الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس / تركيبة الدولة من -اللاهوت الأحمر- إلى -اللاهوت الروحاني-

المختار بن جديان

2012 / 4 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


كتب المختار بن جديان•
[email protected]

تونس و تركيبة الدولة زمن الاستقلال

اشتد الصراع الفكري والسياسي في يوم من تلك الأيام التي عاشتها الحركة الوطنية في تونس، بين كل من الزعيم الأكبر –الحبيب بورقيبة- والزعيم الكبير-صالح بن يوسف-.
كان الصراع فكريا صرفا; حيث انتعل كل منهما حذاءه الخاص، الذي يتماشى مع طريقه، إلا أنهما كانا يدرُسان ويُخططان في نفس الخندق، ربما لأنه جمعهما نفس الهدف ألا وهو -بناء دولة تونس ما بعد الحصول على الاستقلال-.
ازداد هذا الصراع ضراوة بين كل من هاذين المُناضلين مع اقتراب –تفهم- فرنسا لضرورة منح تونس استقلالها، وكانت الأخيرة –أي فرنسا- تشترط في الاستقلال –منطق التبعية المستقبلية- وكيفية ضمان مصالحها الهيمنية على الأرض التونسية ما بعد حصولها على مسودة الاستقلال.
ومن دون أدنى شك وجدت فرنسا نفسها أمام مُفاوضان اثنان يختلفان من حيث البُنية الفكرية والخلفية السياسية وحتى الانتماء الجغرافي في تونس، مُفاوض يمتهن السياسة من منطلق –الولاء والقداسة- للهيبة الغربية الحداثية، ومفاوض شرس يرى في المقاومة حق مشروع لافتكاك السلطة الشعبية والاستقلال التام.
وبالتالي وجهت فرنسا دفتها قِبالة –الرجل الأبيض- المعروف بضحكته المُسيسة والشهيرة وبتصرفاته الجريئة، وأُصرف النظر عن الرجل الأسمر والمشهود له بوقفاته وخطاباته الساحقة والقاصفة، والمُنادية بحق الشعب التونسي في تقرير مصيره بنفسه.
واستقبل الرئيس الفرنسي –ديغول- آن ذاك -الحبيب بورقيبة- بالأحضان والورود والعطور الفرنسية الفاخرة، وأُبيدت الإمبراطورية –اليوسفية- التي كانت تمثل أكثر من نسبة 80 % من الشعب التونسي في تلك الفترة...قُصفت برُمتها بدءً بقادتها انتهاءً بنفُوذها وخاصة جامع الزيتونة الذي كان –يوسفيا- عن جدارة، ببركة الشيخ -البشير بن يوسف- وهو أخ الزعيم الكبير -سي صالح-.
بدأت تونس منذ سنة 1956 في رسم ملامحها الجديدة والتي أراد زعيمها أن تكون أبدية عن جدارة، بعد أن استثنى عن نفسه حُكم الموت والمرض، وأشرب نفسه –إكسير الحياة- وخدر أعضاء الحركة التأسيسية في أن جعلهم لا يسمعون ولا يفقهون سوى لغته وأسلوبه.
كانت من بين الشروط الفرنسية في ذلك الوقت مُقابل منح تونس استقلالها، هو تطويع الرأي العام التونسي للخط الفرانكفوني بأبعاده السياسية بما فيها نشر للنموذج السياسي الفرنسي، والثقافية بنشر اللغة الفرنسية لتصبح أما ثانية بعد العربية.
تُرجم هذا الشرط في شكل انتماء حقيقي للمنظمة الدولية للفرانكفونية بعد الستينات، وأثار اجتماع -الحبيب بورقيبة- بسيدار سنغور رئيس السينغال، وحماني ديوري رئيس النيجر، بمباركة من وزارة الخارجية الفرنسية، سنة 1960 حفيظة المُحللون الذين اعتبروه -الأب الروحي للفرانكفونية- في شمال إفريقيا، وهو ما اعترف به رسميا في تصريحاته لإحدى الصحف الفرنسية مُتفاخرا بهذا الخط، كمنبع ثقافي رصين قائلا " إننا لا نستطيع الإعراض عن الغرب، إننا متضامنون مع الغرب بأكمله، متضامنون بصورة أخصّ مع فرنسا، ومتمسكون بتدعيم الروابط مع فرنسا وبصورة أخصّ في ميدان الثقافة، وفكرة بعث رابطة للشعوب الفرانكفونية تولدّت هنا..."
ناهيك بالطبع عن تلك الخطابات والرصاصات السحرية التي وجهها هذا الزعيم للنواصي التونسية مُثبتا فيها الوصمة الدستورية كمنهج سياسي عام يحكم البلاد إلى ما لا نهاية.

