رابع: ما تقول..
سالم: لما لم نر، وما لم نسمع ، وما لا نعرف، فهو مناط أشواقنا !
الأول: ارو لنا قصة صيدك للأسد يا أمير.
أصوات: احك، تكلم.
سالم: إلى بفرسي
( يلبس الرابع رأس وجسم فرس، محلّى بالأجراس ، ويتقدم من سالم
مختالا، فيمثل أنه قد امتطاه )
سالم: اندفعت بفرسي إلى بئر السباع
ثالث: كيف ماؤه ؟
سالم: شفاء من الخوف . تركت الفرس ونزلت البير، أملأ قربتي فدهتني شهقة
للفرس ، وصيحة عالية قفزت لها راجعا فوق ، وإذا بسبع كاسـر ، مال
يقيس بناظريه فرسي ، فأطلقت صيحة رمته علىّ.
( يندفع أسد إلى سالم ، فيشتبكان بينما يفر الحاضرون مذعورين. سالم يحز
رقبة الأسد بسكينه ؛ فإذا في جوفه عجيب المضحك. يلتفت عجيب حواليه
فلا يجد أحدا )
عجيب: اخجلوا أيها السادة من ضعف قلوبكم، فلست إلاّ عجيب مضحك مولاي
الأمير. ( يدخل الندماء ينظرون بحذر ثم يضحكون )
الأول: أرعبتنا ، الله يجازيك.
الفتاة: وأين كنت يا عجيب ، وسيدك يصارع الأسد ؟
عجيب: كما ترون. حين حز مولاي رأسه ، خرجت معافى.
الفتاة: والجنيّه ؟!
سالم: رافقتني طوال الطريق، تهش على لبؤات وأشبال السبع وأخوته.
عجيب: إلى أن وصلنا ظاهر المدينة.
سالم: بكت وقالت.. ( الفتاة قد تنكرت في زي جنيّه ، تندفع نحو سالم )
الفتاة: أحبك يا أميري وملكي. تزوجني أمنحك ملك السماء والأرض.
سالم: ( يحتضن الأسد والجنيّة كل بذراع ) يا رفيقي سكّتي ، صديقّي.. المشكلة
هي إني أحب الشمس ، ولا استطيع أن أتزوجها . ( ضحك ) وأن الشمس
تحب القمر ولا تستطيع أن تتزوجه (ضحك) ولذا ندور نحن الثلاثـة في
فلك مستحيل.
الفتاة: تتنهد بحرقة تمثيلية) آه ! ( ضحك )
عجيب: ورأي أن حبا مستحيلا خير من حب ممكن . ذلك أن الحب الممكن إلـى
زواج، والزواج إلى عناء ومناهدة ونكد. ثم يجئ الأطفـال وهم مشكلة ،
يحملون اسم أبيهم دون حكمته ، وحمق أمهم دون جمالهـا . وكلما كبروا
يدفعون أباهم نحو هاوية الشيخوخة بينما تجهز أمهم عليه، لذلك فالفراشة
أعقل من كل بني الإنسان.. من كل بستان زهرة !
الأول: نحن على دين الفراشة !
عجيب: فتنهدت حتى انخلع قلبها، واحترقت بلهبها وسقطت كومة رماد.
أصوات: آه !
سالم: عالم موحش ، وإنسان وحيد !
عجيب: لو قدّر للإنسان أن يختار غير مصيره فيصبح شجرة (يقف كالشجرة)
أو صخرة ( يتكوم كالصخرة) أو طيرا نطاطا ( يقفز في خفة) أو حفنة
رمل تتساقط ( يتهافت) أو لو كانت الشجرة تستطيع أن تختـار غيرها
فتصبح إنسانا يتكلم ويلوح ..
(يلوح بذراعيه في حركة ميكانيكية وهو يقلد حفيف الشجرة )
أو تصبح الصخرة طيرا نطاطا (يقفز قفزات ثقيلة وهو متماسك الأعضاء)
لكانت الدنيا أدعى للضحك .
الفتاة: اختار لك أن تكون دودة.
عجيب: أنا دودة.. ( يمثل مشية الدودة ) الأولاد يرثون العرش والمال والمتاع ،
وأنا أرث الملك نفسه .
الفتاة: ما أفظعكم بشر بلا ضمير.
عجيب: أيمكن أن يكون رجل بلا ضمير؟
سالم: أيمكن أن يكون ضمير بلا رجل ؟
عجيب: أهما نفس الشيء ؟
سالم: اسأل النجوم !
عجيب: ( من الشباك يصيح) أيمكن أن يكون ضمير بلا رجل ؟
سالم: اسأل الصخر.
عجيب: (يركع ، يصيح للأرض) أيمكن أن يكون الضياء ولا تكون الشمس ؟
اسأل ظهرك لبطن "




تحليل الصورة المرئية
في الحوارية السردية
تمتلئ الحوارية السردية السابقة بالصور المباشرة التي تترجمها المخيلة البصرية للمتلقي بالاستماع ، وبالصور الذهنية – غير المباشرة- التي يترجمها ذهن المتفرج المنصت إلى صورة معنوية . وتتمثل الصورة المباشرة في عبارة سالم:
( اندفعت بفرسي إلى بئر السباع / تركت الفرس/ ونزلت البير .... إلى نهاية حكيه الذي يصف صورة الموقف الدرامي ) ومثل تلك الصور السردية المباشرة تحقق للمستمع فرجة بصرية مباشرة ، بينما تتحقق الفرجة غير المباشرة عن طريق سقوط الصور الذهنية المركبة المعنى التي تحتاج إلى بعض التأمل لفك شفرتها أولا حتى تترجم إلى معنى أو دلالة.

• تقنية القطع والوصل بين الصورة
الصوتية والصورة الحركية:
ما بين القطع المقصود من أحد الندماء لحكي سالم ، متسائلا بجملة استدراكية:
" سالم: اندفعت بفرسي إلى بئر السباع
رجل: كيف ماؤه ؟ مع إجابة سالم له : " شفاء للناس ."
ثم وصل ما انقطع من استرسال الحكي ، بعبارة سالم الاستهلالية: " تركت الفرس.." يتضح التأثير الفني لأسلوب كتابة السيناريو الخاص بفنون الشاشة ، الذي يستخدم حيل القطع والوصل بين لقطة ولقطة تالية لها. فأسلوب القطع والوصل الذي يستهل به هذا المشهد المسرحي الاستعراضي الأقرب إلى صناعة الصورة التليفزيونية منه إلى الصورة المسرحية، إذ يحقق عنصر التشويق الدرامي؛ فإنه يحقق عنصر الفرجة المسرحية أيضا، لأن التشويق يستهدف المتفرج ؛ مثلما يستهدف أصدقاء سالم المنصتون لقصة بطولته المزعومة !! ذلك أن الصورة الصوتية تتحول تلقائيا إلى صورة مرئية عبر تخيل المتفرج عن طريق السمع المنصت ، بمتابعة مراحل حركة سالم "
• مكونات الصورة الصوتية ولذة النص:
تشكل الصور المتفرقة في ثنايا حكي "سالم" في سرده لحكايته المخترعة في مصارعته للأسد " تشكل صورة كلية لمضمون بطولته الزائفة. وتتمثل تلك الصور المتتالية والمترابطة ، وهو ما يتضح تبعا لتحليل محتوى نص حوارية سالم كالآتي :
" اندفعت بفرسي إلى بئر السباع " (صورة أولى)
" تركت الفرس" (صورة ثانية )
" ونزلت البير" (صورة ثالثة )
" فدهتني شهقة الفرس" (صورة رابعة)
" وصيحة عالية" (صورة خامسة)
" قفزت لها راجعا فوق (صورة سادسة)
" وإذا بسبع كاسر مال يقيس بناظريه فرسي (صورة سابعة)
" فأطلقت صيحة رمته علىّ " ( صورة ثامنة)

