الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حمندي

فيحاء السامرائي

2012 / 4 / 2
الادب والفن


حَمَنْدي...
يمسك ملعقة الشاي الصغيرة بأصابعه، ويفرد خنصره الأيمن باستقامة، ليحرّك بجلَبة بالغة سكّراً في (استكان) شاي، ثم يسكب السائل الساخن في الصحن الصغير ويحتسيه بتلذذ، وأحياناً يرطّب به (صمّونة حجرية) يدفعها نحو فمه بخفّة بعد أن يعتذر بأنَفة عن تناول كعك بالشوكلاتة، أقدّمه له، ظناُ منه أنه كعك محروق...وحالما ينتهي من فطوره، ينهض بهمّة، طويلا ونحيفاً كرمح، ينظف غرف البيت ومغاسل، يرمي قمامة، يسقي حديقة، يرش أشجارها من غبار عالق عنيد، ولويطلب منه صاحب الدار شراء ما يلزمه من دواء أو خضار وخبز، يهّم بخفة، يقبّل النقود ويضع كفّ يده على جبينه وهو يمضي بنشاط وبلا توان، مردّداً كلمات تلازمه بين كل قبلة وأخرى: نعمة فضيلة من الله...نعمة...نعمة.
عرفه سكان الحي منذ زمن بـ (حمندي)، لم يكترثوا لمعرفة أسمه الأصلي ولا بالسؤال عن أصله وفصله، اعتادوا عليه هكذا، وكأنه جاء الى الدنيا بهذه الصورة...ما يعرفونه، أنه عمل في معامل الطابوق حينما كان يافعاً، ولما دقّت طبول الحرب مع إيران، جنّدوه، دربّوه على السلاح سريعاً، أخذوه الى الجبهة، وقالوا له بصرامة وبحزم: تعلمت الآن الرمي، إرمِ العدو...أراد أن يسألهم ما هو العدو، وإذا كان انساناً مثلنا، لماذا نقتله ونحن لا نعرفه...تردد لمّا نظروا اليه شزراً وقالوا: هيا إرم، والّا رميناك نحن...
ما عرفه الناس عنه أيضاً، أصابته بمسّ يذهب بعقله أحياناً، نجم عن فترة تعذيب لم يتذكر هو ولا يعرف غيره، متى وكيف حصلت له، وأي طرف كان سببها...يظل يلوك بحديث مسموع ومتكرر أثناء عمله:
- الأسرى كانوا ثلاثة أنواع، جماعة صدّاميّين، هؤلاء يعذبونهم كل يوم...وجماعة صارت مع إيران، يأخذونهم الى جبهات قتال ضد أبناء بلدهم في العراق...أما أنا، فكنت لا مع صدام ولا مع إيران، بقينا أسرى حرب، يطعموننا ملعقتي عدس ونصف رغيف خبز...نعمة، نعمة، نعمة.
الكبار والصغار، الرجال والنساء، كل أصحاب الدور في الحي، ترسل في طلبه...بالصيف، ينظف غباراً غريباً يغزو البيوت وينفذ الى ملابس ولو في دواليب محكمة، يزيله عن سجادات إيرانية وتركية كبيرة، يطويها ويبرمها بمهارة، بعد وضع كرات نفتالين فيها، يركنها في الأدوار العلوية...وفي الشتاء يشتري لهم النفط الأبيض، يملأ مدافيء عطشى تنهكها رطوبة خشنة و برد عراقي لايرحم...ومن يحتاج الى سيارة تنقله الى مكان ما، يتصدر مقعدها الأمامي، يذهب معه، برفقة سائق معروف من أهل الحي، خشية على الراكب من اختطاف أو خديعة...أسأله عن موقفه من الأحداث ومؤتمر القمة:
- عمّي، نحن ليس عندنا موقف، لانقف، نمشي على طول...أناكده بمزاح بريء:
- عجباً، كيف لا تتوقف وكيف لا يكون لك موقفاً، حتى سيارات الأجرة عندها موقف بعلاوي الحلّة... وأعود أسأله عن هدفه في الحياة، وماذا يريد منها، وكيف يرى نفسه بعد عشر سنين من الآن.
يلتفت نحوي بقلق مستوضحاً بنظراته وكأنه يفكر، يبتسم بعدها، حين يدرك عدم جديتي وتظهر ضروس قليلة باقية في فمه، يعود الى تقبيل كفّ يده ووضعه على جبينه: نعمة، نعمة، نعمة...لا أريد غير هذا (المبايل) الذي يحكي ويغني، وكذلك (مسْتلة) وأقلام للأولاد.
يوم جاء ليحصل على راتب تقاعدي وعلى قطعة أرض للأسرى، دخلت دبابات أمريكا وجيوشها البلد، وذهب الموظفون الى دورهم، وذهبت معهم كل ملفّات الأسرى وحقوقهم وآمالهم في استحقاقات مواطنة ووطن...واليوم يحرمه نظام وقانون من حق في قطعة أرض تأويه وعائلته، وراتب تقاعدي معقول، لأنه ساهم في حرب (ظالمة) ضد الجارة إيران.
أعطيه مبلغاً يستحقه، و(نستلة) لأولاده، يشكرني، يقبّل كفّه ويضعه على جبينه مراراً، يغادر الحديقة، طويلا ونحيفاً كرمح، ويردد باسماً: نعمة، نعمة، نعمة...يعدني حينما أسافر، يجلب لي نصف (حلاّنة تمر خستاوي) و بيض (عرب) وطبق خبز من تنور زوجته، آخذها معي الى (لندة)...
نعمة...
فيحاء السامرائي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية


.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي




.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز