الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستبداد والتنمية في العراق

حسن الجنابي

2002 / 9 / 18
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


د. حـسـن الجـنـا بـي

 

 

 عندما سؤل مؤسس الحركة البيئية المعاصرة ماكس نيكلسون عن برنامج الحركة أجاب أنها لاتحتاج الى برنامج لسبب بسيط هو أن كل إجراءات الحكومة البريطانية مسيئة للبيئة وبالتالي فبرنامجنا هو معارضة كل برامج الحكومة!!.

وواقعا فإن المقولة أعلاه لاتبتعد كثيرا عن الحقيقة في العديد من مناطق العالم، إلا أنها لاتنطبق على بلد أخر بقدر إنطباقها على العراق خاصة منذ مجيء سلطة البعث في عام 1968. فقد توافقت الزيادة في واردات البلاد من عوائد النفط مع العقلية الحاكمة لتنتج خططا "إنفجارية" كانت البيئة العراقية أولى ضحاياها، اضافة الى كونها هدرا لموارد البلاد المالية والاقتصادية. فكيف يتسنى لخطة تنموية أن تكون انفجارية؟ فالتخطيط، كمفهوم، ينطوي على الاخذ بالحسبان العوامل البيئية والاجتماعية والاقتصادية، التي من شأنها إنجاح مشروع ما أو تنمية قطاع أو اقليم على المدى البعيد. صحيح أن هناك إجراءات تتخذ من شأنها تسريع انجاز خطة بعينها أو وضع برامج قصيرة الاجل وما أشبه، إلا أن ذلك يحدث في سياق منهجي ومدروس وبما لايتعارض مع الاتجاه العام للتنمية بعيدة الاجل تصبح معها البرامج قصيرة المدى مراحل متتابعة تصبو بالأخير الى تحقيق هدف أبعد يضمن تراكما للثروة مع الحفاظ على موارد الطبيعة.  أما إذا كانت الخطة "انفجارية"، فلابد أن تكون تدميرية لا تنموية، ومن شانها العبث بموارد الطبيعة واستنفاذها وخلخلة توازناتها لتحقيق منافع آنية، كانت دائما في العراق ذات طابع أيديولوجي دعائي.

ففي مطلع السبعينات، مثلا، أنشأت الحكومات الغربية، استجابة لضغوط الرأي العام واعترافا بالتدهور البيئي،  مؤسسات مستقلة ذات صلاحيات كبرى لحماية البيئة (Environment Protection Authority) ووضعت قوانين صارمة بهذا الشان. وفي العراق عينت "حكومة الثورة" عزة الدوري وزيرا للزراعة (في ضوء خبرته ببيع الثلج) فانشغلت وزارته بتسعير البصل والطماطة والفجل. وأنشأت كذلك مؤسسة التربة واستصلاح (تخريب)  الاراضي، فانهمكتا (الوزارة والمؤسسة) بتنظيم حملات "العمل الشعبي" التي يساق خلالها الموظفون والمهنيون والمهندسون والطلبة والفلاحون والعمال الى أعمال صبيانية تتخللها "الهوسات" المبتذلة والشعارات المتخلفة الزائفة، بعيدا عن العمل المنتج.

كما خصصت الاموال الطائلة لمشاريع نفذتها شركات نفعية في ظل أنظمة ادارية فاسدة قائمة على اساس الواسطة والغياب التام لأية شفافية أو منافسة شريفة أو محاسبة. وأسست "جمعيات فلاحية" غاية في التخلف وانعدام المسؤولية كانت عمليا تشجع الفلاحين على ترك الفلاحة والانخراط في العمل "الوطني" القائم على تنظيم المسيرات الشعبية، والاحتفالات بتأسيس "الحزب القائد" وثورة "السابع عشر-الثلاثين من تموز" الى اخر المزبلة.

كما شهدت تلك الفترة حملة حكومية مكثفة، مازالت مستمرة للآن، لبناء السدود الكبيرة على نهري دجلة والفرات، ترافقت مع حملة إقليمية مشابهة في الدولتين المتشاطئتين الاخريين، سوريا وتركيا، أدت بالنتيجة الى وضع مائي وبيئي كارثي في العراق. فالسدود المائية هي وسيلة للتحكم بجريان الانهار ومنع الفيضان. وفي ظل حكم بوليسي قائم على السرية والتعتيم على المعلومات، تستخدم السدود لتكريس السيطرة الشاملة للحكومة على مصائر السكان عن طريق التحكم بشريان الحياة: الماء.

فالمعروف أن المشهد البيئي العراقي يرتبط تاريخيا بفيضان الرافدين، وهو فيضان الخير والبركة والعنفوان الذي يجدد خصوبة الارض ويغذي الاهوار بما تحتاجه سنويا من المياه لإنعاش دورة الحياة، الاقتصادية منها أم الايكولوجية، واسناد التنوع البيولوجي حتى موسم الفيضان اللاحق. ويجب، بيئيا، عدم كبح فيضان الانهار، إلا لتقليل الخطر على حياة السكان وممتلكاتهم.