تحتوي الحوارية على بنية درامية سردية من ثماني نقلات صوتية/حركية ، كل نقلة منها تشكل صورة جزئية من الصورة الكلية للموقف الدرامي السردي المحكي عنه ، وهي نقلات مناظرة لنقلات أو لقطات كاميرا سينمائية."
أما القيمة الدرامية للحوارية السابقة ، نفسها فتتخذ أسلوب التغريب الملحمي تأكيدا دراميا للصورة المرئية للسرد التشكيلي عبر التعبير الأداء التمثيلي للمشهد ففي الحوارية السابقة تتدرج الحركة ( يندفع بفرسه/ يترك فرسه/ينزل البئر) وهي ثلاث صور حركية افتراضية.، مطروحة على شاشة ذهن المتفرج ، مرورا من قناته السمعية، وهي تعلمه تباعا بمضمون وصف سالم لقصة تغلبه على أسد كاسر- أي ببطولته وشجاعته الخارقة-
وفي الفقرة التالية من الحوارية تتحقق الصورة الصوتية بحركتين من خارج الشخصية: " فدهتني شهقة الفرس/ وصيحة عالية " وحركتين من الشخصية : - سالم ، نفسه – " قفزت راجعا فوق "
" وهكذا تتوالى الصور من خلال تمدد مسيرة الوصف في هذه الحوارية السردية لتصب جميعها في صورة كلية ، ذات هدفين أحدهما إيهامي ، والثاني تغريبي . أما هدفها الدرامي فهو إيهام سالم لندمائه ( جمهرة متلقيّ خطابه ) ، أما هدفها التغريبي فهو إدهاش المؤلف الفريد فرج نفسه لجمهرة المتلقين لخطاب النص المسرحي كله. ومن الجدير بالاعتبار هنا الإشارة إلى أن الخاصية الفنية في الكتابة المسرحية عند الفريد فرج ، نفسه ، تتمثل في ازدواجية أسلوبي المحاكاة الإيهامية مع الحكي التغريبي وهو ما تكشف عنه خاصية توظيفه لأسلوب المسرح داخل المسرح في الكثير من نصوصه المسرحية ، مثل ( سليمان الحلبي- الزير سالم- جواز على ورقة طلاق – على جناح التبريزي وتابعه قفه – الطيب والشرير – عطوه أبو مطوه "

• دور التصور في مشهدية الفرجة:
التصور كما يرى د. أبو الحسن سلام " هو الغائب المستحضر تخيلا ثم تخييلا على غير مثال أو إمكان في شكل جميل مبهر أو قبيح منفر ، بهدف التأثير على الحاضر."
ويقول د. شاكر عبد الحميد " عملية تكوين التصورات لا تكون في العادة عملية سهلة أو المكونات " أما التصور البصري، فهو عند د. شاكر " قدرة الشخص على أن يحتفظ ببعض الصور الذهنية مدة طويلة."
ويرى الباحث محمد عبد الكريم الزنكوي أن حدود التصور تتسع في إنتاج فنون الشاشة عنها في المسرح " تبعا لاتساع الأمكنة وتعدد المناظر والأحداث والأزمنة ، وتبعا لإمكانات التكنولوجية ، وضخامة حجم التمويل المالي، وحشد لأكبر عدد من نجوم التمثيل والحرفية في التصوير والسينوجرافيا ."
ولقد " كان للتصور دوره الأساسي في بنية الصورة الدرامية في المسرح وفي فنون الشاشة. ويعد ذلك عاملا أساسيا في التفريق بين مخرج مبدع ، دارس ، ومتمكن من عملية تحليل النص الدرامي ، وتقدير مستوياته ، مع قدرته على توليد صور جديدة ودلالات جديدة تثري النص."

• الفرجة المسرحية بين الإيهام والدهشة:
من الطبيعي ، مع تنوع الأساليب في المدارس المسرحية أن نجد اختلافا في أشكال الفرجة من ناحية وتوحدا بين الأساليب المسرحية من ناحية أخرى. فالإيهام باعتباره العمود الفقري للمسرح الدرامي؛ يفرض على العرض المسرحي جماليات فرجة مغايرة لجماليات الفرجة في عروض المسرح الملحمي ونظرية التغريب البريختية وعمودها الفقري المتمثل في ( الدهشة ، التأرخة : أي إعادة إنتاج الحادثة التاريخية من جهة نظر معاصرة )

يقول د. هاني أبو الحسن " الحكي لا يتوافق مع الرغبة في إنتاج صورة إيهامية ، ذلك أن الإيهام يتحقق بالتجسيد الفائق وفق نظرية الاكتمال الفني في الصورة الحاضرة التأثير في الإرسال والتلقي. وهذا يتحقق عن طريق المحاكاة لا عن طريق الحكي، لأن الحكي يتم بالإرسال الصوتي عبر وساطة الراوي الحكاء ؛ واستقبالها عن طريق التلقي السمعي ، الذي يترجمه المتلقي عبر ذهنه إلى صورة معنوية. ولأن التلقي في حالة حكي متغير، تبعا لذهنية كل مستمع منصت، واستعدادها، فهي ذهنية متغيرة فيما بين متلق وآخر مما ينتج حالات تصور فردية تقابل القول المرسل عبر حكي الراوي، لذا يقترب خطاب الحكي من حدود الدهشة بقدر ما يبتعد عن حدود الإيهام ، لغياب الصورة التجسيدية المادية الحاضرة للرسالة الدرامية. وهذا ما يفرق بين الصورة الدرامية التقليدية ، والصورة الدرامية الملحمية ، وفق نظرية التغريب البريشتية."