تواصل المنهج مع الابن التجمعي المدلل –بن علي-

وهذا بالفعل ما حصل، حيث انتقلت السُلطة بمُوجب الوراثة الحزبية إلى –الأنيق- زين العابدين بن علي، الذي بدوره أحيي ذلك الصراع القديم و انتقم لصالح بن يوسف دون أن يشعر وقتل الروح –البورقيبية- في أنفس التونسيين و ربّى فيهم روحا جديدة –تسكن النفس وتلزمها أينما كان.
وتفرّد برؤيته الخاصة في بناء الدولة، فقد كان -بن علي- وعلى حسب شهادات عديدة يمقت سَلـَفـَهُ الحزبي بشدّة، فقد أُتهم بالقبض على الزعيم الحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية التونسية بمعية كل من الحبيب عمار والهادي البكوش وغيرهما من رجالات تلك المرحلة التي عاشها، ثم قاموا بحبسه "بدار الوالي" بالمنستير" بشكل تعسُفي، وكان المحامي -علالة الرجيشي- الذي تقدم بعريضة لوكيل الجمهورية يوم 2-3-2011 حول هذا الموضوع بالذات عقب الثورة، قد استعرض جوانب الإساءة التي جوبها بها الحبيب بورقيبة من طرف أزلام بن علي أيام شقاوته العسكرية.
و يتطابق هذا الأمر من حيث مبدأ –الطمع السياسي- فبن علي لم يكن يوما ما مناضلا في الحركة الوطنية، بل كان ابنا –دوليا يتيما- تكفلت القوى العظمى بتربيته، وحولته إلى جهاز شفط، تمتص به سياسة تونس الداخلية لتجعل منها مستعمرة سياسة بتعلة منطق –الكوسموبولوتية- أو المواطنة العالمية.
كل هذا يندرج بالطبع فيما يسمى بالهيمنة القُطبية ونشر المشروع القطبي الواحد وذلك لم يكن ليتحقق لولا الرجالات –المناذلة- من أمثال –بن علي-.

