الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 16 تغيير ام إصلاح

عبد المجيد حمدان

2012 / 4 / 12
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


تغيير أم إصلاح ؟
كنت قد أنهيت الحلقة الثالثة ، من هذه السلسلة ، والمعنونة " انفصال الرأس عن الجسد " ، بالوعد أن تكون إعادة بناء ما تهدم ، ومؤسسة الأمن في المقدمة ، هي موضوع الحلقة التالية . لكن تدافع الأحداث ، كما أشرت ، فرض نفسه ، وتتالت الحلقات ، مبتعدة بنا عن المسار الذي رسمت . والآن جاء أوان العودة إلى المسار ، وطرح مسألة إعادة البناء ، ليس لمؤسسة الأمن فقط ، وهي المسألة التي دفعت مصر إلى خضم متاهة ، حمَّلت للثورة والشعب أخطارا ما زالت تتصاعد . لكن وحتى نستطيع وصل ما انقطع ، يواجهنا سؤال ، لا بد من محاولة الإجابة عليه . سؤال يقول : في أي إطار يمكن الحديث عن إعادة البناء ؟ في إطار تغيير شامل تفرضه متطلبات الثورة ، أم في إطار إصلاح للنظام ، تواصل القيادة بفرعيها – المجلس العسكري والحكومة - ، تنفيذه ، ملتزمة بتوجيهات مبارك ، منذ أن عهد إليها بإدارة البلاد ؟
مضمون الشعار :
فحين رفعت جماهير الثورة شعار " الشعب يريد إسقاط النظام " بدا أن مضمونه غير واضح ، لقيادة الثورة قبل جماهيرها . وبدا أن هناك نوعا من اللبس يتعلق بمفهوم النظام ، أعمدته ومكوناته ، مؤسساته وشبكاتها ، ما هو رئيسي منها وما هو ثانوي . بدا وكأن هناك ما هو غائب ، بخصوص مضمون الشعار ، ومفهوم النظام ، عن ذهن كثيرين ، ليس من القيادات الشبابية للثورة فقط ، ولكن من القيادات الحزبية والسياسية المجربة أيضا . وشت بذلك سلسلة من الأحداث ، والوقائع ، التي تتالت على المشهد آنذاك ، وحتى وقت قريب . كما بدا من نفس سلسلة الأحداث ، أن نسبة لا بأس بها من هذه القيادات ، ما زالت غير مقتنعة بأن ما حدث ثورة ، تستهدف تغيير كامل النظام . تغيير يوجب إسقاط كل أعمدة النظام ، ويعيد إقامتها من جديد ، ولكن على قواعد أخرى . تغيير يطول كل المؤسسات ، صغيرها قبل كبيرها ، لإزالة وتنظيف ما علق بها من فساد . فساد متراكم الطبقات سميكها . وإذن ولإنعاش ذاكرة القارئ ، دعونا نستعيد بعض هذه الأحداث والوقائع ، ونحاول ترتيبها كي يساعدنا الترتيب على قراءتها .
أولا على صعيد النظام : بديلا للاستجابة لمطالب المتظاهرين ، لجأ النظام كعادته لأسلوبه المجرب ، القمع بأقصى درجات العنف . وبعد تأكده من فشل هذا الأسلوب ، بدا وكأنه يستجيب لبعض مطالب الإصلاح ، والتي كان المتظاهرون قد تجاوزوها . أعلن مبارك أنه لم يكن ينتوي الترشح لفترة جديدة . وحمل هذا الإعلان ، ضمنا ، تراجعا عن فكرة التوريث ، وترشيح ابنه جمال بديلا له . عين نائبا للرئيس ، بعد سنوات طويلة رفض فيها مجرد النظر في فكرة كهذه . أقال الوزارة ، وكلف وزير الطيران المدني بتشكيل وزارة جديدة ، مهمتها تنفيذ إصلاحات في جهاز الدولة . أعلن عن إعادة النظر في عدد من مواد الدستور ، وكلف لجنة للقيام بالمهمة . كلف نائبه ببدء حوار مع ممثلي قوى وطنية وشخصيات عامة ، للاتفاق على الإصلاحات المنشودة . أخيرا تنحى مبارك ، وانتقل وعائلته إلى منتجع شرم الشيخ ، الذي كان يمارس مهامه الرئاسية أغلب الوقت . لم يعهد بصلاحياته إلى نائبه ، كما تقتضي الشرعية القانونية ، أو إلى رئيس مجلس الشعب ، كما يقضي الدستور ، بل عهد بها إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة ، بما يعني إلحاق تنحي نائبه بتنحيه .