وإذا كان لوي دى فينيس يرى " إن الممثل لا يدخل إلى المسرح إلاّ ليخرج من نفسه، ويركض إلى ضياعه، يأتي ليكرر ضياعه كل مساء ، ينهك ويخور وينتهي"
وهذا الرأي نفسه ينطبق على ممثل كل ممثل يظهر على خشبة المسرح - في كل ليلة عرض - كما ينطبق على دور سليمان الحلبي ، أيضا ، حسبما رسمه المؤلف ألفريد فرج ، في مشهدية التمسرح ، بالتخفّي وراء أقنعة " محروس – صانع الأقنعة- ذلك أنه بتخفيه من وراء عدد من الأقنعة ، إنما يمثل عددا من الأدوار المختلفة والمتباينة في تناقضاتها ، تبعا لما يفرضه كل قناع من الأقنعة التي يتخفى وجهه خلفها . وهنا تضيع شخصية سليمان عدة مرات ، بعدد الأقنعة التي يتخفى وراءها، فضلا على ضياع ممثل دوره في البداية. وفي كل مرة يضيع فيها القناع ، يدخل تحت جلد دور سليمان الحلبي أولا ، ثم يخرج منه ليدخل في شخصية القناع الذي يحل محل وجهه. وهكذا الأمر مع تبدل الأقنعة على وجه ممثل دور سليمان الحلبي ، حيث تسكنه الأقنعة ويسكنها قناعا بعد قناع، في الأدوار المسرحية التغريبية التي يشخصها ممثل دور سليمان ، نفسه ؛ ذلك أنه يعيش حالة عزلة أو اغتراب عن ذاته ، عن روحه ، لتسكنه روح القناع . وهي حالة أقرب إلى حالة الحنين المتصل برغبة الممثل في التحول أو الخروج الجزئي خارج ذاته ، خروجا من شخصيته الحقيقية ، إلى تلبس عدد من الشخصيات ، والأرواح المتماسة مع روحه، أو التي شكلت رحلة حياته أو أثرت على مسار من مساراتها.
وفي هذا الفعل يعيش الممثل حالة فرجة ذاتية وتلذذ متجدد لا تضاهيه لذة ؛ ومن ثمّ تتحقق مصداقية أدائه ، حيث توحده مع روح القناع الذي يخفي خلفه وجهه الحقيقي ، ليمنحه القناع وجهه وحواسه التي تسكنه.
وإذا كانت الفرجة والالتذاذ يتحقق للمتفرج المسرحي من تبديل الممثل الواحد لعدد من الأقنعة ؛ فإن الالتذاذ نفسه يصيب الممثل، لأنه يكشف له في كل مرة يغير فيها قناعا عن هوية جديدة ، مغايرة ، ومتفردة. وبذلك تتعدد هويات الممثل بتعدد هويات شخصيات الأقنعة ، نفسها.

• الفرجة في مشاهد التناص :
تعمل مشاهد التناص المسرحي على توليد الفرجة عند عدد من المتفرجين من ذوي الثقافة المسرحية ، القادرين على مقابلة المشهد أو الصورة المسرحية بصورة أو بموقف مستعاد من عرض مسرحي سابق ، مختزن في ذاكرته المعرفية ؛ عندئذ يشعر ذلك المتفرج بنوع من الزهو، والتباهي المضمر، والتفوق على غيره غير القادر على عمل مقاربة بين الموقف أو المشهد الذي يراه ومشهد متناص معه فى نص أو فى عرض سابق ، تحتفظ به ذاكرته التخيلية. ومن أمثلة ذلك مشهد الأشباح في (أوديب) سينيكا في العصر الروماني ، ومشهد الأشباح عن شكسبير في ( هاملت ) وفي ( مكبث ) ومشهد شبح كليب في مسرحية الفريد فرج ( الزير سالم ) حيث يتناص موقف سالم مع شبح أخيه كليب مع موقف هاملت وشبح أبيه ، الذي يتناص مع موقف أوديب مع شبح أبيه لايوس في مسرحية أوديب لسينيكا :


"( تتغير الإضاءة نحن في مكان بلا معالم . سالم وشبح كليب ، على خلفية سماء صافية كثيرة النجوم )
سالم : لا شيء يرضيك.
كليب: يرضيني ما يشفيني.
سالم: وما يشفيك ؟
كليب: تحت عرشي بقعة من دمي . اغسلها بماء رائق.
سالم: من لي بمياة البحار كلها أجمعها في كفي . "