ومما زاد الامر سوءا في العراق هو فشل الحكومة في التوصل الى اتفاقات عادلة بشأن الحقوق المائية للدول المتشاطئة، وهو فشل تتحمله، بالنسبة للمجتمع العراقي، الحكومة العراقية بحكم مسؤوليتها، أي بإعتبارها (أو هكذا يفترض) راعية للمصالح العليا للوطن. وهذا لايعني عدم وجود عوامل أخرى فاقمت من حدة المشكلة (كالموقف التركي المتشدد والعدواني من مياه النهرين على سبيل المثال) وأدت بالتالي الى خسارة العراق لحقه التأريخي بمياه الرافدين، وهي خسارة كارثية بكل ماتعنيه الكلمة من معنى، فيكفي الحاكم التركي الآن أن يغلق بوابة سد اتاتورك ليقطع شريان الحياة عن نصف العراق: نهر الفرات.

لقد أصدرت حكومة "الحزب والثورة" مئات القوانين التي هدفت الى تطبيق "ثوري"  "للاصلاح الزراعي" والقضاء على بقايا الاقطاع. وفي هذه، كما في مئات الحالات الاخرى، لم يأت بعثيوا العراق بشيء جديد غير المزيد من الخراب البيئي والاقتصادي. فالاصلاح الزراعي مطلوب في العراق منذ زمن طويل. وقد كان شعارا اساسيا من شعارات الحركة الوطنية العراقية، ولايزال يمثل ركنا مهما في أية محاولة جدية لإعادة بناء العراق الجديد. ومن سوء حظ العراقيين أن محاولات تطبيقه عقب ثورة 14 تموز 1958 جرت بصورة ارتجالية اقتصرت على إنتزاع الاراضي من الاقطاعيين والملاكين الكبار وتوزيعها على الفلاحين الفقراء. وهذا عمل تبدو دوافعه الانسانية واضحة ويجد تفهما لدى دعاة العدالة الاجتماعية من المنخرطين في العمل السياسي في العراق آنذاك، الا أنه بتر عن كل مايؤدي الى نجاحه على المستويين الاقتصادي (الانتاجي بالذات) والانساني كذلك (عدم وجود اليات تضمن توزيعا عادلا للاراضي مثلا أو مشكلة التعويضات وغيرها). فكيف يمكن لفلاح معدم أن يضمن انتاجية الارض؟ بالارادة وحدها؟.

لم يكترث بعثيو العراق بمصير الارض ولا الفلاحين وطغت شعارات محاربة الاقطاع الكاذبة على كل اجراءاتهم الاقتصادية خاصة ماتعلق منها بـ "الاصلاح الزراعي" . فالاهتمام بالارض والاقتصاد الزراعي ككل تراجع الى أدنى مرتبة في أولويات السلطة في ظل فورة اسعار النفط والسيولة النقدية التي وفرتها لها. فالاقطاع كمنظومة اجتماعية-اقتصادية نمت وتطورت عبر زمن طويل. وهو، كنظام للعلاقات الانتاجية، ومهما كان جائرا ومتخلفا، قد ضمن انتاجية عالية نسبيا للارض إضافة الى ضمان تشغيل فئات كبيرة من السكان وإبقاء الاقتصاد الزراعي حيا.

لذا كان لابد لأي إجراء يتوق لإصلاحه أو إلغاءه أن يعتمد مبدأين: أولهما العمل للمحافظة على إنتاجية الأرض وزيادتها حيث أمكن، وثانيهما العمل الصبور على القضاء التام على الجور والطغيان والظلم التأريخي الذي لحق بالفلاحين عبر السنين، أي معالجة الجوانب الإنسانية (اللاإنسانية بالأصح) التي رافقت نشوءه.

 إن معالجة هذين الجانبين (الاقتصادي والانساني) فضلا عن الجوانب البيئية، لايمكن أن تتم بين ليلة وضحاها وهما أكبر من مجرد الاستيلاء على أراضى الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين أو إنشاء "التعاونيات الزراعية" البيروقراطية التي خصصت لتشغيل الحزبيين وضمان حصصهم من الرشوة.

لذا فالعمل من أجل إنقاذ البيئة العراقية، اضافة الى إرتباطه العضوي ببناء عراق ديمقراطي جديد، هو مسعى مقدس ضد العسف والتغيير القسري لأنماط الحياة والقضاء على التنوع الذي يمنح الطبيعة سر جمالها وعطاءها.

 

 

 

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يرحب بالتزام الصين -بالامتناع عن بيع أسلحة- لروسيا •


.. متجاهلا تحذيرات من -حمام دم-.. نتنياهو يخطو نحو اجتياح رفح ب




.. حماس توافق على المقترح المصري القطري لوقف إطلاق النار | #عاج


.. بعد رفح -وين نروح؟- كيف بدنا نعيش.. النازحون يتساءلون




.. فرحة عارمة في غزة بعد موافقة حماس على مقترح الهدنة | #عاجل