ثانيا على صعيد قوى الثورة ، والقوى الوطنية والحزبية ، التي بدأت معها ، والتي التحقت بها : أدى الرد بالعنف على مطالب الإصلاح ، التي بدأ بها المتظاهرون ، ومرافقة القمع وتوالي سقوط الشهداء والجرحى ، للإصلاحات المعلن عنها ، أدى إلى رفع متواصل في سقف المطالب ، ولتستقر على مطلب إسقاط النظام . لعب عناد مبارك ، وبطء استجابته لزخم الثورة ، كما أشار هيكل ، دور المحفز والمحرك لتطوير شعارات الثورة ، ورفع سقف مطالب الثوار . لكن حركة المثقفين والسياسيين ، المنضمين والملتحقين بالثورة ، وبمن فيهم كوادر وقيادات حزبية ، ومفكرون وكتاب وناشطون حقوقيون وسياسيون ، لم ترافق ، أو تواكب ، حركة الشباب ورفعهم لسقف المطالب . هكذا ظهر ما وصف بلجان الحكماء ، التي بدأت عمليات وساطة بين شباب الثورة والنظام ، فشلت جميعها . لكن الفشل لم يخف دلالتها وهي أن هؤلاء الحكماء لم يتقبلوا حقيقة أن ما يجري أمامهم ، وما يشاركون فيه ، هو ثورة صممت على إسقاط النظام . دلل على ذلك فعل الوساطة وتمثله في محاولة عقد صلح بين طرفين وقع بينهما عراك – خناقة بالعامية المصرية - ، صلح يقوم على توسيع بنود الإصلاح الذي يعرضه النظام . أكثر من ذلك استجابت قوى سياسية ، وقيادات أحزاب ، من يمين ويسار، الإخوان والتجمع على سبيل المثال ، لنداء الحوار مع نائب الرئيس ، وانعقدت أكثر من جولة حوار ، بان فيها من البداية ، عزم النظام على تنفيذ إصلاحات هامشية ، لا تستجيب للحد الأدنى من مطالب شباب الثورة . وقعت قوى في حالات من التذبذب والتردد ، بين الإقدام والإحجام ، عن مائدة الحوار ، رغم القناعة بانعدام الجدوى ، ومن اللحظة الأولى . مرة أخرى ورغم ارتفاع سقف مطالب الثورة ، واستقراره على إسقاط النظام ، بدأ أن قوى سياسية وحزبية ، لم تتوصل للقناعة بأن ما تشهده وتشارك فيه هو ثورة ، تطرح وتطالب بما هو أبعد بكثير من الإصلاح ، وتلخص في شعارين رددتهما مصر كلها : " الشعب يريد إسقاط النظام " و " عيش ، حرية ، كرامة ، عدالة اجتماعية " .
مفهوم النظام :
وبتنحي مبارك ، وارتحاله وأبنائه إلى منتجع شرم الشيخ ، وانصراف نائبه إلى بيته ، انتهى مشروع التوريث ، ومعه النظام الذي خلط ما بين الجمهورية والملكية ، وحول الأولى ، وبأدواتها ، إلى الأخيرة . ومع هذا الانصراف ، أخلى المتظاهرون ، وليس شباب الثورة وحدهم ، بل ومعهم كل القوى السياسية والحزبية ، المشاركة من البداية – اليسار ، القوميون والليبراليون - ، والمنضمة بعد فترة – الإخوان - ، الميادين ، عائدين إلى بيوتهم ، بعد احتفالات صاخبة بسقوط النظام . وكان الملفت لانتباه أي مراقب من الخارج ، مثلي مثلا ، أن أحدا من هؤلاء جميعا لم يسأل نفسه السؤال الهام جدا آنذاك : هل حقا وفعلا سقط النظام ؟ والأهم هل اقتنع الحكماء والمثقفون ، والقيادات السياسية والحزبية ، بأن ما وقع كان بالفعل ثورة ؟ وإن كان حدث ذلك ، هل سأل أحدهم نفسه السؤال المنطقي : هل تحقق هدف الثورة ؟ وهل يمكن لجهاز الحكم القائم – الوزارة التي عينها مبارك ، والمجلس العسكري الذي عهد إليه إدارة البلاد - تحقيق أي من أهدافها ؟
كان تنحي مبارك ونائبه ، وانسحاب العائلة لمنتجع شرم الشيخ ، قد سبقه انهيار مؤسسة الداخلية ، وتفكك جهاز الأمن ، والاعتداءات على السجون وهروب السجناء . وفي دولة يعتمد بقاء نظامها على قدرة الداخلية ، وأذرع الأمن المختلفة على القمع ، يقع في روع المواطن أن سقوط الداخلية حمل معه سقوط النظام . فهل كان الأمر كذلك ؟ وهل وراء هذا السقوط ، وكان مدويا ، كَمُنَ سر اطمئنان الثوار والقوى السياسية والحزبية ، ومن ثم إخلاؤهم للميادين ، والعودة للبيت ، مطمئنين ومرتاحي البال ؟ .
لم ينتبه الجميع ، فيما بدا لي ، إلى حقيقة أن الداخلية ، بأجهزتها الأمنية المتنوعة والمتشعبة ، وإن شكلت العامود الرئيسي للنظام ، لم تكن عاموده الوحيد . بقيت أعمدة عدة ، لم يقع أي منها ، رغم وقوع ما اعتبره كثيرون ، الرئيسي فيها . ماذا يعني هذا الكلام ؟ تعالوا نسترجع وقائع ما حدث .
حين رحل مبارك وعائلته إلى منتجع شرم الشيخ ترك وراءه جملة الوقائع التالية : 1) حكومة كان هو قد عينها ، برئاسة أحد المخلصين للنظام ، الفريق أحمد شفيق ، وحدد لها برنامج عملها ، ومهامها المباشرة ، وبينها إعادة بناء وزارة الداخلية وأجهزتها التي انهارت . 2) مجلس عسكري - يرئسه وزير دفاع خدم معه أكثر من عشرين عاما ، ويضم جنرالات قام هو بترفيعهم وتنصيبهم في مواقعهم - نقل إليه مسؤولياته وكلفه بإدارة البلاد . 3) لجنة لإعادة النظر في عدد من مواد الدستور ، حددها بنفسه قبل رحيله . 4) برلمان مزور ، استمر قائما بغرفتيه دون أن تمر في خاطر المسئولين فكرة حله . 5) حزب ، رغم حرق أغلب مقراته ، ظل يمسك بمقاليد الحكم ، من خلال سلسلة طويلة من الوزارات ، المؤسسات ، الاتحادات ، النقابات ، البنوك ...الخ ذات العلاقة المباشرة بحياة الناس .