وهناك الكثير من الصور والمواقف المسرحية المتناصة مع صور أو مواقف سابقة في أعمال مسرحية منها العالمي ومنها العربي . ومن أمثلة ذلك هذا المشهد من مسرحية ( الزير سالم ) وهو متناص تناصا متآلفا مع مشهد على قبر أجاممنون في مسرحية ( حاملات القرابين لـ " إسخيلوس " ففي مشهد لقاء المصادفة بين " اليمامة " ابنة " الملك كليب " المغدور وأخيها " هجرس " على قبر ابيهما " كليب " دون أن يعرف أحدهما الآخر ، يتحقق التناص المتآلف مع مشهد لقاء الصدفة بين " الكترا " وأخيها " أوريستس " على قبر أبيهما المغدور ، " أجاممنون " مصادفة ؛ في الوقت الذي يتوق كل منهما إلى التعرف على الآخر :
" ( يدخل أوريست وبيلا ويتقدمان إلى الثوميلا ، التي تمثل فبر أجاممنون وتمثل أيضا الأفريز الذي كان يقف عليه الكوراس )
أوريست: يا من ضرعت الأن للأرباب
بصلوات اليمن تستجاب
صلّي لها أن تهتك الحجاب
عن بركات كئدي السّحاب
اليكترا: وأي خير أبصرت عيناي
وحقق الرحمن من مناي
أوريست: الآن تبصرين في جهار
من كنت طول الليل والنهار
تدعين أن يأتي من الأمصار
اليكترا: وأي رجل من الأنام
حسبتني دعوت في أحلامي ؟
أوريست: أعرف يا بادية الحداد
أوريست ملء القلب والفؤاد
لكم دعوته على حنين
في قلبك المختلج الحزين
اليكترا: كيف إذن أُنلتُ دعواتي ؟
وحقق الإله صلواتي ؟
أوريست: إني أوريست جئت من بعيد
لا تبحثي فليس من مزيد
أنا شقيق روحك المعمود
اليكترا: رحماك لا تمشي على الفؤاد
يا أيها الغريب في البلاد
رحماك لا تلق على أحلامي
غلالة من أعذب الأوهام .
أوريست: لو أنني كذبت في كلامي
لكنت مثل ناسج الأحلام
يخدع نفسه على الأوهام
اليكترا: ويلاه إن هزأت بي
أوريست: ما بك حي ليس غير ما بي.
كيف إذن أهزأ من مصابي ؟
اليكترا: أخي أوريست عاد من غياب
أأنت حقا زينة الشباب ؟
أأنت نور العين والأحباب ؟
أوريست: يا عجبا حين رأيت خصلتي
قصصتها أمارة الحداد
عرفتها لأنها قد شابهت
غدائر الأمواج فوق رأسك"
ويتلاحظ لي خلال تأملي لتلك الحوارية بين الشقيقين ؛ أن الحنين جارف بين اليكترا وأوريست .. مع أن كليهما لم يتعرف بعد على هوية الآخر ، كلاهما يستشعر أنه جزء من الآخر، لكنهما مترددان في الإفصاح بما في نفسه .. وهذا متناص مع حالة اليمامة وهجرس في ( الزير سالم) :
" اليمامة: أنت غريب أيها الفارس
هجرس: وصلت الآن من بعيد . "
يستشعر كل من هجرس واليمامة – استشعارا عن بعد- بصلة كل منهما بالآخر، وفي ذلك يتناص موقفهما مع موقف الكترا وأوريستس عند أسخيلوس.
على أن موقف كل من اليكترا و أوريست في مسرحية " جان جيردو " ( اليكترا) يحسب علي أسلوب التناص المتخالف ، لأن أوريست المتخفي يعرف أخته بينما هي تجهله ولا تستطيع أن تستشعر وحدة الدم بينها وأخيها ، فهو بالنسبة لها مجرد أجنبي :
" الأجنبي: أما أنت فلا تقاومي
إليكترا: سأقاوم حتى الموت
الأجنبي: هل تظنين ذلك ؟ عما قريب ستأخذينني أنت بين ذراعيك
إليكترا: هذا كلام مهين لا أقبله .
الأجنبي: بعد دقيقة ستعانقينني
إليكترا: عار عليك أن تستفيد من تينك الوضاعتين.
الأجنبي: أنظري مع ذلك كم أنا واثق.. إنني أطلق سراحك.
إليكتراك وداعا إلى الأبد .
الأجنبي: كلا ! إني أقول لك كلمة واحدة ستعودين بعدها ىإليّ وديعة جددا .
إليكترا: ما هي هذه الكلمة الكاذبة ؟
الأجنبي: كلمة واحدة وستنتحبين بعدها بين ذراعيّ ، كلمة واحدة هي اسمي...
إليكتراك لا يوجد في العالم إلاّ اسم واحد هو الذي يستطيع أن يجذبني نحو كائن.
الأجنبي: هو ذاك ! هو اسمي.
إليكترا: أأنت أوريست ؟
أوريست: أوه ! أيتها الأخت العقوق التي لا تعرفني إلاّ من اسمي. "
يكاد هذا الموقف الدرامي أن يتقارب مع ما تقول به فلسفة سارتر الوجودية المادية حول علاقة الأنا بالآخر فيما قبل التعارف بينهما ؛ حيث تنظر الأنا إلى الآخر باعتباره مجرد شيء ؛ إلى أن يتحقق التعارف بينهما ؛ عندئذ ينظر كل منهما إلى الآخر باعتبارها ذاتا لها وجود ولها هوية. ولا غرو أن جيرودو ، نفسه عاش في الفترة نفسها التي ازهرت فيها فلسفة سارتر وآراؤه الوجودية المادية ، حيث كتبت المسرحية عام 1937، أي أنه عاش مأساة فرنسا والعالم من جراء الحرب العالمية الثانية ، حتى توفي في عام 1944
لم يلتق أوريست وإليكترا جيرودو على قبر أبيهما كما حدث مع أوريستس وإليكترا " أسيخلوس" ، ولا كما التقى هجرس واليمامة على قبر أبيهما كليب في " الزير سالم "؛ لذا لم يكن حنين كل منهما للآخر حنينا مزدوجا ، أحدهما للأب المغدور (أجاممنون) والآخر لشقيق روحه ودمه ؛ بينما يشكل حنينا مدركا عند كل من اليمامة وأوريستس والكترا حنينا مركبا مزدوجا أحدهما حنين يستعيض به كل منهم عن حالة افتقاد الأب المغدور: ( كليب.. والعم المختفي ، دون يسابق إنذار في حالة اليمامة) و(أجاممنون .. في حالة الكترا وأوريستس ) ؛ بينما يقتصر حنين الهجرس في الزير سالم على حالة استشعار لا واع يشده إلى زيارة قبر "كليب" دون أن يعرف أنه قبر أبيه ؛ فيكون لقاء الصدفة أيضا مع اليمامة ، دون أن يدرك أي منهما أنه شقيق الآخر. غير أن ألفريد فرج لا يشأ تفويت الفرصة على تقنية مراوغة الكتابة الدرامية لتفعّل تقنية التوتر والتشويق الدرامي بحرفية يحسد عليها :
" ( تتغير الإضاءة ، يبرز من الخلف ضريح كليب ، يمامه وهجرس )
يمامة: بس !
هجرس: ( يلتفت ) أيناديني أحد ؟
اليمامة: هنا أيها الفارس .. أسرع .
هجرس: من أنت ؟
اليمامة: أسرع .
هجرس: ما الأمر ؟ ( يقترب )
اليمامة: اختبئ ( تجذبه لأسفل ) شش ( تدخل دورية الفرسان البكريين )
هجرس: ذهبوا . تعالي
اليمامة: كن على حذر.
هجرس: عم يبحثون ؟
اليمامة: أجئت لزيارة الضريح ولا تعلم
هجرس: الحقيقة أني مجرد عابر سبيل ولا أعلم .