ثورة 14 جانفي وتراجع استحقاقات التركيبة البديلة

كُلها أيضا مشاهد تتكرر بتكرر الأحداث التي تطرأ على تونس، فاليوم نفس الألاعيب تُمارس ونفس الصراعات تُنشأ من جديد، فبعد الغضب الشعبي الذي احتدم بالبلاد والذي سقط بمقتضاه رأس النظام دون أطرافه، عرهت الأحزاب التي كانت تحلم بالسدة الذهبية التونسية إلى بسط نماذجها التي تباينت بين كل حزب وآخر.
فمنها من بسط النموذج البرامجي الاعتدالي والذي قام على التوسع من حيث البنى التنموية، والعدالة الاجتماعية ونشر الحريات العامة والدفاع عن الحريات الشخصية، للارتقاء بالبلاد إلى أحسن حال، ومنها من سلطت رحمتها-على قلوب المؤمنين- ودعتهم إلى فُسحة جميلة بين أروقة روحانية وابتهالات برزخية مجيدة.
والحال أن المواطن التونسي وفي غمرة غضبه من النظام السابق بدأ يُهمل لا شعوريا فكرة مشروع بناء الدولة الحديثة والمعاصرة التي تبناها –اللاهوت الأحمر- في تونس منذ الاستقلال، ورأى لنفسه ضرورة مُلحة تستدعي التغيير العاجل في نمط الحكم وأيضا في نمط العملية الاتصالية بين المحكوم وحاكمه.
وانطلاقا من الرؤية العلمية التي تقول بان النفس البشرية في لحظة انفعالها تكون تواقة إلى ما يزيد انفعالها أكثر، كانت ردة فعل الشعب التونسي واضحة قبل فرزها من الصناديق، فلم يعد الشعب يقتنع بتلك الخطابات البرامجية والتنموية وأصبح يراها كذبة سياسية بعد أن روَّج لها حزب حكم تونس أكثر من 56 سنة، وبدأ يُصور لنفسه –الشعب- صورة تختلف خطوطها على حسب اختلاف رغبات وميولات أفراده.
ومن هنا فـُتـِّحت –جنة النهضة- أمام التونسيين، وطفقت الحركة تروج لمبدأ الدفاع عن الدين الإسلامي الحنيف، ومن الغباء السياسي طبعا أن تُفرط الحركة في هذه الفرصة الثمينة التي حلمت بها منذ تأسيسها مع أخواتها في المنطقة العربية، ولم ترضى لنفسها إطلاقا أن تبقى مُجرد -لوبي ديني- يُمارس ضغوطه على حاكم آخر دونها.
ووفق المنطق السياسي لا مانع من ذلك أبدا فلكل حزب سياسي مصالحه وطموحاته في أن يُمسك ولو لفترة وجيزة –حكم البلاد- ، فحتى وان كانت تجربة صعبة وذات الكثير من المسؤولية إلا أنها تبقى تجربة شيقة تتطلب المُجازفة.
وما يُفسر عدم فشل الممارسة السياسية لحركة النهضة في فترتها الانتخابية، هو اقتناعها الراسخ بأنها تنشط في خضم –ثورة نفسية- عند المواطن التونسي و تدخل في نطاق مرحلة-تغيير سلوك- عميقة، وهذا ما حصل بالفعل فبعد أن كانت حريصة على لعب دور إسقاط النظام بدأت اليوم حريصة على البقاء فيه، بعد أن تمكنت وأخيرا من إقناع الشعب النفسي بجدواها.
ونسي زعماؤها تلك الأيام العضال التي عانوها في " أقبئة " وزارة الداخلية بل أكثر من ذلك، فقد امتدت علاقاتها الخارجية لتُصبح رائدة في صنع القرار بالمنطقة العربية القريبة منها والبعيدة، و المثال على ذلك – تدخلها في الملف السوري-.
تغير خطابها بين لحظة وثوانيها، من خطابات فردوسية إلى خطابات تنموية قد لا تفقهها بسبب انتمائها للجلباب الروحاني، وأيضا من تصريحات تُنادي بعدم المساس بالدين الإسلامي والهوية العربية، إلى أخرى تدعم الحرية الشخصية واعتناق مذهب –كل شخص حر ويفعل ما يشاء في المناخ الديمقراطي-.
وكانت الضربة القاضية والدليل القاطع على كل هذا الكلام ما حصل مؤخرا في تونس، حين أعطت أوامر صريحة لقواتها الأمنية تقضي بمُجابهة المواطنين بالغاز المُسيل للدموع، لتُفصح بذلك عن مبدأ –القليل من الديكتاتورية- الذي يتعارض والشعارات الفضفاضة التي نادت بها في السابق.
وحتى و إن كان لخروج المواطنين منهج سياسي واضح فلا مانع من أن تجعلهم يتظاهرون، فهذه نعمة ثورية مُهداة لا تُجابه بالقوة و إنما بالعمل الفعلي والروح التواصلية السمحة لبناء تونس الفاضلة، ولإقناع الشعب بأنها الأجدر لمسك مقاليد الحكم في البلاد.
من الواضح جدا إذن أن -ناموس الحكم- له من الميزات ما يجعل المواطن الشعبي يندم لاختياره النهضة في يوم ما، ولكن هذا الناموس لن يتبدد ما دامت السياسات الداخلية للبلدان العربية تُرسم بمُخططات –إدارة مراكز الضغط الأمريكية-.
ولنقل إذن وداعا لمنطق السيادة الوطنية ومرحبا بنا في القرية الأمريكية -التي يكاد بخورها يتصاعد لو لم تمسسه نار-.


• كاتب وناشط صحفي تونسي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوضاع مقلقة لتونس في حرية الصحافة


.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين: ماذا حدث في جامعة كاليفورنيا الأ




.. احتجاجات طلابية مؤيدة للفلسطينيين: هل ألقت كلمة بايدن الزيت


.. بانتظار رد حماس.. استمرار ضغوط عائلات الرهائن على حكومة الحر




.. الإكوادور: غواياكيل مرتع المافيا • فرانس 24 / FRANCE 24