ولأن الوقت في حياة الثورات يشكل عاملا فارقا وشديد الأهمية ، يمكن القول ، بناء على ما سبق ، أن فترة حكومة شفيق ، وهي طويلة بمقياس احتياجات الثورات ، تعدت كونها إهدارا للوقت . فحكومة شفيق ، الذي لم يكن يترك فرصة لإعلان عدائه للثورة ، وقلة احترامه لشهدائها ومناضليها ، استغلت الوقت ، ليس فقط لتزرع ألغاما في طريق الثورة ، بل ولتضيع أهم مكتسباتها . ولعل القارئ ما زال يذكر أن أكثر المواجهات عنفا ضد الثورة ، تلك المعروفة إعلاميا بموقعة الجمل ، وقعت في ظل حكومة شفيق . وليس فقط أن الحكومة ، والمجلس العسكري قبلها ، لم تحقق في الجريمة ، وكان وما زال كشف ملابساتها ممكنا ، بل وسهلا ، بل قامت ، ومن جاءت بعدها ، بالتستر والتعتيم عليها ، في دلالة لا يمكن أن تخفى على أحد .
ولا تسعفنا حكمة التاريخ ، ولا خبرة الثورات ، بمثال واحد لثورة أوكلت مهمة تحقيق أهدافها ، لطرف من خارجها ، ونجحت . والمشكلة تغدو أصعب بكثير حين يأتي هذا الطرف من لب النظام الذي قامت الثورة لإسقاطه . لقد عُزي ما حدث لرومانسية شباب الثورة ، ولقلة خبرتهم . لكن سؤالا ملحا أخذ يطرح نفسه فيما بعد . كيف غابت هذه المسألة عن ذهن وعقل قيادات مجربة ، بدأت مع الثورة ، أو التحقت بها ؟ أين كان المفكرون والكتاب وسائر الحكماء حين حدث هذا ؟ وقبل ذلك ماذا كان دورهم في الأيام الثماني عشرة في الميادين ؟ ألم يخطبوا ؟ ألم يحاوروا ؟ ألم ينصحوا ؟ ألم يساعدوا على سد ثغرة نقص الخبرة ؟ أم أن شيئا آخر كان يقبع خلف كل ذلك ؟
أشار هيكل مرات عديدة ، عبر حلقات فضائية الجزيرة وغيرها ، إلى ما وصفه بتجريف النظام لبركة السياسة في مصر . ذلك عنى أن القوى السياسية ، وفي مصر عشرات ، إن لم يكن مئات ، أساتذة علوم السياسة في جامعاتها ، أصيبت بضعف القدرة على قراءة الأحداث من جهة ، والتنبؤ بمساراتها اللاحقة من جهة أخرى . انعكس هذا ، بأوضح ما يكون ، ورغم سقوط رأس النظام ، في استمرار عدم القناعة بأن ما حدث كان ثورة ، وثورة شاملة وعميقة الجذور . استهدف اقتلاع النظام ومن جذوره ، وليس مجرد عملية إصلاح فيه . دلل على ذلك شواهد عدة منها :
ثورة 52 :
1. على كثرة ما أشير لمقارنات ومفارقات مع ثورة 52 ، لم يُشَرْ ، لا من قريب ولا من بعيد ، إلى تجربة هامة لها ، تكررت بحكومة شفيق . انحصرت المقارنات في الصراع بين مجلس قيادة الثورة وواجهته ، اللواء محمد نجيب ، وبين عبد الناصر والإخوان . وبين انقلاب الضباط الأحرار على الديموقراطية ، ورفض الدستور . وأغفلت المقارنات حقيقة أن الضباط أسندوا مهمة إدارة البلاد لحكومة مدنية ، لم يشارك فيها ضابط واحد ، ترأسها السياسي البارز آنذاك ، أحمد ماهر . ورغم أن هذه الحكومة المدنية لم تفعل شيئا إزاء تحقيق أهداف الثورة ، رغم استمرارها أكثر من سنة ، إلا أن الضباط فوجئوا بأن الحكومة المدنية ، مدفوعة بقناعة تقول بضعف خبرة الضباط السياسية والعملية ، تندفع في اتجاه الاستئثار بالسلطة ، والاكتفاء بتنحي وخروج الملك ، كأقصى تحقيق لأهداف الثورة . هنا اضطر الضباط لإزاحة الحكومة المدنية ، وتشكيلهم هم للحكومة برئاسة عبد الناصر . وهذا عين ما فعله – الركون لحكومة مدنية ، ثم المطالبة بإقالتها - ثوار التحرير مع حكومة شفيق ، وبعد كل تلك الخسارة للوقت ، وكل تلك العقبات التي كدستها هذه الحكومة ، أمام تحقيق ولو بعض أهداف الثورة ، ومنها مثلا وضع اليد على الأموال المنهوبة ، أو استعادة ما تم تهريبه منها .
2. لم يشكل صرف الضباط الأحرار للحكومة المدنية ، والحلول مكانها ، انقضاضا على السلطة ، ولا استئثارا بها ، كما وصفته المقارنات . شكل ذلك نوعا من تصحيح للمسار من جهة ، ومن إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح ، كما تقضي بذلك حكمة التاريخ ، وخبرة الثورات ، من جهة أخرى . والثورات تعوض افتقاد الحكمة ، و نقص خبرة القادة ، وضعف الحنكة السياسية ، بطاقة الشباب وحماسهم وعزيمتهم ، وإخلاصهم اللامتناهي لأهداف الثورة . وفي المقارنات ، يتناسى المقارنون ، أن ثورة 52 حققت جماهيريتها بعد صرف الحكومة المدنية ، وبعد بدئها تطبيق مبادئ وأهداف الثورة ، وبعد نزول الثوار إلى ميدان العمل الجماهيري ، وإقناع الجماهير بصحة أهداف الثورة .
3. لم تملك ثورة 25 يناير مثل هذه القيادة . ذلك ما يقال في العادة . وقيل أكثر عن نقاء قياداتها وزهدها في شغل المواقع الحكومية . وبعد كل ما مضى من وقت ، وما عايشنا من نتائج ، علينا أن نسأل :هل كان ذلك صحيحا ، أم كان جزءا من مخطط حكومة شفيق والمجلس العسكري لإجهاض الثورة ؟ صحيح أن ضعف الخبرة ينتج أخطاء . لكن الخبرة الثورية العالمية تضع أمامنا حقيقة تقول : أن هكذا أخطاء ، مهما تكن فادحة ، لا يمكن أن تقارن بفداحة العوائق والعقبات التي تضعها حكومة كحكومة شفيق ، على طريق إنجاز أهداف لثورة . ولعل القارئ يتذكر أن ثوار 25 يناير ، اسْتُبعِدوا ، ولم يكن ذلك عن زهد منهم ، عن أية مناصب حكومية . وإذا كان شباب الثورة، لنقص في خبرتهم السياسية ، لم ينتبهوا لحقيقة مخطط أصحاب الثورة المضادة ، والذين يمسكون بمقاليد الحكم ، المجلس العسكري وحكومة شفيق ، فماذا عن الكوادر والقيادات الحزبية ، والمثقفين الثوريين ، والكتاب ، وأساتذة العلوم السياسة ....الخ ؟ هل فات ذلك عليهم كلهم ، وبينهم المجربون المخضرمون ، أم ماذا ؟
4. وكان هناك شاهد شديد الوضوح ، شديد الإبهار في ذات الوقت . كان مبارك ، قبل تنحيه ، قد حدد بضع مواد من الدستور ، وعين لجنة ، لتعديلها . وكان كل ذلك في إطار خطة لإصلاح محدود في النظام ، لا لإسقاطه . غيَّر المجلس العسكري اللجنة ، مبقيا على مهمتها . وانشغل المثقفون والسياسيون بالتشكيل دون المهمة . قليلون صرخوا بأن الدستور ، كعامود من أعمدة النظام ، سقط مع سقوط مبارك . صرخوا بأن الترقيع يعني الإقرار ببقاء النظام ، والذي يحتاج فقط لبعض الإصلاح . قليلون قالوا أن المطلوب ، تأكيدا لنجاح الثورة ، وضع دستور جديد لا ترقيع القديم . لكن هذه الأصوات ضاعت كما لو أنها أطلقت في برية . انشغل الجميع ، وفي مقدمتهم سياسيو الثورة ، بمسألة تشكيل اللجنة ، قانونيته وأغراضه . طال الجدل ، ولكن لم يأخذ أي طرف موقفا حاسما برفض ترقيع دستور سقط . قد يقال بأن أكثر من جهة سياسية اعترضت على التعديل . وهذا صحيح . لكن أي سياسي ، خصوصا إذا كان حزبيا ، يعرف أن الاعتراض وحده لا يكفي . وأن الاعتراض يجب أن يتبعه رفض حاسم ، ودعوات للخروج إلى الشارع ، وذلك لم يحدث .
5. وقدم التصويت على التعديلات شاهدا آخر ، جاء كسابقه في درجات الوضوح والإبهار . قبل التصويت ، وفي برنامج فضائي مشهور ، سئل ممثل المجلس العسكري عن الخطوة التالية للتصويت على التعديلات ، وهي تسعة مواد فقط . قال بوضوح ، لا لبس فيه ، أن المجلس أعد إعلانا دستوريا في حال أن جاء التصويت بنعم ، وإعلانا آخر في حال أن جاء التصويت بلا . الطريف ، وليعذرني القارئ ، أن كل القوى تجاهلت هذا التصريح فيما بعد ، وركزت على أن الإعلان نسف ، في الواقع ، الشرعية التي أتى بها التصويت . لكن ليس ذلك هو المهم في رأيي . التصويت حدث في ظل حكومة شفيق . وعلى ذات المواد التي طلب مبارك تعديلها . وبأسلوب وآليات شبيهة بتلك التي اقترحها . هذا جانب . والأهم أن كثافة المشاركة ، وصورة إخراجها ، أو تصويرها كعرس للديموقراطية ...الخ ، فهمها المجلس العسكري ، وكثيرون من المشتغلين بالشأن السياسي ، على أنها تصويت على إصلاح النظام ، وليس على إسقاطه . وحين فطنت قوى الثورة السياسية ، لهذا المقلب الذي شربته ، كان السيف قد سبق العذل . وكل ما قيل من نقد للتعديلات ، وللإعلان الدستوري ، ولما ترتب عليهما من تعقيدات للوضع ، جاء متأخرا وبدون أية جدوى ، كما أكد سير الأحداث بعدها .
6. ناب القضاء عن المجلس العسكري وحكومة شفيق ، وحل كلا من البرلمان والحزب الحاكم ، مسقطا بذلك عمودين آخرين من أعمدة النظام . بدا لكثيرين أن هذا الفعل شكل خطوة جديدة على طريق إسقاط النظام ، إحقاقا لمطالب الثورة ، يحدوهم الأمل أن تتلوها خطوات أخرى . وبعد بعض الوقت جرى الانتباه إلى حقيقة تقول بأن حكم القضاء بحل الحزب الحاكم ، أصاب الشكل دون الأصل . فبعد الحل بقي أعضاؤه يمسكون بكل مواقع القرار والتنفيذ ، وبكل ما له علاقة بحياة المواطنين . بقي هؤلاء الأعضاء ممسكون بقيادات الإعلام ، بقيادات المال – البنك المركزي والبنوك الحكومية ، وبالبورصة – بمجالس المحليات ، بقيادات المحافظات ، بالجامعات ، بالنقابات والاتحادات ، وبكل الوزارات ...الخ . وبدا ما حصل وكأنه نوع من تبديل للقناع لا أكثر ولا أقل .
7. في وقت مبكر عمت مصر مظاهرات ، وقفات احتجاج ، وقفات مطالبة بتحسين الأحوال ....الخ . وصف الحكم ما يحدث بالمطالب الفئوية . ورغم ضخامة حملات تشويه ما يجري ، إلا أنها فشلت في التغطية على حقيقة أن حجم الظلم ، الذي كان النظام يمارسه ، كان هائلا ، وأنه اتسع ليطول كل فئات الشعب تقريبا . كما كشفت أن الفساد بدوره كان هائلا ، وأنه تجاوز التغلغل في كافة مفاصل الدولة ومؤسساتها ، ليصيب الأفراد أنفسهم . وعكس التساوق مع وَصْف ما يحدث بالمطالبات الفئوية ، وأنها تحدث في غير وقتها ، تجاوبا مع منهج الإصلاح ، لا مع مطلب إسقاط النظام . فلقد كان هناك إقرار كامل بعدالة المطالب ، وأن مكيال الصبر على كل من الظلم والفساد قد طفح ، وأن الثورة منحت المظلومين فرصة التنفيس عما لحق بهم وطال . هكذا كان واضحا أن المعالجة تتطلب وضع خطة شاملة ، تضع أفقا للحلول ، وتتطلب جهدا كبيرا في إقناع أصحاب المطالب ، بحتمية تلبيتها بعد بعض الوقت . وكان ذلك يحتاج إلى حكومة وبرنامج ثورة ، وحركة نشطة من الثوار ، شرحا وإقناعا وتعبئة . أما ما حدث فلم يخرج عن منهج إصلاح النظام . بطء شديد في التحرك ، وتسويف لا ينتهي تجاه المطالب . وإرباك متكرر بافتعال أزمات جديدة . وتحذيرات من تحميل الاقتصاد بأحمال لا تتفق مع طاقاته .
8. أخيرا ظل بارزا إصرار الحكومة ، والمجلس العسكري قبلها ، على عدم الاستجابة لمطلب القصاص من قتلة الثوار . صاحبه ، رغم غزل المجلس العسكري بالثورة والثوار ، بطء في الاستجابة لعلاج الضحايا وتسوية أحوال عائلاتهم .
صحوة أولى :
دفعت جملة الارتدادات التي أحدثتها حكومة شفيق ، والتعديلات على الدستور ، بشباب الثورة إلى الصحوة من حسن نواياهم ، ومما اعتبر رضا منهم بمنهج الممسكين بدفة الحكم . عادوا إلى الميادين ، وبمطلب محدد : إسقاط الحكومة التي كان مبارك قد عينها . وافترض الجميع أن هذا المطلب شمل إسقاط النهج ، الذي سارت عليه هذه الحكومة ، وتصحيح الارتدادات التي كانت قد أحدثتها ، عن مسار الثورة . وافترضوا أنها – المطالب - تشمل أيضا سلسلة إجراءات تحصين مجموعة مبارك من مساءلة متوقعة ، بما فيها قضايا الأموال المنهوبة ، والتي كان تطور الأحداث قد كشفها . وأيضا معالجة الفساد الذي فاق كل التوقعات .
نجح الثوار في الإطاحة بالحكومة التي نصبها مبارك قبل رحيله ، حكومة شفيق . وقدموا مرشحا من ميدان الثورة ، قبله المجلس العسكري ، وهو الدكتور عصام شرف ، أحد رموز النظام السابق ، والمفارق له بملابسات لم تتضح طبيعتها بصورة كافية . انتشى الثوار مرة أخرى بهذا النصر ، ومكررين ذات الخطأ السابق . انسحبوا عائدين إلى بيوتهم قبل أن يفرضوا تشكيلا ثوريا للحومة ، وقبل أن يقيدوا حكومتهم الجديدة ، بمنهج وبرنامج عمل ، يكفل تحقيق أهداف ثورتهم خطوة بعد أخرى . وفيما بدا ، لم ينتبه أحد إلى أن رئاسة الوزارة ، والوزارة ذاتها ، لا تملك من الصلاحيات ، حسب الإعلان الدستوري ، ما يجعلها صاحبة إرادة مستقلة ، وقرار مستقل بالتالي . فرئيس الوزراء والوزارة ، هي حسب الدستور وصلاحيات الرئيس – الذي ناب عنه المجلس العسكري – أشبه بسكرتاريا للرئيس ، لا تملك من أمرها شيئا . زد على ذلك أن الوزارة الجديدة احتفظت بعدد كبير من وزراء شفيق . والآخرون ، أكثرهم ، جاءوا من رحم النظام القديم . وهكذا ، ورغم أن رئيس الوزارة جاء من الميدان ، إلا أن الحكومة كانت حكومة إصلاح ، وليس حكومة ثورة . وتعددت الشواهد على ذلك ومنها :
1. لم تضم الحكومة الجديدة ، رغم وصفها بحكومة الثورة ، ولو وزيرا واحدا من شباب الثورة . ولم يكن ذلك بسبب افتقاد للكفاءة بين هؤلاء الشباب ، أو بسبب ما وصف بتعفف قادة الشباب ، وزهدهم في المناصب الرسمية . كان ضم أي منهم يعني دفعا لمطالب الثورة وبرنامجها ، على حساب منهج وبرنامج الإصلاح ، الذي تعهد به المجلس العسكري ، والتزم بتنفيذه . وكان هناك خوف من أن يقدم اندفاع الشباب وحماسهم ، وصدق التزامهم بقضايا ومطالب الشعب ، نموذجا يروق للجماهير ، ويدفعها للضغط على المجلس العسكري والحكومة ، لتبني هذا المنهج ، ومن ثم استبدال ضعيفي الأداء من الوزراء بشباب من الثورة .
2. أجبر أداء الحكومة الشباب على الصحوة من حسن نواياهم مرة بعد أخرى . لم تنفذ الحكومة مطلبا واحدا من مطالب الثورة بدون مليونية . لكن المدهش تمثل في تكرار انتشاء الثوار بكل نصر صغير يتحقق ، فتركهم الميادين ، أملا بأن تتابع الحكومة تحقيق ما تبقى من مطالب الثورة . وظل يبرز سؤال : أين كوادر القوى السياسية ؟ ولماذا تقاعست عن تبصير شباب الثورة بنتائج خطأ انسحابها من الميادين ، وهو الخطأ الذي تحول ، بتكراره ، إلى خطيئة ؟ وإذا كان شباب الثورة ، كما جرى الترويج له على نطاق واسع ، قد أصيب بفيروس الزهد والتعفف ، عن شغل مواقع الحكم ، فلماذا لم تتقدم الكوادر السياسية المجربة لشغل تلك المناصب ؟ ولماذا غابت خططها لاقتلاع الفساد ، وإحداث التغيير المنشود ؟ ولماذا اكتفت بالظهور في البرامج الفضائية ، بديلا للنزول للشارع ، وتعبئته بمطالب التغيير ، وتبصيره بأخطار ما تكدسه الحكومة من معوقات ، وما تفتعله أذرعها المختلفة من أزمات ؟
3. نجح الثوار ، من خلال مليونياتهم ، في إجبار المجلس العسكري على اعتقال عدد من رموز النظام ، وتقديمهم للمحاكمة . وكذلك على إنهاء دور مبارك ، الذي واصل توجيه الحكم من مقره في شرم الشيخ ، وتقديمه هو وأبناؤه إلى المحاكمة . انتقلت عدوى النشوة ، بهذا النصر ، من الثوار إلى مجموع الناس ، ومثقفيهم على وجه الخصوص . ولأن النشوة غالبا ما تطيح بالحكمة ، رأينا تلك المباهاة ، والتي تجاوزت كل الحدود ، بمحاكمة الرئيس المخلوع ، وأركان حكمه ، وحتى المتهمين منهم بقتل الثوار ، أمام المحاكم المدنية ، وليس أمام محاكم استثنائية ، وبالقانون الطبيعي . وبعد تعبئة مستديمة للجمهور ، في الداخل والخارج ، وبعد إهدار الكثير من الوقت ، صحا المفكرون والمثقفون ، وساسة ، يفترض المرء أنهم مخضرمون ، على قصور القانون القائم عن محاكمة هؤلاء على جرائمهم الكبيرة مثل : إفساد الحياة السياسية ، وما واكبها من جرائم سياسية ، وجرائم التعذيب ، وتخريب الاقتصاد ...الخ ، باقصار التهم على تلك التي يستطيع القانون والمحاكم المدنية التعامل معها ، مثل الرشوة ، والتربح ، والكسب غير المشروع ...الخ . وأيضا انعقدت المحاكمات في ظل إخفاق النيابة العامة عن تقديم الأدلة الثبوتية ، التي كانت حكومة شفيق قد نجحت في تدميرها أو إخفائها . وبديلا للتهليل والمباهاة ، توجهت التعبئة إلى تشكيك الجمهور في نزاهة النيابة العامة من جهة ، وفي عدالة القضاء من جهة أخرى . ومرة أخرى صب كل ذلك في صالح برنامج إصلاح النظام ، بديلا لمطلب الثورة بالتغيير العميق والشامل .
4. كان القضاء ، قبل أن تنقل له ملفات المحاكمات ، بقانون قاصر عن التعامل مع الجرائم الكبرى ، وفي ظل اختفاء الأدلة الثبوتية ، كان قد بادر إلى حل البرلمان المزور ، بغرفتيه الشعب والشورى ، وألحقهما بحل وحظر الحزب الحاكم ، ومصادرة مقراته وأمواله ، وإعادتها للشعب ، مالكها الأصلي . وكان من البديهي أن تضيف خطوات القضاء هذه مزيدا من الهيبة والاحترام ، إلى هذا الصرح الكبير ، الحافل سجله بمواقف ، عززت ثقة الجمهور باستقلاليته ونزاهته من جهة ، وأرست بناء هيبته واحترامه من جهة أخرى .
قبل ذلك ، وفي أيام الثورة الأولى ، عندما نزل الجيش إلى ميادين الثورة ، توجه له الثوار ، كما يحدث في أية ثورة ، مطالبينه بالوقوف إلى جانب الثورة . وبدا أن الجيش استجاب لنداءات الثوار ، ليرتفع شعار " الشعب والجيش إيد وحدة " . وتحول هذا الشعار إلى مبدأ ومن ثم إلى قانون ، ومن جانب واحد ، كما بين سير الأحداث فيما بعد ، وليحكم هذا القانون ، ليس فقط العلاقة بين الثوار والجيش ، وإنما الحياة العامة أيضا .
5- ولأن ما سمي بالوقفات والمظاهرات الفئوية ، كشفت كل ذلك الحجم المذهل من الفساد ، ومن انتشار وعمق الإجحاف والظلم ، كان بديهيا أن يحاول الناس البحث عن جوانب مشرقة ، أو على الأقل غير ملوثة ، وأن يتعلقوا بها . ووجد الناس ضالتهم في القضاء والجيش ، استنادا لمواقفهما السابقة . وكان أن تحول الثناء الذي أغدق عليهما ، إلى نوع من إسباغ القداسة عليهما . ولأن الشعب بطبيعته يغلب عليه التدين ، ومن ثم تتكاثف لديه مشاعر التقديس والقداسة ، فقد ترسخت لديه بسرعة مشاعر تقديس الجيش والقضاء . ولأن المجلس العسكري هو قيادة الجيش ، كان بديهيا أن تنتقل إليه صفات القداسة ، ولتشمل دوره السياسي الجديد . وذات القداسة أسبغت على هيئات القضاء العليا . وكم كان مرا ومعذبا ، فيما بعد ، كشف أن كلتي المؤسستين ، ليستا تماما على الصورة التي قدمتا بها . وكان مرا ومعذبا ، ومحبطا في نهاية الأمر ، اكتشاف أن المجلس العسكري ، بدوره السياسي ، غير منزه عن الهوى . وأن أجندته لا تتفق ، بل وتتعارض مع أجندة الثورة . والأمر ذاته مع النيابة العامة ، وبعض فروع وأفراد القضاء . لقد غاب ، فيما يبدو عن ذهن الثوار ، وسياسيين ومفكرين مخضرمين ، أن نظاما يمارس كل هذا القدر الهائل من الفساد ، لا يسمح بأن تكون مؤسسة من مؤسساته ، بمنجى من هذا الفساد . فهو لو فعل يكون كمن يغرس شوكة في جنبه ، لا تقض مضجعه فقط ، ولكنها تحرمه من مجرد الشعور بالراحة ، ولو لدقيقة واحدة من الوقت . ولكل ذلك فهو لا يدخر جهدا في إدخال ونشر الفساد في هذه المؤسسة . ورغم أن مؤسسات كالجيش والقضاء ، توفر لها أجهزة مناعتها نوعا من الحصانة ، إلا أن اختراقها بأفراد هنا وهناك ، يبقى أمرا محتملا ، بل وممكنا . وهذا الاختراق كان ظاهرا في جهاز القضاء ، الذي تم تحت إشرافه تزوير الانتخابات مرات عدة . وفي مؤسسة الجيش فإن انحياز ضباط كبار ، في جيوش دول الدكتاتوريات ، للنظام يشكل عام ، وللرئيس بشكل خاص ، أمر معروف في دول العالم الثالث ، ومن غير الممكن أن تشكل مصر استثناء عن القاعدة . هكذا صب التقديس ، ثم الخروج عليه ، بالتشكيك في عمل القضاء ، والنظر للمحاكمات كنوع من المسرحيات الهزلية ، والانقلاب من الثقة المطلقة في المجلس العسكري ، إلى شعار يسقط يسقط حكم العسكر ، صب في النهاية في صالح برنامج إصلاح النظام بدل تغييره . فقد بدا الشعار في نظر الجماهير غير منطقي ، ومن ثم غير مقبول . وبدا أن المجلس العسكري رأى في ذلك بداية انكشاف لظهر الثورة ، ومن ثم بداية ظهور لفرص ضربها ، فمتابعة برنامج الإصلاح ، دون منغصات أو مزعجات .
6- فلم يفت أي متابع ملاحظة سير عملية التحول ، في مواقف المجلس العسكري تجاه الثورة والإلحاح على مطالبها . انتقلت هذه المواقف من البطء في الاستجابة لمطالب المليونيات ، إلى إبداء الضيق والتبرم ، ثم إلى التحضيرات فالهجوم لتصفيتها . والمتابع لاحظ كيف انتقل المجلس العسكري من الخروج والمخاطبة المباشرة للجماهير ، إلى الانزواء ، وندرة الاتصال ، ببيانات متباعدة ، من خلال موقعه الرسمي على الفيسبوك . فالاتصال المباشر يعني حتمية الاستجابة للطلبات الملحة والمتكررة ، ويعني الميل عن برنامج الإصلاح لصالح برنامج الثورة .
تقدير المجلس لانكشاف ظهر الثورة ، دفعه بداية لاستخدام خبرة وأسلحة النظام السابق في تخوين قطاعات منها . ويبدو أنه ظن أن اتهام حركة 6 ابريل بالتدرب في صربيا ، وشباب آخرين ، بالعمل لحساب أجندات أجنبية ، سيلقي بالرعب في قلوب قادة الثورة . وجاءت المفاجأة بالرد على التحدي بتحدي أشد منه عزيمة . ورغم اللجوء إلى الاعتقالات والمحاكمات العسكرية ، فقد منيت خطة المجلس هذه بفشل ذريع ، مما اضطره إلى الانتقال لما بعدها . فرغم ترفقه بالاحتجاجات ذات الطابع الطائفي ، وقطع المحتجين الذي تقودهم تيارات إسلامية ، لخطوط السكك الحديد ، والطرق السريعة ، ضرب مظاهرات الثورة بعنف غير مسبوق . سحق الجنود أجساد متظاهرين بعجلات ناقلاتهم . قذفوا أجساد شهداء إلى أكوام الزبالة . سحلوا وعروا وداسوا أجساد فتيات . انتهكوا أعراض أخريات بإخضاعهن لكشف العذرية ....وباختصار أعادوا فعل ما فعله نظام مبارك وأكثر . وظلت المفاجأة أن حاجز الخوف الذي انكسر ، لم يرتفع من جديد ، كما اشتهى المشتهون . وظل الرد على التحدي بتحد أشد منه عزيمة ، وأقوى فعلا – حملة كاذبون مثلا - هو سيد الموقف . وجاء دور السلاح الأمضى . جرى افتعال سلسلة من الأزمات التموينية . أزمات لأنبوبة البوتاغاز . أزمات للسولار والبنزين . أزمات لرغيف العيش ، وارتفاع أسعار دون محاولات لأي ضبط . عودة لانفلات أمني متصاعد ، وصل حد حرق المجمع العلمي . ونتج عن كل ذلك أمران : 1) سقطت القداسة عن سياسة العسكر ، 2 ) وانتقل الموقف إلى نوع من تعادل أو توازن القوى بين الطرفين ، أي تجميد للحال على ما هو عليه .
ترحيل أهداف الثورة :
لكن الانشغال بالشواهد السابقة ، لم ينجح في طمس دلالة شاهد آخر ، ربما هو الأهم منها جميعا . شاهد يقول بأن المجلس ، متضامنا مع حكومة شفيق ، كان قد نجح في مهمة ترحيل تطبيق مطالب الثورة ، إلى بعد ما عرف بالمرحلة الانتقالية . نجح لأنه ، في واقع الحال ، حصل على موافقة ضمنية ، بدت شاملة ، من قوى الثورة ، ومن الأحزاب والحركات والسياسيين والمثقفين .... الخ بذلك . كيف ؟
استقر توصيف ما عرف بحكومة الثورة – عصام شرف الأولى والثانية - على أنها انتقالية أحيانا ، وتسيير أعمال أكثر الأحيان . والتوصيف ذاته التصق بحكومة الجنزوري ، التي شكلت على أساس أنها حكومة إنقاذ وطني . معنى ذلك أن أيا من هذه الحكومات ، غير مطالبة ، لأنها لا تملك لا الإرادة ولا الصلاحية ولا المنهاج ، بتنفيذ أي من مطالب الثورة . وموقفها جميعا من مسألة إعادة بناء الداخلية – وهو يحتاج إلى تفصيل كبير ، سيكون موضوع الحلقة القادمة – أوضح الأدلة والبراهين على ذلك .
في ذات الوقت كان الإعلان الدستوري ، قد رسم ما عرف بخارطة طريق لنقل الحكم – من يد المجلس العسكري - إلى حكومة مدنية . وحسب هذه الخارطة تجري انتخابات للبرلمان بغرفتيه ، تنتقل له صلاحية التشريع والرقابة على أداء الحكومة ، ثم انتخابات لرئاسة الجمهورية ، تصاحبها صياغة وإقرار الدستور الجديد . لم أنتبه في البداية ، كمراقب للشأن المصري ، أن ما يجري هو عملية ترحيل لتحقيق مطالب الثورة ، إلى حكومة منتخبة . ولتذكير القارئ بأحداث تلك الفترة ، أشير إلى تلك النصائح ، التي انهالت على شباب الثورة ، تدعوهم لترتيب أوضاعهم ومحاولة جني شيء من ثمار الانتخابات . واستجاب الثوار للنصائح . حاولوا أن ينظموا صفوفهم ، فتبعثروا في قرابة مائة وخمسين حركة وتنظيما . وبدل تفهم ما جرى ، انهال عليهم الجميع باللوم والتقريع ، لأنه ما كان من المحتمل أن يحصلوا على شيء من غنيمة الانتخابات . ومن ثم لن يكون لهم دور في الحكومة ، وفي تطبيق مبادئ وأهداف الثورة . وكانت عودتهم ، قبل الانتخابات للميادين ، وضغطهم لتطبيق بعض أهدافهم ، محاولة لتصحيح شيء من نواتج هذه الورطة .
وكان أن جماعة الإخوان ، وحزبها – الحرية والعدالة – ، هي أول ، وربما آخر ، من أدرك ووعى مقاصد خارطة الطريق التي رسمها الإعلان الدستوري . أول وآخر من أدرك من أين تهب الرياح ، وإلى أين تتجه . فكرت وخططت لكيفية استغلال هذه الرياح في دفع أشرعة سفينتها ، نحو الغاية التي كانت قد حددتها منذ عشرات السنين .اقتنصت الجماعة اللحظة . وضعت خططها استنادا إليها . خرجت مبكرا من ميادين مواجهات الثورة . وقفت ضدها كثيرا . ركزت كل جهدها على كسب الانتخابات . انقلبت على مواقفها المعلنة ، بخصوص الترشح على نسب محددة من المقاعد . عملت كل ما يتفق أو يتنافي مع الأخلاق التي تدعو إليها . لأنها أدركت أن الحصول على الأغلبية البرلمانية ، يعني الحصول على شرعية تمثيل الثورة . ويعني أن تطبيق برنامجها هي ، هو التحقيق لأهداف الثورة . ويعني أن الدستور كما تراه هي هو دستور الثورة . ورأى المجلس العسكري أن برنامج الجماعة يتفق مع برنامج إصلاح النظام ، ويتعارض مع برنامج الثورة للتغيير الشامل . ومن هنا كان الاتفاق وكان الاختلاف . كان اتفاق ما صار يعرف بقطبي المعادلة السياسية ، واختلافهما هماالاثنان ، مع قطبها الثالث ، قطب الثورة . وفي ضوء كل ذلك يمكن فهم ، فالحديث عن ، ما نصفه بإعادة البناء . وإذن ، إلى الحلقة التالية .












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تقارير تتوقع استمرار العلاقة بين القاعدة والحوثيين على النهج


.. الكشف عن نقطة خلاف أساسية بين خطاب بايدن والمقترح الإسرائيلي




.. إيران.. الرئيس الأسبق أحمدي نجاد يُقدّم ملف ترشحه للانتخابات


.. إدانة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب توحد صف الجمهوريين




.. الصور الأولى لاندلاع النيران في هضبة #الجولان نتيجة انفجار ص