اليمامة: إذن لم يكن قصدك الضريح
هجرس: لا
اليمامة: أنت غريب أيها الفارس
هجرس: وصلت الآن من بعيد . "
وعندما يسألها عن أهلها ، تنكر أن لها أهلا تعرفهم ، حيث لها عم انقطعت أخباره منذ سبع سنوات ، وهمس متواتر عن أخيها الذي لا تعرف من هو أو أين هو ، فكل ما تعرف عنه ؛ أن أهل أمها يخبئونه خوفا عليه من قتلة أبيه . حتى أمها ، فهي وإن كانت تجهل من هو أخاها ؛ فإنها تنكر أمها أيضا ، وهو أمر يثير دهشته ، ويحرك شهيته المندهشة للتساؤلات :
" هجرس: وأمك .. ألا ترعاك ؟
اليمامة: ليس لي أم
هجرس: ماتت ؟
اليمامة: لا.
هجرس: وإذن ؟
اليمامة: كيف تعرف بنت أمها؟
هجرس: كل بنت تعرف أمها التي ولدتها .
اليمامة: لو كنت أذكر أني رأيت رحمها وأنا فيه ، فلعلي كنت أعرف أمي ؟
ما أفظع أمي طالما قربت أخاها القاتل ودللته ، بينما كانت تكره عمي
وتقصيه ؛ حتى تمكنت من إبعاده عن البيت ؛ فخلا الجو للقاتل ليرتكب
جريمته .
هجرس: يا للغدر ! حين مات أبي أرسلتني أمي إلى منجد ابن وائل ، وهو أمير
عظيم وأب بمعنى الكلمة ليعلمني الحكمة والفروسية. كانت تقول لي :
اشتهي يا ولدي أن تكون سيد العرب كلهم عقلا وشجاعة، وأن تكون
بارا ببني جنسك ."
وفي هذا المشهد تناص من نوع التخالف مع مشهد لقاء الكترا وأوريستس في ( حاملات القرابين ) :
" هجرس: لعلك تجدين في الزوج عوضا.
يمامة: لا لا. أتوسل إليك . فهم يريدون تزويجي قسرا.
هجرس: من ؟
يمامة: خالي
هجرس: ممن ؟
يمامة: من ولده .
هجرس: تتزوجين ابن قاتل أبيك ؟!
يمامة: تصور ؟
هجرس: جنون القسوة
يمامة: نعم "
وفي هذا الموقف تناص تآلف مع موقف الكترا حيث تزوجها أمها كلتمنسترا إرضاء لعشيقها إيجيثوس ، الذي شاركها في قتل الزوج أجاممنون ، حيث زوجتها من فلاح زواجا قسريا انتقاما منها لموقفها المحب لأبيها ، وإمعانا في إذلالها ، في مقابل محاولة "جليلة " والدة يمامة التي تحاول تزويجها من ابن خالها ( جساس) قاتل أبيها (كليب) .
• الفرجة والمفارقة الدرامية :
تعمل المفارقة الدرامية على إشاعة الفرجة في المتلقي ، بأسلوب الصدمة الدرامية، باعتبارها فعل مباغت غير متوقع ، مما يحرك مشاعر المتلقي .. وهو ما يتجسد في نهاية اللقاء المصادفة بين اليمامة وأخيها هجرس :
" هجرس: أرفضي. اصرخي بأعلى صوتك : لا !
يمامة: بعد سبع سنين من الإذلال. لا توقد نارا في الليل "
" هجرس: .. انتظري لحظة .. عمن تتكلمين ؟
يمامة : خالي جساس.
هجرس : وأمك .. من تكون ؟
يمامة: جليلة البكرية.
هجرس: انتظري لحظة. أهذه من تصفينها بالقسوة ؟
يمامة: نعم أيها الشاب . أتعرفها ؟
هجرس: تجنيت وأي جناية. مجنونة تسكن مقبرة.
يمامة: ما دهاك ؟
هجرس: تتكلمين بهذا السفه عن أمي أيتها الضالة .
يمامة: أمك ؟ جليلة بنت مرة ؟ أمك أنت ؟
هجرس: وعمك من يكون ؟ "
ويفاجأ هجرس بأن سالم الزير هو عمها ، الذي دست له أمهما وخالهما جسّاس القاتل الحقيقي ؛ أنه قاتل أبيه كليبا!! وتلك المفارقة الثانية ( الكذبة) تشكل صدمة درامية ثانية . وهي تقنية تحقق الفرجة المسرحية ، فضلا على ما يتضح من حنين يمامة إلى أن تلتقي بأخيها ، أملا في أن يثأر لأبيهما بعد اختفاء عمها سالم المطالب بكليب حيا ، كحق أوحد للثأر . وهو مطلب مستحيل يبعث الدهشة في المتلقي ، وتلك من تقنيات الفرجة المسرحية أيضا.
وهكذا تتصل حلقات نوستالجيا اللقاء بين الشقيقين مع نوستالجيا الأخذ بالثأر ؛ حيث تؤدى الحلقة الأولى إلى الحلقة الثانية :
" الكترا: يا أملا في بيتنا الحزين
بيت أبي الفقيد ! يا عمادنا !
ويا مناط عهده وعهدنا
أن تحفظ الأرومة الكريمة
يا حبنا الضائع ! يا سهادنا !
ها أنت ذا قد عدت يا مخلّصي
تلبس تاج القوة القهارة
بها ستسترد قصر والدك "
" لم يبق لي سواك من عماد :
أنت الأب والأم والشقيق
والأخت ، أنت الأهل والصديق
الحق والقوة في ركابك !
ليت زيوس حافظ شبابك
يعقد غار النصر فوق بابك "
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن أورست عند جيرودو يجهل سبب مقت أخته إليكترا لأمهما ، وهو الأمر نفسه – مع الفارق – بالنسبة لهجرس في الزير سالم:
" أوريست: لماذا أنت تبغضينها ؟ .. .. استمعي ."
كلاهما يعرف من هي أمهما ، غير أن اليمامة هنا تتوحد مع إليكترا في بغض أمها وإنكارها ، وإن كان الثأر الذي تطلبه اليمامة هو الثأر من خالها قاتل أبيها ، غير أن مطلب الكترا الثأري عند أسيخلوس من إيجيثوس عشيق أمها ومن الأم الخائنة نفسها ، وفي ذلك تناص متخالف . غير أن أوريست عند جيرودو يجهل دور كلتمسترا (الأم) في مقتلة أبيه مشاركة لعشيقها ، وهو ما يغاير معرفة أوريت التامة بدور الأم في اغتيال أبيه أجاممنون :
" أوريست : كيف تسطيعين أن تتحدثي على هذا النحو عمن أنجبتك ! "
" إليكترا: ذلك ما لا أستطيع احتماله ، أي أنها أنجبتني، ذلك هو مبدأ خجلي .
ويخيل إلي أني بسببها أتيت إلى الحياة بطريقة ملتوية، وإن أمومتها
ليست سوى مؤامرة تربط بيننا . إنني أحب كل ما يرجع في مولدي إلى
أبي. إنني أحب منه كيف خلع ملابس عرسه الجميلة – تجرد عن
أفكاره. بل عن جسده ذاته . أحب علامات الإجهاد التي أحاطت عينيه ،
بعد أن اكتسبت صفة الأبوة المرتقبة ، إني أحب ما دب في جسده من
انبهار خفي يوم مولدي. أشعر أنني وليدة انبهار أبي ، لا من آلام حمل
أمي وحبها، وليدة يوم استسلم فيها للكرى وتسعة أشهر لم تفسد نحول
بطنه ، بل من طلبه التسلية عن أمي الحبلى بين نساء أخريات: من
ابتسامته الأبوية التي تلقاني بها . أما كل نصيب أمي في مولدي فإني
أبغضه :
أوريست: لماذا أنت تبغضين النساء إلى هذا الحد ؟
إليكترا: لست اكره النساء وإنما أكره أمي ، ولست أكره الرجال ، وإنما أكره
إيجيست "

