الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة

عادل بن زين

2012 / 4 / 14
الادب والفن


كلام على كرسي بارد

الكل قد تنكر له، فلا الشوارع تعرفه، ولا الأشجار، ولا الأزقة المظلمة، ولا المقاهي المتراصة على جنبات الشوارع كالفطر...غريب على الدار...حتى الوجوه التي ألفها ترمقه بنظرة شزراء من دون رحمة. زمن موبوء من الرأس حتى أخمص القدمين. الناس تجري...وتجري...وتجري...وهو كالكلب المنتوف في زحمة المدينة المقصوفة بالنار والكبريت... هكذا، كان يسيل دفق من الأفكار المتورمة من جمجمته.
انتحى يوسف مقعدا قصيا في الحديقة العمومية، وراح يرشق الذات بحجارة من سجيل، في جلد شوفيني، يود أن يتخلص من هذا الركام العطن من العرق والوحدة. ينفصل عن الموضوعات الحسية، عن الأوباش، عن الكراسي، عن الخصور والسرات التي راحت تجتاح المدينة مع الغروب. يستقل عربته المزركشة التي يجرها حصان أخضر، سابحا في ملكوت الغمام، هائما بلا مجداف، يمخر عباب بحر وهمي إلى سدرة المنتهى.
"آلو...نور الدين...يا ربي إنه ليس هو... أنت...؟" هكذا باغته صوتها من الضفة الأخرى منسابا، فراح يوجه لها طعنات في الجنب، ويتلف النصل حيث موطن الرعب، والارتعاد، آلاف المرات في خياله، لكن ما من دماء مسفوحة، وما من صرخات تمزق كبد الصمت، فقط ضجيج ركام من الأفكار تستبيح الذاكرة.
"المنتوفة، السافلة، البشعة، ما الذي جعلني أركب رقم هاتفها؟"، بمثل هذه الأوصاف أخذ ع ب يقتل الغضب الذي يستوطنه. وفجأة، يسقطه متسول من عربته من السماء إلى الأرض سقوطا خرافيا... يرمقه بنظرة شزراء، ويقول في نفسه كاظما غيظه: "ما الفرق بيني وبينك أيها الشبح؟ ربما في جيبك بعض الدراهم، لكني لا أملك سنتيما".
امتطى الشبح أقدامه وغاب بين الأجساد، بينما عقارب الساعة تقترب من السادسة. يمر الوقت بطيئا مثل كسيح خانته ساقاه. تتقاطر الأجساد على الحديقة بعنف أفواجا... أفواجا... والمقاهي غاصة بمرتاديها. غمغم ع ب في نفسه قائلا: "في نفسي رغبة عارمة في أن أحتسي فنجان قهوة، وأن أضع رجلا على رجل كما يفعل ذاك السيد، لكن جيبي يعوزني، عندما يصبح جيبي وسيما لن أتردد في تحقيق كل أمنياتي، أما الآن فأؤجل ذلك إلى أجل غير مسمى، فلأرسلها إلى منطقة اللاشعور لتختمر".
أضحت الحديقة متخمة بالأجساد المتنوعة التفاصيل، ورجل مقابل ل يوسف منتوف مثله، وجهه محروق من أثر الكدح، وذقنه مثخن بشعيرات بيضاء نبتت قبل الأوان، وعيناه لا تكفان عن التلصص على فتحة الصدر لامرأة تنز شهوة. وغير بعيد عن الحديقة ربضت "محلبة عثمان" بكل شموخ، يرتع أمام بوابتها قطيع من المتسولين. قال يوسف في نفسه: "ماذا لو أنضم إليهم بكل تفاصيل عاهاتهم؟".
أعرف أن يوسف يمر اليوم بأزمة خانقة، يعيش فراغا روحيا قاتلا، وفراغا عاطفيا فضيعا، ينزل من فمه فيض من الفحش، وعندما اختلي به لا يحدثني إلا عن أيام الكلية بحركات يدين تشبهان أستاذ مادة السيميائيات. قال لي في لحظة مكاشفة: "كنت إذا وجدت كتابا لا أتركه إلى إذا أتيت عليه، واليوم إذا حدثت زملائي في مركز التكوين المهني عن "مدن الملح" لعبد الرحمان منيف، أو "الإخوة كارامازوف" لفيدور دوستويفسكي ... يقولون إن صاحبنا منفصل عن الواقع، طوباوي، ومتكبر".
قد يبدو للبعض هذا الكلام ضربا من السخف أو حماقة، لكن حين كنت ألج مع صاحبنا عتبة البوح على إيقاعات ماجدة الرومي، يكسر هالة الصمت والشرود التي تطبعه، ويخلخل تصورك القبلي. قال لي ذات ليلة: "هذا ليس زماني، زماني ولى من غير رجعة، ومدينة الفقيه بن صالح عجوز هرمة، مسكونة بجنيات اسمهن: الخمرة، والمرأة، والهجرة...وأنا أعيش حالة تشرذم في الذات والذاكرة والعالم، أعيش حربا لا وجود لها إلا في ذاكرتي المشروخة".
الحديقة مطفأة العينين، والأشجار جذور خاوية من كل نصغ وجودي. يسقط الليل بطيئا على الكائنات، والإسفلت جسد محنط القفا. يجمع يوسف أشلاءه المتلاشية، ويركب أقدامه المعطلة ليبدأ جولة جديدة في مدارات المدينة المتربة، تاركا للحديقة وروادها شيئا من وجود منسي فوق أحد الكراسي الباردة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية