الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حيّ على الحياة

إيمان البغدادي

2012 / 4 / 7
الادب والفن


في غرفتي الصغيرة الكائنة في أحد أحياء دمشق القديمة كانت لي حياة خاصة لا يعرف عنها أحد سوى دفتري المخبّأ في درج الطاولة الخشبية، هناك بالتحديد كنت أمتلك "مفتاح الثورة"، كيف لا وأنا التي لديها قلماً ودفتراً؟ كنت أكتب ما أريد، أسمي الأشياء بمسمياتها وأكشف العورات، وفي بعض الأحيان أتجاوز أصول النقد فأسبّ وأشتم دون حساب، كل شيء كان يسير ولم تواجهني أيّ عقدة إلا وحللتُها، فمع بداية سطرٍ كنت أبني أحلامي، و بسطرٍ آخر أهدُم كلّ العقبات التي من الممكن أن تواجهني.
كانت ثورةً موفّقة، فبين أوراقك الدفينة تعترض و تحتج قدر ما تشاء، تتسائل لماذا ستستخرج موافقة أمنية إن كنت ستتزوج أو ستفتح كشكاً لبيع العصائر؟ ولماذا يجب أن يتدخلوا بحياتك كلما قررت أن تعطس أو تحكّ قفاك؟ ولماذا ستعيش في وطنك كعابرسبيل يحيا على الهامش ريثما تسنح له فرصة عمل حتى ولو كانت في أفغانستان؟ في غرفتكَ المقفلة كل المستحيلات ممكنة، حيث يستطيع الإنسان المقموع مثلي أن ينصّب نفسه قاضياً عادلاً، ينصُر المظلومين ويُعيد الحقوق لأصحابها، يحكُم بالعدل دون التمييز إن كان المجرم شاباً يقف أمام القصر العدلي يبيع ذمته ويعرض شهادته بالزور مقابل خمسون ليرة، أم كان مجرماً من عيار بشار الأسد، هناك أنت قاضٍ لا يُرتشى ولا يخشى أن يتم زجّه في أحد السجون الأسدية إن كان على حق، طبعاً كل هذا بشرط واحد و هو أن يكون لديك ورقة وقلم ودرج ومفتاح ودماغ يصرف أكثر من نصف تركيزه وطاقاته لإقفال هذا الدرج الذي يُخبّئ بطولاتك الورقية.
أتذكر جيداً كيف كنت أمسك قلمي وأعلن ثورتي واحتجاجي بين فترة وفترة، وماهي سوى ساعات حتى أخرج من بيتي لأشعر من جديد أنني كسجادة الجامع متاحة لأن يدوسها كل من شاء، فالمعلم يعنّفنا و يغتال شخصياتنا و إنسانيتنا، و الأهل يقمعوننا و يخرسون تساؤلاتنا إمّا خوفاً علينا أو منّا، والمجتمع لا يرضى بالتغيير أوالاختلاف فلطالما ألزمنا بتقاليده المهترئة وكأنها لعنة أبدية، والشيخ يسمّم أرواحنا وعقولنا، وعندما نشكي له حالنا كان يقول:الصبر مفتاح الفرج رغم أنه لم يكن يصبر أمام لذاتهِ ولم يقل كلمة حقٍ واحدة بل كان يمجّد القائد القاتل الفاسد في كل خطبة جمعة ويدعو الله بأن يحفظه لنا، وبقدرة قادر يستمر كرشه بالانتفاخ وسيارته هي الأجمل والأحدث ومزرعته كمزرعة السلاطين رغم أنه لا يعمل سوى كشيخ للجامع؟ كنا ندرك الكثير لكننا نغضّ الطرف ونختلق الأعذار فليس في يد العبد من حيلة، الكلّ يستغلك و ترضى. أنت وحدك أيها المواطن من عليه أن يبلع الموس على الحدين و يبتسم في وجه الخطأ وينحني لمرتكبيه ويسكت.

اعتدنا أن نعيش انفصاماً رهيباً في شخصياتنا، ففي بلاد الأسد لا علاقة لنا بوطننا ولا بغيرنا ولا حتى بأنفسنا، المهم أن نعيش الحيط بالحيط. انقلبت المسميات والمفاهيم أمام أعيننا وغضضنا البصر بل وتمادينا بذلك وأصبحنا نُسوّقُ لأنفسنا وللعالم بأننا بلد الأمان الأول... ولطالما قلنا: نحن الأفضل فنحن نعيش بأمان، حتى حين نخرج في منتصف الليل لا نتعرض للقتل أو الاغتصاب؟ كيف يكّذب المرء على نفسه ويدّعي أنه يحيا بأمان رغم أنه مسلوبٌ من كرامته وحقوقه؟ ثمّ هل هناك أمان بدون حرية؟؟ للأسف ضاقتْ مفاهيمنا وتشوّهتْ وأصبحنا كالكلب العالق في حفرة يرضى بأي عضمة ترمى له.

أغلبنا لم يُعاصر سوى هذا النموذج الأوحد من حياة الذلّ والخوف والخنوع، تقلصّت أحلامنا حتى أصبح همنا الأوحد تأمين لقمة العيش، رغم أنّه حتى القطط تأكل و تشرب فبماذا اختلفت حياتنا عنهم؟ عشنا في هذا البؤس حتى انتقلت بعض الأسطر من دفاترنا المخبّئة وزيّنت أحد الجدران في درعا لتُرينا بأي أمان كنّا نعيش!! و لتكشف عوراتهم وعوراتنا، ولتؤكد لنا أننا نعيش في قبرٍ كبير اسمه الوطن و نعبد إله مريض اسمهُ الصمت وبأننا مجرد نُسخاً عن بعضنا البعض، نغتال اختلافاتنا وندفنها حيّة فقط كي يقبل بنا هذا المجتمع الذي تمّ مسخه وتشويهه.


و في زمن الثورة و بعد أن استعدنا ذواتنا الضائعة أؤمن بأنه من المستحيل أن نسمح لأحد بأن يستغلنا لا بإسم السيادة والوطن ولا بإسم الدين ولا بإسم العروبة..الخ، فالإنسان سيكون وسيبقى القيمة العليا في الحياة وله كامل الحرية بالتعبير عن آرائه والمشاركة ببناء مستقبله ووطنه وعيش حياته كما يريد. منذ بداية الثورة لم أعد أستطيع العيش وأنا حبيسة سطور دفاتري القديمة، فلماذا قد يختار المرء أن يبقى عبداً وقطار الحرية حرّك عجلاته وسار على السكّة؟
أتمنى أن نطوي صفحة الثورات الورقية ولنكن شركاء في صناعة التغيير، ولنصرخ بوجه الظلم ولنهتف للحق والحرية ولننهض من قبورنا ولنعلن رغبتنا بالحياة في وطن يساوي بيننا ويتسع لنا جميعاً بكل اختلافاتنا وألواننا.

إيمان البغدادي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه


.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز




.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال


.. محمود رشاد: سكربت «ا?م الدنيا 2» كان مكتوب باللغة القبطية وا




.. جائزة العين الذهبية بمهرجان -كان- تذهب لأول مرة لفيلم مصري ?