نوستالجيا الرفقة الخيالية في المسرح
في مسألة الحنين إلى رفقة خيالية كثيرا ما يضطر إنسان يستشعر حالة افتقاد رفيق إلى الاستئناس بحيوان ، وتسترجع الذاكرة ما قاله أبو العلاء المعري معبرا عن مثل تلك الحالة :
" استأنست بالذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدت أطير "
ففي نوستالجيا الرفقة الخيالية تؤنس الحيوانات والطيور والحشرات ؛ لتشكل رفقة خيالية بديلة لرفقة إنسانية حقيقية مرفوضة أو مكروهة ، منفصلة أو منسحبة. ولو رجعنا إلى مسرحية ( حلم منتصف ليلة صيف ) لشكسبير ؛ سنجد مثالا لذلك ؛ فهذا "بك" Puck يتحول إلى حمار ؛ تقع في غرامه "تايتانيا" ملكة الجان. ونرى الحائط يتكلم بلسان الإنسان ولغته ، وكذلك الأسد . وفي مسرحية (الجنس الثالث) ليوسف إدريس نرى الأشجار تتحول إلى نساء جميلات ، رشيقات ، يرقصن ويتحاورن ويغنين .. كما نرى الحيوانات تتحاور مع الأشجار المتحولة إلى كائنات بشرية كالجميزة والتوتة والكلب والخروف . إنها حالة : " نوستالجيا يوتوبية " :
" ( مع بدء الإضاءة التدريجية، يدخل الموكب ( آدم والشجر) من يسار المسرح ، وكأنما من باب رمزي للمدينة الغريبة ، حيث البيوت والمباني تتراءى ، وقد بنيت بأشكال مقتبسة من أشكال النباتات والزهور وأصناف الحيوانات الجميلة ، وكذلك كل متعلقات المدينة من فوانيس إضاءة ، تنتهي بدل المصابيح بأزهار مختلفة الأشكال ، تمتص أشعة الشمس بالنهار وتضيء بالليل ، وسائل المواصلات تقوم بها مركبات على هيئة طيور. )
الجميزة : ( صوتها قد تغيّر وإن لم يتغير شكلها ، وأصبح صوت رجل ، ونفس
الشيء حدث للأشجار الأخرى ) مهمتنا انتهت .
آدم : وأنا أعمل إيه ؟
التوتة : دي مسائل ما نعرفهاش.
آدم : أمال الأوامر اللي عندكم إيه ؟
النخلة : ( بصوت صبي مراهق ) لغاية هنا نسيبك .
آدم : تسيبوني إزاي ؟
الجميزة : انتظر الأوامر.
آدم : أوامر إيه ؟ مش كفاية انتظار ؟
الجميزة : الوداع.
آدم : أرجوكم ..
الجميع : الوداع . ( ويتركونه واقفا ويستديرون خارجين )
آدم : ( يرمقهم ويقول بسخرية ) الوداع ).
( تبدأ موسيقى على هيئة صوصوة عصافير ، وما أن يبدأ آدم ينصت إليها ويستغرقه الإنصات حتى يقبل كلب ضخم له رأس كلب وذيل خروف من خلف آدم ، يمشي بضع خطوات ثم فجأة يطلق هبهبة عالية ؛ يقفز لها آدم رعبا ويلتفت إلى مصدر الصوت ويبدأ يتراجع بظهره ، والكلب يتقدم وهو لا يزال يهبهب هبهبة عالية مرعبة . ويستمر آدم في تراجعه ولكن الكلب يتوقف فجأة، ويكف عن النباح ويحدق في آدم . آدم يتوقف هو الآخر حائرا ؛ ماذا يفعل ، وما هي الخطوة القادمة . فجأة يقف الكلب على ساقيه الخلفية ويعتدل تماما كأنه إنسان ، وهو يقهقه قهقهة عالية )
الكلب : أنت خفت ؟
آدم : ( يهز رأسه بشدة غير مصدق ، ويستعد للنطق ، يفتح فمه فعلا ، لكن لا يخرج منه صوت )
الكلب/الخروف: دا نت لسه خايف. ما تخافش ( يتقدم ناحيته ؛ فيبدأ آدم يتراجع
فورا ) ما تخافش . الله !! ح تقف واللا أهبهب لك تاني وأمشي
لك على أربع ( يقف آدم ويقترب من الكلب ، وينكمش على نفسه
فيمد الكلب يده ، يخبطه على كتفه خبطة قوية ) بطّل خوف ما
تخلنيش أحس بتأنيب ضمير. أنا قلت أهزر معاك ؛ تقوم تقلبها جد
وريني نبضك ( يتحسس نبضه ) لا حول الله . مية وستين في
الدقيقة. أنا آسف . آسف جدا . أرجوك سامحني لاحسن أعاقب
نفسي بشدة وأرجع كلب .
آدم : ( مقاطعا ) لا لا لا . أرجوك أوعى تعملها ؟
الكلب : الحمد لله أدي أنت نطقت
آدم : طب روح بقى الله يسامحك .
الكلب : أروح فين إن شاء الله ، هو أنا واقف العب ؟ أنا واقف معاك اشتغل.
آدم : تشتغل إيه ؟
الكلب : مرافق ، لغاية ما بسلامته ييجي.
آدم : بسلامته مين ؟
الكلب : هو مفروض صحيح إني ما أقولكشي، إنما ما دام خضيتك ح أبقى طيب زي المرحوم أبويا الخروف وأقولك . همّا ها ياخدوك قصر السندسي
آدم : لازم دا القصر بتاع هيّ ؟
الكلب : لا وأنت الصادق، د ابتاع العالم .
( ويلح آدم على الكلب أن يحدثه عن العالم )
آدم : ح تقولها واللا أخللي ضميرك يأنبك تاني وأخاف ؟
الكلب : وهي سر يعني . أقولها وأمري إلى الله . أصل العالم ده ما بيعوزشي حد
لله في لله . دا عمر ما حد دخل له شيء ، وطلع نفس الشيء. الفرخة
تطلع متجوزة فار ، التعلب يطلع من عنده طيب زي الحمار أمي الكلبة
الوولف دخلت عنده مره طلعت حامل من أبويا الخروف فيّ !!
آدم : بقى عشان كده عايزني !! بقى جايبني من آخر الدنيا عشان يعملوا علي
تجربة . أنا العالم اللي با عمل تجارب ع الفيران أبقى بجلالة قدري فار
تجارب ؟ دا مستحيل . أنا راجع . "
لم تغب النظرة التراتبية في تصنيف التدرج الوظيفي في عالم الحيوان؛ تدرجا طبقيا ، عن فكر المؤلف يوسف إدريس ؛ فللكلب والخروف أو الكلب/ الخروف الوظيفة الخدمية وظيفة الحجابة أو السكرتارية بالمفهوم المدني الحديث ؛ فمع أن الصورة نسجية علاماتية ، تخييلية من خيوط واقعية وأسطورية إلا أن دلالتها الإسقاطية تصب في الواقع الوجودي الكوني – إطاريا – وتقع على أرض الواقع الاجتماعي السياسي الطبقي – دون أن ينسى يوسف إدريس تغليف الصورة بغلالة تهكمية ساخرة .
يلجأ الكاتب المسرحي المتمرس إلى المراوغة عبر تقنيات الكتابة ، ومنها تقنية التخلص الدرامي الناعم ، يوسف إدريس بارع في توظيف السرد – فيما بين الأقواس ، وهو ما اصطلح على تسميته بالنص الموازي للحوار ؛ فهو سيد الأقصوصة .. لا غرو في ذلك .. متسللا فيما بين مقاطع الحوارية الدرامية ؛ فلكي يتخلص آدم من المأزق الذي يوشك أن يقحم فيه ، يلجئه إدريس إلي محاولة هروب محبطة ؛ إذ يهدده الكلب باستدعاء أمه ؛ فيقف مكتوف اليدين ، مستسلما :
" آدم : اعمل معروف أنا عندي عقدة من الكلاب . ترضى إن واحد زيي يبقى
فار تجارب ؟
الكلب : ومين قال إنك ح تبقى فار ، ما يمكن تبقى قط . واللا نسناس . آدي أنت
فيك شبه منه ، وبيني وبينك كله محصل بعضه . إنما تأكد إنك مش ممكن
ح تخرج من عنده زي ما دخلت. تعالى مكانك ( يجذبه ، فيقاوم آدم ) يامّه
( يهبهب ، فتجيبه الهبهبة السابقة )
هذا الحنين ليس حنين الإنسان إلى التحول إلى موجود آخر في هيئة حيوانية شكلا وعقلية لها لغة اتصال بشرية ؛ وإنما هو حلم العالم بالقدرة على التحويل والتبديل في شكل الوجود ، حنين إلى امتلاك الفعل المستحيل الخارق لطبيعة الوجود من ناحية ، كما أنه استشعار علمي بحنين الموجودات الأخرى غير البشرية _ الحيوانات والطيور والأشجار والحشرات إلى تملك قدرات بشرية – من جهة نظر المؤلف يوسف إدريس – وهو لم يبتعد كثيرا عما أبدعه خيال أبي العلاء المعري في رسالة الغفران ، حيث يراوغ ابن القارح بمخايلة تحول الحيوانات والثعابين إلى غانيات يرقص ويتمايسن له في أثناء تجواله جنة الحيوان. مع أن هذه الصور التي نسجها خيال يوسف إدريس هي الأقرب إلى رسالة الصاهل والشاحج للمعرى ، وهي دراما مسرحية شخوصها من عالم الحيوان والطير ، وبطلاها: الحصان والبغل – فعند يوسف إدريس ، كما هو عند المعري تستبدل تلك الكائنات الحيوانية والنباتية هيئة الإنسان وخصائصه الشعورية الحركية والكلامية ، يحل الإنسان فيها وتحل فيه . وعند يوسف إدريس -هنا – يتبدى حنين العلم إلى أن يتمكن من أن يملك الحيوان صفات بشرية بفضل التجارب العلمية ، حيث انقلاب الأوضاع والهيئات والأحوال والصفات في عملية تحول كبرى ؛ يصبح فيها الكائن البشري كائنا حيوانيا أو نباتيا ، وتصبح عن طريقها الحيوانات والطيور والنباتات كائنات بشرية ، أو مزدوجة الهوية والخواص والقدرات ، هي نوستالجيا التحول إذن !! بفضل الخيال وتطور البحث العلمي .. نوستالجيا يوتوبيا تحول الكائنات !!
ولأنها حنين خارج حدود المنطق ؛ لذلك ألبسها المؤلف شكلا سيرياليا :
" ( من زاوية المسرح الداخلية اليمنى يظهر كائن سيريالي يعبق برائحة الفل وينتقل في خطو راكض ، بينما يشع بضوء داخلي متغير ، متعاقب ، له نفس وقع الخطو ، يتجه إلى حيث آدم واقف، آدم يتراجع مأخوذا )
يلاحظ ذلك الكائن أن آدم خائف منه فيطمئنه ، معبرا عن أن تخوف آدم منه ينقل إليه، هو نفسه عدوى الخوف من آدم . وبعد أن يطمئن كل منهما للآخر يفصح آدم عم ملاحظة لاحظها في ذلك الكائن :
" آدم : أنت مرة ست ومرة راجل صوته رفيع، ومرة تخين !!
الكائن: ( بصوت طفل) آبيه .. بجد .. أنا صوتي كده .
آدم: الله !! ومرة طفل !! أنت .. قصدي إنتي. يوه. إنتوا حكايتكوا إيه بالظبط ؟
( يسمع صوت مأمأة خروف )
يصاب آدم بدهشة مما يرى ويسمع، فهو يفاجأ بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ؛
لذا يتساءل مندهشا ، عندما يسمع الكائن ، وهو يتكلم بكل الأصوات ( زجالية – نسائية – طفلية ) :
" آدم : ... أنت كام واحد في بعض ؟ وشكلك ما له كده ؟ إيه النور ده ، وريحة
الفل اللي عبقت الدنيا من ساعة ما دخلت .. أنت غيه ؟ نبات واللا حيوان
واللا من ده على ده ؟
الكائن: أنا الكائن الجديد . أنا احدث كائن اتخلق هنا . أنا اتخلقت علشان آجي
آخدك .
آدم : اتخلقت ولاّ اتولدت ؟
الكائن: اتخلقت.
آدم : اتخلقت يعني من مفيش ؟
الكائن : وهو فيه حاجة بتتخلق يا دكتور آدم من مفيش ؟
آدم : وحكيم كمان ؟ وعارف أنا مين ؟ اتخلقت إزاي بقى ؟
الكائن : سقط شعاع من نور نجمة الفجر على زهرة فل في لحظة كان بيغني فيها
كروان ، حصل بين الثلاثة استلطاف وتواؤم وراحوا متجانسين على طول
فاتخلقت أنا .
آدم : وحتى التزاوج هنا ممكن يحصل بين ثلاثة والدين ؟
الكائن:احتمالات التوأم والتجانس ما لهاش حدود دنا سايب أخويا اللي جه بعدي
حالة تواؤم مع كائنة ، حتة دين كائنة اتخلقت من لحظة شوق تواءمت مع
قطرة ندى وشقاوة طفل وصدر حنون ، تصوّر بقى لما أخويا يخلّف منها .
حيجيب إيه كائنات زمانية مكانية جمادية حيوانية مستقبلية ماضية ضوئية
موسيقية ليها برضه ريحة الفل .
آدم : أنا قطعا بحلم !
الكائن:ما افتكرش أحلامك نفسها ممكن توصل للمدى ده "
إذا كان حنين د. فاوستس عند كريستوفر مارلو تعبير عن حنين الإنسان لامتلاك القدرة على صنع الخوارق ، والقدرة على امتلاك القدرات الخارقة التي ينفرد بها
الجن والشياطين قد كلفه تسليم روحه في عقد أبرمه مع الشيطان ( مفيستوفوليس)؛
فإن آدم يرى ذلك يتحقق بمتابعة العلم وبالإرادة البشرية وحدها في سعيها وراء المجهول.

جماليات نوستالجيا التحول:
لاشك أن لتبدل الصور والأشكال والحالات عما هو مألوف ومعتاد جماليات تختلف عن حالاتها الأولى المألوفة والمقبولة قبولا عقليا يتوافق مع المنطق ؛ فتغير صورة ما نعرف ، وما يألفه المنطق البشري تصيب متلقيها بالدهشة والغرابة ، فليس مألوفا أن يكون الإنسان على هيئة الكائن السيريالي الذي يقود العالم آدم إلى المجهول ؛ كما لا يكون مألوفا ولا مقبولا منطقا وعقلا وتصديقا أن يطير الإنسان بلا أجنحة وقد خلق ليمشي ويدب بقدمين على الأرض ، ولئن حصل ذلك ؛ فيكون جرى في الأحلام أو في رواية من روايات الأساطير ، كما في ألف ليلة وليلة أو كما صور شكسبير في ( حلم منتصف ليلة صيف) حيث الحائط تتكلم بلسان آدمية والرجل يصبح حمارا ، أو كما صورت J.K.Rolling في روايتها العالمية ذائعة الصيت ( هاري بوتر) . وهذا ما حدث لآدم في (الجنس الثالث) فكان يوسف إدريس أسبق من مؤلفة ( هاري بوتر) في التخييل الفائق الذي يؤنسن الحيوان ويصوره في عدد من الأشكال والصور ، ويملكه قدرات بشرية حيوانية جمادية :
" آدم : ذنبي على جنبي أنا ح افضل ورا المجهول لما يجيب داغي . هي المسافة
بعيدة ؟
الكائن: احنا حا نخترق المدينة.
آدم: والمدينة كبيرة ؟
الكائن:بالمشي نخترقها في اسبوع .
آدم : حا امشي تاني ؟ دا لا يمكن . أنا الجزمة دابت من المشي . خلاص ما
أقدرشي اتحرك خطوة .
الكائن: ومين قال إننا حا نمشي ؟
آدم: أمال حا نوصل إزاي ؟ حا نطير ؟
الكائن: أيوه حا نطير .
آدم : هو فيه طيارات ؟
الكائن: ولزومها إيه ؟
آدم : أمال حا نطير إزاي ؟
الكائن: احنا حا نطير .
آدم: أنت تطير معلهش ، إنما أنا اطير إزاي ؟
الكائن: زيك زي أي حاجة بتطير . تطير زي الفراشة ما تطير زي العصفورة ما
بتطير زي السحاب .
آدم : بس أنا بني آدم تقيل.. جسمه اتخلق للمشي ، ما أعرفشي أطير .
الكائن : بسيطة .. ما تعرفشي .. اعرف .. طير
آدم: ياريت ..
الكائن: لو عزت .. حا تطير
آدم : كدهه ؟ أقول عايز أطير .. أطير !!
الكائن: بالضبط
آدم : طب هه .. أنا عايز أطير .. نفسي موت أطير .. شفت بقى .. ولا حاجة
حصلت ... ( يكون فعلا قد ارتفع عن الأرض ) الله !! دا إيه ده .. دا أنا
باطير فعلا . أنا طرت . دا معقول ده ؟ أنا با طير !!
(يكون قد بدا كما لو كان يرتفع في الهواء بتأثير الإضاءة البنفسجية ، والكائن بجواره. وبعد وصولهما إلى علو مناسب يبدأن يتجهان ناحية الزاوية اليمنى الداخلية للمسرح ، كما لو كانا يقطعان سماء المدينة التي تبدو أضواؤها أسفلهم في خلفية المسرح التي تتحرك في الاتجاه المضاد .)
الكائن: شفت بقى المسألة سهلة إزاي !
آدم : سهلة إيه ؟ ضروري عناصر من عندكم تدخلت . هو معقول أنا لوحدي
أطير؟
الكائن: أوعى تآمن بكلامك ده لحسن تبص تلاقيك واقع مقطومة رقبتك. اللي أنت
مش قادر تتصوره هو بجد الحقيقة . أنت بإرادتك بس طاير . ولو بطلت
أو شكيت في إرادتك حا تقع .
آدم : طب تغير بقى الموضوع .
الكائن: بص .. اتفرج على المدينة . احنا دلوقتي بالظبط فوق حي الطفولة ،
طفولة كل شيء ."
في هذا العالم الجديد قيم غير القيم الموروثة ، ثقافة غير ثقافة السلف من الأجداد ، ثقافة تفكك كل ما هو مألوف من ثقافات ومعتقدات :
" الكائن : .. شايف آدي احنا بالضبط فوق المعبد .
آدم : العبد ؟ أنتو بتعبدوا إيه ؟
الكائن: بنعبد بعض. كل شيء أو كل كائن فينا بيعبد الآخرين .
هكذا يكتشف آدم عند لقائه بالعالم الذي استدعاه ؛ أنه قد وقع في حوطة وجود غير الوجود المألوف ، غير المعقول ؛ بقياس العقل البشري وما وقر في عالمه البشري منذ بداية الكون :
" آدم : هو أنتو في العالم الراقي ملغيتوش الكراسي واللا إيه ؟
العالم: لغينا وجوها المستمر بس ......... "

جمالية التناص في الصورة الدرامية:
لا شك أن لصورة بن القارح في جنة الغفران المعرية أثرها الواضح على صورة آدم في جنة السياحة التخييلية الإدريسية العلمية ؛ فإذا كنا نرى ابن القارح في جنة الغفران يشتهي طاووسا بالأصيص ( محمرة بالثوم والخل ) فتحقق له المشيئة ذلك محمرا على صفحة من الذهب الخالص ، وما أن ينتهي من التهام الطاووس إلا وينتفض الطاووس فوق الطبق الذهبي ، كما كان ؛ مع ذهول ابن القارح الذي أخذ بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، فيأتيه الصوت " يحيي العظام وهي رميم " ونحن هنا نجد آدم في صورة متناصة مع الصورة التي عاشها ابن القارح في تخييل المعرى :
" العالم : يبقى أولا ناكل . تحب تاكل إيه ؟
آدم : أولا أشوف أودة سفرة بعنيّه .. نروح السفرة الأول
العالم: ونروح ليه ؟ السفرة هيّ اللي تيجي
( يشير لجزء من الحائط ؛ فيتحرك خارجا على هيئة سفرة عليها إثنان سرفيس كاملان . أدم من مكانه ويقف عند طرف السفرة القريب منه ، وحائرا يتلفت ثم يندفع إلى جزء من الحائط ، يقبض عليه ؛ فيخرج على هيئة كرسي ، يجلس وبسرعة يحيط رقبته بالفوطة )
العالم: تحب تاكل إيه ؟
آدم : يا سلام على ديك رومي بالخلطة مع النبيذ الفرنساوي.
العالم : آه نسيت أقول لك .. الأكل هنا زيّه زي أي حاجة تانية ، خاضع لمجرد رغبة الإنسان للذرات اللي بتكوّن طعم الأكل ؛ بإرادتك تستدعيها .
آدم : يعني بعد الجوع ده كله آكل الهوا ؟
العالم : إن ما كنتش مصدق .. جرب . نفسك في إيه حالا دلوقتي ؟ "
ولأنه في جنة الخيال العلمي ؛ فإن ما يشتهيه مما جربه وتذوقه من طعام دنيا البشر ، وفق ثقافة الأطعمة القومية أو الوطنية لبيئته ؛ يتحقق تحققا مغايرا ، وفق ثقافة مستشرفة بالخيال العلمي المجنح ؛ طعام من ذرات حاملة لنكهة ما اشتهاه من طعوم ، وهنا تكون الصورة متناصة تناص تخالف مع صورة ابن القارح في اشتهاء الطاووس في جنة المعرى الغفرانية . تناص ميتافيزيقي بين الصورة التراثية الاعتقادية ؛ والصورة الميتافيزيقية الحداثية ، التي تعول على الخيال العلمي تحقيق الخارق المختلق المحال ؛ تحقيقا ماديا مأمولا .

خلاصة البحث








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال


.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما




.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم


.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا




.. -لقطة من فيلمه-.. مهرجان كان السينمائي يكرم المخرج أكيرا كور